تاريخ النهضة في جبل عامل : أدباء وشعراء جنوبيون كرّسوا حياتهم للتربية والتعليم(7)

جبل عامل
سجّل التاريخ في مطلع القرن العشرين نهضة أدبية علمية شهدها جبل عامل، كانت صدى لصوت النهضة العربية التي شهدتها مصر وبلاد الشام في ظلّ الحكم العثماني والانتداب الفرنسي لاحقا، وقد كان لتلك النهضة رجالاتها ايضا الذين نبغوا وتعلّموا ثم علّموا وكتبوا وألّفوا، وبذلوا الغالي والنفيس، وبعضهم تحمل الاضطهاد والسجن، ولم يفتّ كله من أعضادهم، ونجحوا بالنهاية في بعث النهضة وتوريثها للاجيال اللاحقة. وينشر موقع جنوبية على حلقات ملفّا يحاكي هذه الحقبة ويسبر أغوارها، لا سيما منها ابراز شخصيات كان دورها حاسما في بعث تلك النهضة، لم يجر ذكرها مطلقا في كتب التاريخ التربوية، ولو انه جرى المرور على نشاطها السياسي الادبي لماما في عدد من المؤلفات التي بقيت قاصرة عن إيفاء هؤلاء حقوقهم.

عقب اعلان استقلال لبنان في 22 تشرين ثاني عام 1943، تمّ الاتفاق بموجب الميثاق الشفوي بين أوّلُ رئيس جمهورية بشارة الخوري ورئيس حكومة بعد الاستقلال رياض الضلح ، على أن يكون منصب رئيس الجمهورية مسيحياً مارونياً ورئيسُ الحكومة مسلماً سنياً ورئيسُ مجلس النواب مسلماً شيعياً، ولما كان نظام الحكم العتيد في لبنان رئاسيا بموجب الدستور، والوظائف الكبرى في الدولة مسيحية يعيّن رجالاتها رئيس الجمهورية بنفسه، مثل مناصب قائد الجيش وحاكم مصرف لبنان ومدير الامن العام وغيرهم، فقد اطلق المعارضون لقب “المارونية السياسية” على الدولة العميقة التي هيمنت سياسيا على لبنان حتى نهاية الحرب الاهلية التي اندلعت عام 1975، وتوقيع اتفاق الطائف وتعديل الدستورعام 1989، وبموجبه انتقلت الصلاحيات السيادية الى مجلس الوزراء مجتمعا. 

تلقف الجنوبيون من أهالي جبل عامل خيرات الطفرة الاقتصادية اللبنانية واستفادوا منها، وإن انعكست نزوحا لشبابه الى العاصمة للعمل فيها

الازدهار الاقتصادي والاجتماعي 

تزامن استقلال لبنان مع بدء الطفرة الاقتصادية في دول الخليج العربي، ولعب لبنان دور المنتجع السياحي للأثرياء الجدد من أهله والخازن لأموالهم في بنوكه، والمستشار المالي لاستثماراتهم في قطاعات العقارت والفنادق وغيرها، والوسيط بينهم وبين الشركات الغربية المستثمرة، فكان من نتيجته ان انتقلت تلك الطفرة لمباركة الى لبنان، حتى ان المفكر السياسي اللبناني ميشال شيحا اشتهر بالقول إن بلاده “مكتوبٌ عليها أن تصبح مركزاً عالمياً، حين أعلن أن الجغرافيا قد حتّمت على لبنان أن يلعب دور الوسيط بين الشرق والغرب منذ القِدم”. 

وقد تلقف الجنوبيون من أهالي جبل عامل خيرات الطفرة الاقتصادية اللبنانية واستفادوا منها، وإن انعكست نزوحا لشبابه الى العاصمة للعمل فيها، وقد كان نزوحا ايجابيا لا سلبيا، لأنه أمن دخلا كبيرا لعائلات جنوبية مكنتها من العودة لاعمار قراهم بعد سنوات، وادى التغيير الديموغرافي بفعل المدنية وتمركز الخدمات في العاصمة والمدن الكبرى، الى تضخم المدن في الجنوب ومناطق ضواحي العاصمة بيروت، ولما ظل الازدهار عامّا البلاد حتى منتصف السبعينات من القرن الفائت، فقد ظهر جيل من الشباب الجنوبي كان له حظّ وافر من العلم اسوة بغيره من شباب الوطن، خاصة مع انشاء الجامعة اللبنانية المجانية ذات المستوى العلمي الرفيع، التي تخرّج منها اكادميون جنوبيون من جميع الاختصاصات العلمية والأدبية، عملوا في  جميع المجالات العامة والخاصة، داخل مؤسسات الدولة وخارجها.  

ومن مظاهر الازدهار الاقتصادي الذي انعكس رخاء على جنوب لبنان وأهله في عصر “المارونية السياسية”، هو ان الفلاح الجنوبي اصبح يكتفي بما يدرّ عليه نتاجه من زراعة التبغ تحديدا التي كانت وما زالت تدعمها الدولة عبر شركة الريجي، وذلك رغم ما حصل لاحقا في السبعينات من احتجاجات لمزارعين طالبوا بزيادة سعره، وكذلك فان جيل الشباب الجنوبي الذي تعلّم في الاربعينات من القرن الماضي وتعيّن في وظائف الدولة، وسلك التعليم في الخمسينات والستينات من القرن الفائت، فإن تلك الوظائف كانت تكفي ماديا هؤلاء كي يعيشوا عيشة ميسورة في بلداتها وقراهم الصغيرة، فشادوا منازل واقتنوا سيارات أسوة بأهل المدن، بمستوى معيشي مريح فيه رخاء أشبه بالمستوى الذي كان يعيشه اهل الريف الفرنسي في ستينات القرن الفائت. 

أبناء العائلات الذين انخرطوا  كأساتذة ومعلمين ومدراء مدارس في السلك التربوي الرسمي، عدّوا مهنتهم رسالة وطنية، وضغطوا على الزعماء وحثوا الدولة على فتح المدارس الحديثة

أدباء نهضوا بالتعليم: عبد اللطيف شرارة 

ومع تصدّر ابناء العائلات البرجوازية والدينية المشهد الثقافي في جبل عامل الذي تحوّل الى محافظة “جنوب لبنان” بعد الاستقلال، فان أبناء تلك العائلات الذين انخرطوا  كأساتذة ومعلمين ومدراء مدارس في السلك التربوي الرسمي، عدّوا مهنتهم رسالة وطنية، ضغطوا على الزعماء وحثوا الدولة على فتح المدارس الحديثة بعدد وافر أكثر مما هو مقرّر، وكان لهم ما أرادوا بعد ان استجابت الدولة لمطالبهم ومطالب زعماء الجنوب في ذلك الوقت من آل الاسعد والزين وخليل وعسيران والصلح وغيرهم، افتتحت الدولة مئات المدارس في انحاء الجنوب كما كنا اسلفنا وفصّلنا سابقا. 

ونعرض لسيرة عدد من هؤلاء المربين الذين كانوا اعلاما في دنيا الأدب والعلم، علّموا أجيالا وساهموا في افتتاح مدارس ونشرها كما أثروا المكتبة العربية بنتاجهم، ثم رحلوا بعد أن تركوا بصمات راسخة في دنيا الفكر الثقافة على مستوى لبنان والعالم العربي أجمع. 

أولهم الأديب الشاعر عبد اللطيف شرارة الذي ولد في بلدة بنت جبيل وفيها توفي، تلقى تعليمه المبكر عن والده وعدد من رجال التعليم في عصره، ثم التحق بالمدرسة الرسمية في بنت جبيل، وبعدها تابع دراسته في مدرسة النبطية الرسمية. 

عمل مدرسًا بالمدرسة الرسمية بالنبطية (1936 – 1938)، وفي مدرسة بنت جبيل الرسمية (بداية الأربعينيات)، ثم انتقل إلى بيروت ليعمل في دار الكتب الوطنية وظل بها حتى أسندت إليه أمانتها العامة ثم تولى رئاستها. 

انضم إلى عصبة الأدب العاملي التي كان يترأسها الشيخ علي الزين من بلدة جبشيت قضاء النبطية، ذلك تشجيعًا له وقد نظم قصيدته الأولى في الثامنة عشرة من عمره، وأسهم في تأسيس جمعية أهل القلم، وكان أحد مؤسسي المؤتمر الأول للأدباء العرب في دمشق – سبتمبر 1954. 

مثل بلاده في عدد من المؤتمرات، منها: مؤتمر البلدان الإسلامية السادس – مقديشو 1964، ومؤتمر المصطلحات العربية لعلم الاقتصاد – بيروت 1965. 

له عشرات المؤلفات متنوعة الموضوعات، منها: «روح العروبة» 1947، و«الحجاج طاغية العرب» 1950، و«في قرى الجن» – ملحمة نثرية – عزالدين نوار 1954و«الحب عند العرب» 1961، و«ابن حزم، رائد الفكر العلمي» – المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر – بيروت 1964، و«الصهيونية جريمة العصر» 1964، و«أبو العتاهية شاعر الزهد والحب الخائب» 1965، و«مي زيادة» 1965، و«الأخطل الصغير» 1968، و«معارك أدبية قديمة ومعاصرة» 1983، و«سلسلة شعراؤنا القدامى» 1956 – 1984 (صدر منها عن الشعراء: أحمد الصافي 1981 – أحمد شوقي 1982 – إبراهيم طوقان 1982 – الياس أبو شبكة 1982 – الشريف الرضي 1993)، و«الدنيا تتحدث عن نفسها» (مجموعة قصص). وله عدد من المترجمات، منها: «الأرض اللعينة»، عن الفرنسية. 

إقرأ أيضاً : تاريخ النهضة في جبل عامل: الجعفرية والعاملية تنتصران على الكتاتيب (6)

السابق
جنبلاط يُصوّب سهامه نحو من يستهلكون الطاقة «بشكل هائل»!
التالي
مصادر «عين التينة» لـ «جنوبية»: عين بري على التشريع لا على الرئيس!