أميركا وسؤال الفردية (2)

اميركا
يأتي هذا المقال بعد زيارة لولايتي واشنطن ونيويورك إثر مشاركة مديرة تحرير الموقع جنى الحسن في برنامج International Visitor Leadership Program والذي تمركز موضوعه الرئيسي حول المرأة في السياسة والحياة العامّة. وينشر على عدة أجزاء، هنا الحلقة الثانية منها.

ربما أسوأ ما فينا، كلبنانيين، هو طغيان مفهوم الجماعات على حياتنا كأفراد. هذه الهويات تردم آفاقنا للتطوّر. لماذا هذا الشعور العالي بالفردية هنا، أسأل دليلنا السياحي الذي وفد من غير بلاد ووجد نفسه هنا على حدّ قوله. يشرح أن الوافدين إلى أميركا، أرض الفرص والأحلام، شيّدوا بيوتهم بأيديهم من دون أيّ مساعدة، وبالتالي نشأوا مع شعور بـ”الاستغناء”، أيّ أنّهم هم من بنوا ولم يرثوا شيئاً عن أسلافهم. هذا ما جعلهم أقوياء. لا يعتبر الدليل السياحي أنّه كان هناك هوية جماعية في وقت ما. لكن البلاد أيضاً تبدو منقسمة عرقياً بين السود والبيض. الملفت أنّ أميركا بناها تقريباً أيضاً أفراد، تقتفي آثارهم في الشوارع، رؤساء سابقين لهم سير فريدة ولكل منهم آلاف الحكايا. لكلّ مبنى حكاية، وحكاية البيت الأبيض مثيرة للاهتمام، من انتقاله إلى مكان مفتوح لعامة الناس، حيث كانوا يأتون للاحتفال فيه والاستمتاع بالطعام والشراب. كان ذلك لكي لا يشعر الرئيس بأيّ نوع من الفوقة، أو بأنّه أفضل من سائر الناس.

أميركا
مع الوقت، ولأنّ كل أميركي غاضب أو مغرم او لديه اعتراض ما، وجد أن الطريقة الأمثل للتعبير عن فكرته وإيصال رسالته كانت من خلال اغتيال الرئيس، وبالتالي أن يصبح له منبر إعلامي ويتحول إلى محط اهتمام ووجهة الأضواء، كان لا بدّ من قليلٍ من الأمن والحماية. فإذا أراد مواطناً أميركي عاديّ مثلاً مهووس بامرأة ما، أن يثبت لها مدى حبّه، كان ليحاول ان يغتال الرئيس. تبدو الفكرة مضحكة لكنها واقعية. ما حدث أن البيت الأبيض بات محاطاً بالأسوار والحماية، وما يفعله الرئيس الأميركي باراك أوباما الآن حين تنقله، على متن طائرة خاصة معظم الوقت، هو تسيير طائرتين عاموديتين (هليكوبتر) يطيران باتجاهات معاكسة، يكون هو على متن واحدةٍ منها. ولكن لا أحد يعرف أيّاً منهما. في وقت لاحق، نرى الطائرتين تحلّقان ولا نعرف أيّاً منهما تحمل “أوباما”.
هناك أيضاً على بعد مسافة قصيرة من البيت الأبيض، المبنى الرسمي الذي يستضاف فيه الرؤساء أثناء زياراتهم إلى الولايات المتحدة. خارج البيت الأبيض أيضاً “جارة الرئيس”، المرأة التي تدعى “كونسيبسيون بيشوتو” وتطلق على نفسها اسم “مارتن” أو “كوني”. لم تكن “كوني” هناك أثناء مرورنا، اكن مندوبها، الرجل الآسيوي، أبقى خيمة الاعتصامات التي تسكنها منذ 33 عاماً، أي سنة 1981، حيّة.
يتناوب هو وهي وآخرون على الاعتصام اعتراضاً على قضايا مختلفة، ومن ضمنها القضية الفلسطينية. الخيمة مزينة بالشعارات واللافتات ومن ضمنها ما يشير إلى المجزرة الأخيرة في غزّة وحجر مطلي بألوان العلم الفلسطيني وتتوسّطه الكلمة “فلسطين”.
هاجرت “كوني” من إسبانيا الى الولايات المتحدة عندما كانت في 18 من عمرها، بدأت نضالها من أجل العدالة والحرية بعد طلاقها وفقدانها أهم شيء في حياتها، ابنتها. يتبدل الرؤساء و”كوني” وحدها هناك، ليلاً نهاراً، وتطالب بحظر انتشار الأسلحة. يقول الرجل إنّهم لا يستطيعون ترك “الخيمة” ولو للحظة لأنّ الشرطة ستزيلها. فماذا تمثّل “كوني” فعلاً؟ الديموقراطية أو لا جدوى الاعتراض؟
في العودة إلى أسئلة السلطة والفردية، يشرح الدليل السياحي أيضاً أن المباني الرسمية هي الأبشع من الناحية العمرانية، ألوانها باهتة وكئيبة، أيضاً لعدم إغراق المسؤولين بالترف وتجنباً لمساوئ السلطة المطلقة. لكن هي السلطة، مطلقة أو لا، كئيبة أو مبهرجة، هي الداء المستحفل أينما كان.
يتبع…

السابق
واكيم: لحكومة محايدة وانتخابات نيابية فتأليف حكومة ودستور
التالي
حوار «المستقبل» – «حزب الله» في 29 الجاري