وجيه قانصو يكتب ل«جنوبية»: رد إيراني ناعم فوق غزة المنكوبة

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

وجهت إيران سرباً كبيراً من الطائرت الموجهة، وعدداً معتبراً من الصواريخ متوسطة المدى إلى إسرائيل. جاء هذا كرد على الضربة المؤلمة، التي وجهتها إسرائيل باغتيال قائد حرسها الثوري في سوريا، والاعتداء على السيادة الإيرانية بتدمير قنصليتها في دمشق. لم يكن الرد الإيراني بحجم الضربة الإسرائيلية، سواء أكان من الناحية المادية أو البشرية أو المعنوية. بل كان المشهد الدروني-الباليتسي، أقرب إلى مشهد كرنفالي واحتفالي، أكثر منه مشهد حرب واقتتال وثأر وتدمير. بالتالي، لا يمكن تصنيف ما فعلته إيران، أنه انتقام وعقاب لإسرائيل، بقدر ما حمل الرد رسائل ذات دلالات متعددة ومتنوعة، تصب جميعها في القراءة السياسية، لا التحليل الميداني أو العسكري. 

كان المشهد الدروني-الباليتسي أقرب إلى مشهد كرنفالي واحتفالي أكثر منه مشهد حرب واقتتال وثأر وتدمير

أولى هذه الرسائل، هي أن إيران قادرة على الوصول إلى العمق الإسرائيلي، كماً ونوعاً، عبر توفر عدد كبير من الطائرات المسيرة الانتحارية، والصواربخ الباليتسية ذات القدرات التدميرية العالية. هي رسالة ذات طابع ردعي، غرضها إقامة قواعد اشتباك بين إيران وإسرائيل، تتمثل بحصر المواجهة إيران وإسرائيل لا بالمباشر، وإنما عبر وكلاء إيران المعتمدين في المنطقة العربية. 

أولى هذه الرسائل هي أن إيران قادرة على الوصول إلى العمق الإسرائيلي كماً ونوعاً

أي إن إيران كدولة، لا تريد حرباً مباشرة ضد إسرائيل، ولن تورط نفسها في أية مواجهة، مقابل عدم اعتداء إسرائيل عليها. هي معادلة تريح إيران، بأن تحيدها عن التداعيات الأمنية المدمرة، والآثار الاقتصادية المنهكة للحروب المباشرة، وتجنبها العقوبات والحصار الدولي عليها. وفي الوقت نفسه، تبقي المواجهة مفتوحة عبر وكلاءها الذين ينفذون المهمة عنها، ويدفعون الاثمان الغالية للقيام بهذه المهمة. بالتالي تكون الاثمان من غيرها والاستثمار السياسي والمعنوي لها.

 قد تقبل إسرائيل بهذه المعادلة لسببين: أولهما أن إسرائيل يهمها حصر المواجهات العسكرية ضمن نطاق جغرافي ضيق. ثانيهما أن إسرائيل عاجزة لوحدها عن فتح جبهات على نطاق واسع، وتحتاج إلى دعم وإسناد كامل من الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا غير متوفر حالياً، بحكم التباين بين الذهنية الإسرائيلية والذهنية الأمريكية  في إدارة النزاعات وحلها في المنطقة. طبعاً لهذا تداعيات خطرة، وهي أن إسرائيل ستصب جام غضبها على وكلاء إيران وتتفرد بهم، من دون تدخل أو إسناد إيرانيين، ويجعل لبنان بجنوبه وشعبه، المرشح الأول لدفع هذه الفاتورة المكلفة.

إيران كدولة لا تريد حرباً مباشرة ضد إسرائيل ولن تورط نفسها في أية مواجهة مقابل عدم اعتداء إسرائيل عليها

أما الرسالة الثانية فهي رسالة تطمين إلى الولايات المتحدة، بأن إيران لن تكسر توازنات المنطقة،  ولن تخلخل استقرارها، ولن تحدث تعديلات جيوسياسية، ولن تتعدى على حلفائها بمن فيهم إسرائيل. لكن الصفعة القوية التي تلقتها من إسرائيل، كان لا بد من رد اعتبار معنوي، ليحفظ النظام الإيراني سمعته أمام شعبه وحلفائه. بالتالي اتخذ الرد طابعاً مسرحياً استعراضياً، وشُنَّ بطريقة تضمن عدم إحداث خسائر بشرية، أو أضرار تذكر في المنشآت. وهي رسالة على ما يبدو تقبلتها الولايات المتحدة، وسعت إلى إقناع إسرائيل بها. بل يبدو أن سيناريو الرد الإيراني، كان معلوماً بشكل مسبق من إسرائيل والولايات المتحدة، وهو ما يفسر الجهوزية والقدرة، على إسقاط تسعة وتسعين بالمئة من المسيرات والصورايخ، قبل أن تصل أراضي الدولة العبرية. ويفسر أيضاً رد الفعل الهادىء والمتزن، من إسرائيل وإدارة الرئيس الأمريكي. 

إسرائيل ستصب جام غضبها على وكلاء إيران وتتفرد بهم من دون تدخل أو إسناد إيرانيين

أما دلالات هذا الحدث، فعديدة: 

أولها: أن إيران تتصرف ببراغماتية فاقعة. هي من جهة، تحرص على إبعاد أي اشتباك مباشر ضد خصومها، وعلى تحييد اراضيها ومنشآتها ومؤسساتها. أي تتصرف كدولة ذات سيادة وشبكة مصالح، تحرص على عدم المساس بهما. وهي في الوقت، نفسه تنشىء تنظيمات عسكرية تابعة لها في دول عدة، تخوض الحروب والمواجهات عنها، وتتسبب بانتهاكات جلية لسيادة هذه الدول، وتحميلها أعباء مالية وبشرية لا تتحملها، مثلما يحصل حالياً في لبنان والعراق واليمن وحتى فلسطين وسوريا.  

إيران تتصرف ببراغماتية فاقعة

ثانيها: أن إيران تنشىء معادلة الحرب بالوكالة، لتكون هي المستثمر النهائي والأخير لتداعيات الأحداث. هو استثمار مربح إلى حد بعيد، نلمسه في مفاوضات الملف النووي، وفي مسارعة الولايات المتحدة إلى التنسيق الضمني معها، للحفاظ على استقرار المنطقة، وفي حرص الدول المحيطة بها، بخاصة دول الخليح على تجنب الصدام معها. 

ثالثها: أن القضية الفلسطينية كانت وما تزال، مادة توظيف سياسي وأيديولوجي بالنسبة لإيران. فدعم فصائل جهادية لا تتوانى عن خوض مواجهات متهورة، يتم على حساب الكيان السياسي الفلسطيني. هذا الكيان مهما قيل في تخبطه وضعفه وحتى فساده، إلا أنه أهيميته تكمن، في كونه منطلقاً أساسياً للشرعية السياسية، داخل المجال الفلسطيني، ومدخل للتعامل مع القضية الفلسطينية لا كشعب مشرد، بل ككيان سياسي معترف به عربياً ودوليا. بالتالي فإن الدعم الإيراني بهذه الطريقة، لا يخدم المشروع الفلسطيني، بل يفجر بداخله التناقضات والخلافات، ويقوض فكرة الكيان السياسي الجامع، لتتحول القضية الفلسطينية، إلى مجموعة تنظيمات عنفية ومبادرات سياسية وأمنية مرتجلة، قد تحقق إنجازات أمنية متفرقة، لكنها تسهم بالمقابل، في تعميق الانقسام الداخلي وتفتيت القضية، وغياب الأطار الجامع والموحد للشعب الفلسطيني. القضية الفلسطينية هي قضية شعب وأرض ودولة، قبل أن تكون قضية استعادة أو تحرير المقدسات.

إيران تنشىء معادلة الحرب بالوكالة لتكون هي المستثمر النهائي والأخير لتداعيات الأحداث

رابعها: أظهر الرد الإيراني عدم الجدية والصدق الكافيين في دعم أهل غزة، الذين تجاوز عدد ضحاياهم في الحرب الأخيرة، أكثر من أربعين ألف فلسطيني بريء. فالقدرة الإيرانية على إحداث إرباك أمني لدى إسرائيل، كان واضحاً وجلياً، وكان بالإمكان توظيف هذه القدرة للضغط على إسرائيل، والحد من المجازر الإسرائيلية. في حين اكتفى النظام الإيراني بالرد،

لحفظ ماء وجهها مع ترك أهل غزة لمصيرهم المؤلم.   

خامسها: أظهر الرد الإيراني الازدواجية الفاضحة، بين الأداء البرغماتي من جهة، وبين الخطاب الأيديولوجي والتعبوي ذي الطابع الشعاراتي من جهة أخرى. ما يدل على خواء الكثير من الشعارات والأهداف التي تُطلق، مع غياب تام لمقومات موضوعية وواقعية، تجعل تحقيقها ممكناً.

لبنان وجنوبه وأهله هم الضحية الأكثر تضرراً من حرب الوكالة عن إيران

سادسها: أن لبنان وجنوبه وأهله، هم الضحية الأكثر تضرراً من حرب الوكالة عن إيران. حيث لم يَجْنِ جميعهم من حرب “الإسناد والدعم”، سوى ضحايا ودمار وتهجير، وانهيارات داخلية بالجملة في الاقتصاد والسياسة والمؤسسات، فضلا عن الانقسامات الجدية والخطيرة في الداخل، الناجمة عن فتح الجبهة الجنوبية في لبنان، من دون أن يقابل ذلك أية إيجابيات ملموسة، توازن حجم التضحيات الكبرى، التي يدفعها لبنان وأهله. ورغم ذلك يصر وكيل إيران المعتمد في لبنان، على المضي بهكذا مواجهات، لا لأنها تخفف الضغط عن أهل غزة، ولا لأنها تحصن لبنان داخلياً، وإنما لغرض أن يكون للنظام الإيراني الكلمة الفصل والقول النهائي، في تقرير مصير لبنان وتحديد وجهة مستقبله.    

السابق
خليفة يدعو 10 نواب للتوقيع على عريضة طرح الثقة بأداء بري
التالي
توقيف المشتبه بتنفيذهم جريمة العزونية!