السيد علي الأمين.. الشاهد على إستشهاد محمد باقر الصدر(4 والأخيرة): التخلي الإيراني.. وإعدام عالم شجاع!

الخميني ومحمد باقر الصدر
على الرغم من وضع السيد محمد باقر الصدر في الاقامة الجبرية تحت مراقبة المخابرات العراقية، فان العلامة السيد علي الامين لم ينقطع عن زيارته رغم مخاطر الاعتقال وربما الاخفاء والقتل كما كان يحصل مع الكثيرين. يعرض العلامة الامين في الحلقة الرابعة والأخيرة لنهاية مسيرة الصّدر التي بدأت بصعود نجمه مع انتصار ثورة الامام الخميني في ايران وانتهت باعتقاله واستشهاده.

يقول العلامة السيد علي الأمين “أذكر أنني عرضت على السيد الصدر في بعض تلك الزيارات فكرة للخروج من العزلة وفك الحصار، وهي أن يقوم سماحته بزيارة المراجع كالسيد الخوئي وغيره في تلك الظروف فقال لي “لا مانع عندي من القيام بذلك، ولكن خروجي لزيارتهم لن يساهم في رفع الحصار لأنني إذا ذهبت اليوم أو غداً لزيارتهم وعدت بعد ذلك فلن يتغيّر شيء وتبقى العزلة والحصار، ولكن لو قاموا هم بذلك فسوف يشجعون الآخرين من طلاب الحوزة وعلمائها وغيرهم،  والنظام لن يجرؤ على اعتقال الجميع،  وبذلك ينكسر الحصار وتبعد العزلة”.

اقرأ أيضاً: السيد علي الأمين.. الشاهد على إستشهاد محمد باقر الصدر (1): الاعتقال والترهيب ومنع المواكب الحسينية

وقد أعجبت بإجابته وحملتها كفكرة إلى بعض كبار أهل العلم من طلابه اللبنانيين والذين كانوا إليه من المقرّبين والذين كانوا يحظون في أيام الرخاء بالصفوف الأولى لديه، وقلت لهم إذا ذهبنا على شكل جماعات بقيادتكم لزيارة السيد الصدر على نحو متكرر كما كان يحصل في الأيام العادية فإن هذه الخطوة يمكن أن تشجع آخرين على القيام بمثلها، وبذلك نساهم في فكّ الحصار عن سماحة السيد، ولن يتجرأ النظام على القيام باعتقالنا جميعاً، ولم أحصل على موقف إيجابي منهم، فقد كان الخوف من النظام مسيطراً على الحوزة بكبارها وصغارها وعلى عامّة الناس من ورائهم.

انتصار ثورة الخميني وتصعيد الحصار ضدّ الصّدر

وبعد خروج الشاه من إيران عاد السيد الخميني إليها وتطورت الأمور سريعاً واشتدت الإشتباكات في تهران مع لواء الحرس لقصور الشاه، وقد فرّ رئيس الوزراء شاهبور بختيار وسقطت قصور الشاه وسقطت معها تهران وسائر المدن بيد الثائرين وأعلن بعد ذلك عن انتصار الثورة الإسلامية في إيران في العاشر من شهر شباط سنة 1979 وانتقلت هذه الأخبار إلى النجف، وأعلن السيد الصدر في ذلك اليوم عن سروره بهذا الإنتصار الكبير وعن تأييده للعهد الجديد واعتباره يوماً مشهوداً في التاريخ المعاصر، وانتشر بيان التأييد في شرائط التسجيل.

وقد فرحنا معه بهذا الإنتصار، ولكنها كانت فرحة في داخلنا لا يمكننا التعبير عنها وكان يخالطها الخوف من ردّة فعل النظام.

فالحوزة لم تجرؤ على الإعلان عن (وفاته) ولم تجرؤ على إقامة مجلس فاتحة عن روحه! وقد أظلمت الدنيا في نفسي واشتدّ فيها الحلك وكأنما أطبق عليها الفلك، واستحضرت في ذهني الإمام الحسين الذي بقي وحيداً

وبدأ استياء النظام العراقي يشتدّ بعد البرقية الجوابية من السيد الخميني لرئيس الجمهورية العراقية أحمد حسن البكر الذي أرسل له برقية تهنئة بالمناسبة، وقد سمعنا عبر وسائل الإعلام أن البرقية الجوابية تضمّنت طلب رفع يده عن الشعب العراقي، وهذا مما أثار الإستغراب لدينا والمزيد من المخاوف، وأذكر أنني كنت أسير بعد خبر البرقية في شارع الإمام الصادق مع السيد علي بدر الدين الذي كان لديه اطلاع على مواقف السيد الصدر من الثورة بسبب مشاركته في لقاءات كانت تعقد معه من بعض الشخصيات المرسلة من قبل الحكومة العراقية للقائه قبل فرض الحصار عليه وبعده بغرض التفاوض معه للتراجع عن موقفه المؤيد للثورة الإسلامية في إيران، وتحدثنا بشأن البرقية الجوابية ومواقف السيد الصدر وكان يبدو على السيد علي بدر الدين الإضطراب واليأس.

اقرأ أيضاً: السيد علي الأمين.. الشاهد على إستشهاد محمد باقر الصدر (2): إفراج واعتقال ولقاء.. وهذا ما قاله الشهيد؟

وبعد عدة لقاءات عقدت مع السيد الصدر في فترات زمنية مختلفة من تلك المرحلة جاءني السيد علي بدر الدين وطلب مني مصاحبته إلى زيارة مسجد الكوفة والمعالم الدينية الأخرى فيها، وقد فاجأني بما أوحاه لي أثناء الزيارة بأن هذه الزيارة بالنسبة إليه ستكون زيارة وداعية، وأنه سوف يسافر بعدها إلى لبنان، وقد عاد إلى لبنان وتم اغتياله في جنوب لبنان في قريته حاروف بعد فترة وجيزة من إعدام السيد الصدر في العراق رحمهما الله.

ومن المواقف التي بقيت في الذاكرة من تلك الأيام التي اشتد فيها الحصار والمراقبة على السيد الصدر بعد البرقية الجوابية خرجت بعد الإنتهاء من درس السيد الخوئي في مسجد الخضراء وتوجهت إلى زيارته، وكان وحيداً كما في مرّات سابقة، وكنت قد أخبرته في بعضها عن وصول بعض وكلائه من الذين كانوا قد اعتقلوا في الأحداث الأخيرة إلى لبنان، وقد فاجأني بإعداده بعض الإجازات الشرعية لهم والمكتوبة بخطّ يده، وطلب منّي إيصالها إليهم،  فخرجت أحملها، وبعد وصولي إلى البيت قرأتها-وكانت غير مغلقة-فوجدتها بدون تاريخ!

فقلت في نفسي لعلّه بسبب ما يمرّ عليه من أحداث جسام نسي كتابة التاريخ عليها، ولكني أدركت بعد ذلك أن السبب يعود إلى احتمال إمساك رجال الأمن بها بعد مغادرتي له واطلاعهم على تاريخها مما يعطيهم مستنداً على بقاء الإرتباط بينه وبين أعداء النظام.

وقد ضرب لي بموقفه هذا وعدم نسيانه لوكلائه وأصحابه على رغم آلامه وهمومه مثلاً، وأعطاني درساً بليغاً في وفاء القيادة وتضحياتها في أحلك الظروف والأوقات.

وبعد فترة وجيزة من انتصار الثورة في إيران بدأنا نلتقط في بعض ساعات الليل إذاعة عبادان، وكانت تنقل للمستمعين بعضاً من أخبار المسؤولين في قيادة الثورة وبعض خطب أئمة الجمعة وأناشيد ثورية، وقد سمعت منها في بعض الليالي خبراً عن برقية أرسلها السيّد الخميني إلى السيّد الصدر يطلب فيها بقاءه في النجف الأشرف، وفي بعض تلك الليالي التي كنت أستمع منها إلى برنامج جديد كانت تبثّه بشكل يومي تحت عنوان (عراق اليوم يبحث عن حسين) إتصل مذيع البرنامج هاتفياً بسماحة السيد الصدر، وقد اتّسمت إجابات السيّد بالجرأة والوضوح، فهو قد جدّد في هذا الإتصال تأييده للسيّد الخميني، وأعلن فيه بوضوح عن كونه كالمعتقل في بيته، وهو اتهام علني للنظام العراقي بالتضييق عليه ومحاصرته، وقد خشيت من عواقب هذا الإتصال الهاتفي،  وقلت في نفسي بأن النظام سوف يقطع عنه الهاتف بعده، لأن طبيعة النظام الأمنية والقائمة على القمع والترهيب لا تسمح بإظهار أي نحو من المعارضة له.

وبقيت متابعاً لهذا البرنامج بعد ذلك، ولم أعد أسمع فيه أخباراً عن اتصالات مباشرة مع السيد الصدر.

وكنت من المتوقعين بعد انتصار الثورة في إيران أن يقوم النظام الجديد فيها بخطوة تؤدي إلى فك الحصار عن السيد الصدر،  وهذا ما لم يحصل، وقد صار عمر الثورة سنة أو أكثر بقليل.

وقد اشتدّ الحصار على السيد الصدر بسبب مواقفه العلنية المؤيدة للثورة وخصوصاً بعد الإتصال الأخير به من أذاعة عبادان وطالت مدّته وازدادت عزلته، وبقيت مواقف الحوزة في الداخل على وضعها السابق بدون استنكار ولا زيارات له، والدروس فيها مستمرّة وكأنّ شيئاً لم يكن!

الزيارة الأخيرة.. الصّدر: زجونا وعافونا!

وفي ظلّ هذه الأوضاع الشديدة التي كانت تمرّ على النجف وعلى السيد الصدر خطرت في بالي فكرة، فصممّت على أن أقوم بزيارة سماحة السيد لعرضها عليه ومعرفة رأيه فيها، وذهبت في اليوم التالي بعد الإنتهاء من درس السيد الخوئي والتقيته وكان كالعادة وحيداً وقد بدت عليه علامات الضعف والنحول في جسده،  وفي هذه الجلسة أنحى باللائمة على أداء النظام الإيراني الجديد وقال بحرقة هذه العبارة حرفيّاً (زَجُّونَا وعَافُونَا)!!.. مبدياً استغرابه من عدم إتاحة قيادته الفرصة طيلة هذه المدّة لقيام وجوه من الحوزة من وكلائه الذين خرجوا من العراق ووصلوا إلى إيران بمخاطبة الجمهور العراقي الذي يعرفهم لكي يعملوا على تعبئته بآرائهم وأفكارهم حول الأحداث الجارية في النجف خصوصاً وفي العراق عموماً، فهم أكثر خبرة واطلاعاً من غيرهم وأكثر قرباً له والتصاقاً به من الذين تنشغل بهم بعض وسائل الإعلام.

وفي تلك الأثناء عرضت عليه الفكرة التي كنت أحملها، وهي تتمحور حول خروجه من العراق، وقلت له بأن لدي فكرة تتطلب مني الذهاب إلى لبنان لألتقي هناك بالشيخ محمد مهدي شمس الدين وكان وقتذاك نائباً لرئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وبالأستاذ حسين الحسيني الذي كان حينها رئيساً لحركة أمل لأبحث معهما عن طريقة لإيجاد وسيلة تمكنكم من مغادرة العراق بعيداً عن أعين النظام فقال لي (هذه فكرة سابقة لأوانها)!

وخرجت بعدها من داره قائلاً في نفسي لعلّ لديه معطيات أخرى تجعله على أمل الإنتهاء من الوضع الذي هو فيه.

اعتقال الصدر وإعدامه

وقد تسارعت الأحداث فبعد عودتي من زيارته -التي لم أتوقع أن تكون الأخيرة-ففي تلك الليلة أو في الليلة التي تلتها بينما كنت أستمع إلى إذاعة (مونت كارلو)  سمعت خبراً عن محاولة اغتيال طارق عزيز في جامعة المستنصرية قام بها المدعو سمير نور علي، وعلى الفور انتقل ذهني إلى أن النظام العراقي سيحمل السيد الصدر مسؤولية هذه العملية، واستيقظت صباحاً وذهبت لحضور درس السيد الخوئي فسمعت من بعض أهل العلم أن قوات من رجال الأمن اعتقلت السيد الصدر واقتادته إلى بغداد،  وكنا نتوقع إعادته كما جرى في المرّة السابقة،  وانتظرنا أياماً ولم نسمع بخبر عن الإفراج عنه، ولم نلمس أي تحرك ضد اعتقاله من قبل الحوزة ومراجعها ولا من النظام الجديد في إيران، فاشتد قلقنا وازداد خوفنا.

كنت من المتوقعين بعد انتصار الثورة في إيران أن يقوم النظام الجديد فيها بخطوة تؤدي إلى فك الحصار عن السيد الصدر،  وهذا ما لم يحصل

وذات صباح بعد تلك الأيام التي طال فيها الترقب الإنتظار لخبر عن السيد الصدر كنت سائراً في باب الطوسي متوجّهاً إلى درس السيّد الخوئي التقيت أحد كبار طلاب السيد الصدر ومعتمديه وهو السيد محمد باقر الحكيم فتقدمت إليه وألقيت التحية عليه وسألته عن السيد الصدر فأجابني بأن السيد قد أعدم ودفن ليلاً في النجف، وكررت عليه السؤال وعن إمكان نقل الخبر إلى لبنان وأنه على نحو اليقين،  فقال: نعم، فصعقت لهذا النّبأ الفظيع،  فعزّيته وذهبت مسرعاً إلى مسجد الخضراء متوقّعاً أن أجد انتفاضة فيه على هذا النّبأ من الحوزة وزعيمها، فوجدت الدرس قائماً والمشايخ والسادة من الطلاب يستمعون إلى السيد الخوئي وهو يتلو درسه في الفقه عليهم، وكأن شيئاً لم يحصل،  فخرجت من قاعة المسجد أثناء إلقائه الدرس وفي صدري غضب عارم على هذا الصمت والسكوت، وذهبت إلى محل الحاج شهيد العبايجي المجاور للمسجد منتظراً انصرافهم من الدرس قائلاً في نفسي لعلّ شيئاً ما يحدث أثناء خروجهم أو بعده، وخاب الظنّ!

اقرأ أيضاً: السيد علي الأمين.. الشاهد على إستشهاد محمد باقر الصدر(3): أيام القمع والعزلة ومشروع «خميني العراق»!

فالحوزة لم تجرؤ على الإعلان عن (وفاته) ولم تجرؤ على إقامة مجلس فاتحة عن روحه! وقد أظلمت الدنيا في نفسي واشتدّ فيها الحلك وكأنما أطبق عليها الفلك، واستحضرت في ذهني الإمام الحسين الذي بقي وحيداً والذي يبكون عليه في مجالسهم ويقيمون له المآتم منذ مئات السنين ويطلقون فيها التمنيات بنصرته! واستحضرت الإمام الكاظم الذي يبكون على مصيبته أيضاً، وقد بقي زمناً طويلاً في سجون الرشيد، ولم يعمل شيعته على إخراجه من محبسه، بل لم يجرؤ أحد منهم على زيارته طيلة مدّة سجنه حتى قضى فيه، وقد أخرجه السجان وأعوانه بعد ذلك وألقوا جثمانه على جسر بغداد طالبين من المارة التعرّف عليه وأخذه لدفنه!

وها هو التاريخ يعيد نفسه، فهذا السيد محمد باقر الصدر سليل الإمام الكاظم ووارث الإمام الحسين عليهما السلام أصيب بما أصيب به أجداده من الأئمة الطاهرين، رحمه الله وأعلى مقامه في جنان الخلد مع الشهداء والصدّيقين وحسن أولئك رفيقاً، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفي اليوم التالي رحلت مع العائلة إلى لبنان ونقلت نبأ الفاجعة إلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين في مدينة الزهراء حيث كان المقر المؤقت للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى”.

السابق
الطيران الإسرائيلي يواصل خروقاته.. وتحليق كثيف في اجواء المتن وكسروان!
التالي
لقاء سيدة الجبل يدعو لتشكيل لجنة تحقيق دولية مالية: للمحافظة على ودائع اللبنانيين!