وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: شركاء أميركا.. أعداؤها الأَلِداء

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

تسريب الرئيس نبيه بري بأنه يرجح أو بالأحرى يفضل مبادرة الموفد آموس هوكشتاين الأمريكية على المبادرة الفرنسية، لمعالجة ازمة الحدود بين “حزب الله” وإسرائيل وتنفيذ القرار 1701. هذا التسريب ليس عبثياً أو فلتة لسان، بل هو مقصود، ليعبر عن أمرين:

أولهما أنه تعبير عن واقع فعلي، وإقرار ضمني من الرئيس بري وحليفه “حزب الله”، بأن الولايات المتحدة هي الممسك الوحيد بقواعد اللعبة السياسية في منطقة الشرق الأوسط، وأن أي حل لا يمر عبرها وبرعايتها، فاقد لأية ضمانة أو استمرارية أو حتى قابلية تنفيذ.

ثانيهما: رغبة من “حزب الله” ومعه إيران، في انتزاع الاعتراف الأمريكي بدورهما الإقليمي والمحلي (اللبناني). وهذا يستلزم بنحو ضمني رغبة بالإنضواء تحت المظلة الامريكية، لا بمعنى الحليف، بل بمعنى الشريك الجزئي لتوازنات المنطقة. أي شريك يفرض شروطه، لكنه في نفس الوقت يقايض شروطه بالاعتراف بالدور الامريكي، بصفته الراعي الحصري للمنطقة، والمنظم للتوازنات، والمحدد لقواعد الاشتباك في ظرفي الحرب والسلم.

الذي يدعم هذا التصور، هشاشة وضعف الدور الفرنسي نفسه

الذي يدعم هذا التصور، هشاشة وضعف الدور الفرنسي نفسه، لا لجهة صوابية طروحاته أم خطئها، جدتها أم عدم جدواها، إنما لجهة أن فرنسا لا تملك القدرات والإمكانيات الكافية، لترعى أي اتفاق أو حل، أو توفر ضمانات لنجاحه. ففرنسا فقدت أكثر مقومات الحضور والنفوذ في المنطقة، ولم يبق لها سوى بقايا من الروابط الثقافية واللغوية، التي تجمعها بمؤسسات مدنية وأكاديمية. أضف إلى ذلك، أن الدبلوماسية الفرنسية راكمت رصيداً معتبراً، من التخبط الدبلوماسي في الكثير من الملفات: أولها في معالجة ملف انفجار المرفأ، لجهة التساهل مع المشتبه بهم، وغياب الدعم الكافي للتحقيق القضائي. ثانيها في إدارة الملف الرئاسي، لجهة انحيازها إلى محور الممانعة، في تبنيها ترشيح سليمان فرنجية. ثالثها التمايز عن الولايات المتحدة في العلاقة مع النظام الإيراني، الامر الذي خلق تباينا في المعسكر الغربي، ووفر للنظام الإيراني هامش مناورة واسعة.

يكاد الدور الفرنسي يقترب، بنظر العديد من المراقبين بخاصة الأمريكيين، من أن يكون دور تطفل لا دور حضور

جميع هذه المعطيات، أفقدت فرنسا الأهلية في تدبير أو معالجة ملفات كبرى، سواء أكان تنفيذ القرار 1701، أو قضية اللاجئين السوريين، أو حرب غزة. بسبب عدم الرضى الأمريكي بخروج أي ملف في الشرق الأوسط، من دائرة تأثيرها ونفوذها من جهة، وبسبب الاستجابة الفاترة من الافرقاء المتخاصمين والمتصارعين في المنطقة، تجاه أية مبادرة فرنسية. بحيث يكاد الدور الفرنسي يقترب، بنظر العديد من المراقبين بخاصة الأمريكيين، من أن يكون دور تطفل لا دور حضور وفاعلية وتأثير.
هذا يفسر لنا السلوك الإيراني في المنطقة، الذي لا يهدف إلى إخراج الأمريكيين، لا لانه لا يريد ذلك، بل لأن ذلك غير ممكن. لذلك يعمد إلى تعزيز مواقعه وتحسين شروطه، لينتزع لنفسه مساحة اعتراف أوسع، وقدر نفوذ أعمق في خارطة التوازنات الجديدة، التي بدأت بالتشكل. ويفسر حرص “حزب الله” على التفاوض مع الأمريكيين، عن طريق وسيطه المعتمد في لبنان.

هي مفاوضات يحقق من خلالها أمرين: أولهما انتزاع اعتراف ضمني من الامريكيين بدوره ونفوذه، ولو من الناحية الواقعية والموضوعية، وليس القانونية أو المبدئية. حين يحصل “حزب الله” على هكذا اعتراف من الأمريكيين، فإنه يكون قد ضمن اعتراف العالم بأسره به. ثانيهما، أنه لا يعود بحاجة إلى غطاء محلي أو تحالفات محلية، مسيحية أو سنية، لإثبات فعاليته ونفوذه في الداخل اللبناني، مثلما فعل في السابق بتحالفه مع ميشال عون، بل بات فائض القوة قابلاً للتوظيف الإقليمي والداخلي وعنصراً محفزاً للقوى الإقليمية والدولية، لعقد صفقات وتسويات مع الحزب. لهذا لم يعد يبالي “حزب الله” مؤخراً، بالعزلة التي يعانيها عن مكونات المجتمع اللبناني، وعدم اكتراثه باعتراض أكثرية المكونات اللبنانية، على ربط النزاع في الجنوب مع حرب غزة.

سياسة الاحتواء الذي يعتمدها الأمريكيون تجعلهم يركزون على كلية المشهد والتعامل بواقعية

سياسة الاحتواء الذي يعتمدها الأمريكيون، تجعلهم يركزون على كلية المشهد، والتعامل بواقعية وبراغماتية مع العناصر الفاعلة والمؤثرة فيه. هي سياسة تفصل بين المبادىء والقيم الرافعة للمنظومة الغربية من جهة، وبين صناعة السياسات من جهة أخرى. تجعل الحياة السياسية لعبة الاقوى مهما كانت وضعيته الأخلاقية والقيمية. بهذا الاعتبار يكون أهم شركاء الولايات المتحدة السياسيين هم أعدائها الأَلِدَّاء.

هو سلوك لا أقول عنه أنه انقلاب على قيم الحداثة والعقلانية فحسب، بل خروج عن فلسفة البراغماتية الأمريكية التي أسسها وليم جايمس ومن بعده جون ديوي، والتي اعتبرت قيمة الاشياء لا في مردودها النفعي أو المادي الخالص، بل في مردودها الإنساني والأخلاقي.

السابق
بالفيديو: اسرائيل تُلهِب الجنوب.. غارات واصابة دموية!
التالي
تطور إيجابي.. وقف اطلاق نار بين اسرائيل و«الحزب»؟!