تاريخ النهضة في جبل عامل: رضا التامر خريج السوربون يخترق القضاء ويحوز المناصب (9)

رضا التامر
سجّل التاريخ في مطلع القرن العشرين نهضة أدبية علمية شهدها جبل عامل، كانت صدى لصوت النهضة العربية التي شهدتها مصر وبلاد الشام في ظلّ الحكم العثماني والانتداب الفرنسي لاحقا، وقد كان لتلك النهضة رجالاتها ايضا الذين نبغوا وتعلّموا ثم علّموا وكتبوا وألّفوا، وبذلوا الغالي والنفيس، وبعضهم تحمل الاضطهاد والسجن، ولم يفتّ كله من أعضادهم، ونجحوا بالنهاية في بعث النهضة وتوريثها للاجيال اللاحقة. وينشر موقع جنوبية على حلقات ملفّا يحاكي هذه الحقبة ويسبر أغوارها، لا سيما منها ابراز شخصيات كان دورها حاسما في بعث تلك النهضة، لم يجر ذكرها مطلقا في كتب التاريخ التربوية، ولو انه جرى المرور على نشاطها السياسي الادبي لماما في عدد من المؤلفات التي بقيت قاصرة عن إيفاء هؤلاء حقوقهم.

كان طلب العلم في الربع الاول من القرن العشرين في جبل عامل جنوب لبنان، عزيزا على عامة الناس بغياب المدارس الحديثة واقتصارها على الكتاتيب، وكانت طبقة المتعلمين والمثقفين تقتصر على ابناء رجال الدين واولاد الزعماء والوجهاء ، ومنهم آل التامر وهم فرع من ال علي الصغير(الأسعد) حاكم صور، وجدهم وثامر السلمان الذي عاصر علي بك الاسعد، هما أبناء عشيرة واحدة.

أول خريج من السوربون

رضا محمد بك التامر ولد عام 1906 والده محمد بك التامري حرص على استكمال لتعليم ولده، فأرسله إلى فرنسا لينال شهادة الحقوق من جامعة السوربون فكان اول شيعي عاملي، تسوقه خطاه الى باريس ليُحصّل من جامعتها شهادة عالية.

عاد رضا بك من فرنسا حاملا شهادة الحقوق، وشقّ طريقه في سلك القضاء اللبناني ليكون من أبرز رجالاته، بعدما عين سنة 1934 قاضيا بمحكمة بيروت البدائية المختلطة، واستمر رضا بك في سلك القضاء نحو ربع قرن حتى رقي إلى درجة مستشار من الدرجة الأولى في محكمة التمييز، ثم عين محاميا عاما لدى المحكمة نفسها، ليعين بعدها عضوا في المجلس العدلي وأخيرا أعيد مفوضا للحكومة لدى مجلس الشورى .

عاد رضا بك من فرنسا حاملا شهادة الحقوق وشقّ طريقه في سلك القضاء اللبناني ليكون من أبرز رجالاته

كان عضوا في المصلحة الوطنية لنهر الليطاني، وانتدب لدرس مشاركة المغتربين اللبنانيين في تمويل المشروع، وأسس بيت المغترب اللبناني. كما رشح للوزارة في عهد الفرد نقاش سنة 1942 في حكومة سامي الصلح. وفي سنة ١٩٥٧ غادر رضا بك سلك القضاء وانصرف إلى مزاولة المحاماة، فكان له مكتب كبير حتى وفاته عام 1975.

يقول ماجد التامر في مدونته: أقبل رضا بك على خدمة أهله في الجنوب واللبنانيين عامة بحب وعشق دون كلل أو ملل، خاصة أن إقامته في العاصمة بيروت جعلته قريبا من دوائر صنع القرار ، بل كان مشاركا في قرارات عدة.

اقرأ أيضاً: تاريخ النهضة في جبل عامل : أدباء وشعراء جنوبيون كرّسوا حياتهم للتربية والتعليم(7)

بذلك يكون رضا بك التامر هو أول عاملي شيعي يسافر إلى باريس ويحصل من جامعتها على شهادة عالية. ويكون أيضا أول المنتظمين من شيعة جبل عامل في سلك القضاء اللبناني، وتكون زوجته الفرنسية التي تزوجها اثناء دراسته في باريس، أول امرأة أجنبية تترافع أمام المحكمة العسكرية اللبنانية وأول أجنبية تعمل بالقضاء اللبناني.

وذكر ان التامر «كان مقرّبا من الرئيس كميل شمعون اثناء ولاية الاخير، وقد اورثه ذلك نهب منزله في بيروت بأيدي المليشيات خلال فتنة 1958، كما خرّبت ايضا ونهبت مزرعته «التامرية»، وهي حصته من ارض «تولين»، وكانت قد تحوّلت الى شبه مزار سياحي في الجنوب لفرط عنايته بها.

خلال مراسم تشييع رضا بك، صرح رئيس مجلس النواب الاسبق دولة الرئيس عادل بك عسيران، والذي كان وزيرا للداخلية حينها وكان موفدا من القصر الرئاسي لحضور مراسم الدفن، أن رضا بك التامر حاز من الدولة على معظم الأوسمة، مما مثل مشكلة في القصر في البحث عن وسام يمنح له، فلم يكن في النهاية أمام القصر إلا منحه وسام الأرز الوطني من رتبة ضابط أكبر.

ذكريات رضا التامر

في كتابه ذكريات رضا التامر يروي رحلته في الحياة، مذ كان حدثا يافعا حيث ساقته الأحداث ليتزوج وهو في مدارج الصبا، ثم يروي تشرّده مع والده عن جبل عامل إبان حملة الفرنسيين على جبل عامل، ودخوله القرى العاملية بعيدا عن أعين المستعمرين، ثم يأخذنا في رحلته إلى فرنسا التي درس فيها الحقوق وعاد منها متزوجا بإمرأة أجنبية، وكيف كانت ردّة فعل والده محمد بك التامر، وبعدها يدخل سلك القضاء ليصبح مفوّضا للحكومة لدى مجلس شورى الدولة، ويمر على أبرز المحطات السياسية في حياته زمن الفرنسيين وزمن الاستقلال، وخوضه غمار السياسة في وجه القطب الآخر من العائلة أحمد بك الأسعد

يروي رضا التامر، في مذكراته، حادثة شهدها في أثناء لجوئه هو ووالده وخاليه كامل وعبد اللطيف الأسعد، وعدد من رجال مقاومة الاستعمار الفرنسي الى فلسطين، على اثر حملة نيجر على جبل عامل عام 1920.

زوجته الفرنسية هي أول امرأة أجنبية تترافع أمام المحكمة العسكرية اللبنانية وأول أجنبية تعمل بالقضاء اللبناني

اثناء اقامتهم في قرية الزَّبيد الفلسطينية، وكان يجاورها قرى يهودية يفاجأون بعشرين يهودياً، يربطون شبيب عبد الله، وهو أحد المقاومين، الى شجرة كينا من أخمص قدميه حتى عنقه، وعندما يُسأل قائدهم، وهو مختار قريتهم الخواجا ألطي، عن السبب يقول: “إن شبيباً، حين كان رئيس عصابة، التقى قافلة يهودية ذاهبة الى المطلة، فاعتدى عليها، وسلبها تسعة بغال، فإما أن يدفع الآن ثمن البغال، وإما أن نسلِّمه للفرنسيين”.

وانتهت المفاوضات الى أن يوقعِّ محمد التامر، والد رضا التامر، والحاج خليل عبد الله سنداً قيمته مئة وثمانين ليرة ذهبية ثمناً للبغال، تدفع بعد شهر، لقاء أن يُفَكّ شبيب من الأسر..

فُكَّ أسر شبيب، ولكن كيف تتمكن المجموعة المشرَّدة الوفاء بهذا السند بعد شهر، وهي لا تملك شيئاً من المال؟

طُرِحَ السؤال على شبيب، فلم يجب، وغادر المكان.. وبعد مضي ثلاثة أسابيع جاء الخواجة ألطي يرجو محمد التامر:

“… ما بدنا مال ولا شيء… هذا شبيب قد كمن لجماعتنا في الطريق، بين المطلة والزبيد، ومعه خمسون خيَّالاً ونحو مئة رجل من المشاة، واعترض قافلة يهودية، وخيَّرها بين أمرين: أولهما أن يتلف السند، ويكون جميع اليهود في الزبيد وضواحيها في خدمتنا، وثانيهما أن أقطع رؤوس مئة وثمانين يهودياً، أي رأس كل يهودي مقابل ليرة ذهبية واحدة”.

وكان الأمر الأول، أُتلف السند، وعفا شبيب عن اليهود، ولكن السؤال الذي طُرح: من أين أتى شبيب بهذا العدد من المسلَّحين، وليس في جبل عامل، بعد نكبته بالمستعمرين وتشريد الكثيرين من أهله، من مسلَّحين؟!

وكانت المفاجأة عندما عاد شبيب، وأخبر الجميع: “لقد كنت وحدي، وليس معي غير بندقيتي… ولا أعلم كيف توهَّموا أن معي خمسين خيالاً ومئة من المشاة، فهل أوهمهم الفزع والذعر”؟

إقرأ أيضاً :تاريخ النهضة في جبل عامل: محمد علي الحوماني.. «مالئ الدنيا وشاغل الناس»(8)

السابق
«مراكب الموت».. كمين يوقع بمهربين!
التالي
المخرجة اللبنانية دانيا بدير تحصد بـ «ورشة» الجائزة الأولى في طوكيو