السيد علي الأمين.. الشاهد على إستشهاد محمد باقر الصدر (2): إفراج واعتقال ولقاء.. وهذا ما قاله الشهيد؟

محمد باقر الصدر
في الحلقة الثانية سرد الوقائع، فهل طالت مدة اقامته في السجن؟ وما هو مصيره ومصير اخوانه؟

يكتب العلامة السيد علي الأمين ل”جنوبية” بوصفه شاهدا من قلب الحدث العراقي في الايام التي سبقت اعتقال واعدام استاذه السيد الشهيد محمد باقر الصدر عام 1980 على يد نظام صدام حسين،يسرد في الحلقة الاولى التي نشرها “جنوبية” انه في عام 1977 بمناسبة اربعين الامام الحسين بدأ التضييق على الزوار من قبل الامن العراقي، وجرى اعتقال العلامة الامين وهو في طريقه الى كربلاء مع ثلة من اخوانه ونقلوا الى احد السجون ليبدأ التحقيق معه حول علاقته بالشهيد الصدر باسلوب لا يخلو من التعنيف والترهيب، فشاهد عمليات تعذيب عشرات من المعتقلين، واختفاء عشرات اعدموا لاتهامهم بالانتماء الى حزب الدعوة. ويتابع العلامة الامين في الحلقة الثانية سرد الوقائع، فهل طالت مدة اقامته في السجن؟ وما هو مصيره ومصير اخوانه؟

يكمل السيد علي الامين في الحلقة الثانية من ذكرياته العراقية المثيرة والزاخرة بالرعب الامني من داخل سجن معسكر الرشيد في ضاحية بغداد فيقول “في ليلة جمعة كنا مجتمعين فيها نقرأ الدعاء المعروف بدعاء كميل بعد صلاتي المغرب والعشاء وإذا بالباب يفتح علينا ويدخل علينا رجل أمن منادياً باسمي (علي الأمين) وباسم شخص آخر هو المصري (ماهر محمد طه)  وطلب منا الخروج فودّعت الأصحاب وأوصيت رفيقي الشيخ سليم بالأولاد والعيال إن كتبت له النجاة،  وكانت عائلته وأولاده يقيمون في بيتنا مع العائلة والأولاد بعد انطلاقنا من النجف وتوجهنا معاً إلى زيارة كربلاء.

وكان الإعتقاد السائد هو أن من يؤخذ من السجن في الليل يعني الذهاب به إلى الإعدام، وخرجنا معه، وسار أمامنا طالباً منّا خفض الرأس إلى الأسفل، قائلاً باللهجة العراقية (دَنِّگ راسك).

اقرأ أيضاً: السيد علي الأمين.. الشاهد على إستشهاد محمد باقر الصدر (1): الاعتقال والترهيب ومنع المواكب الحسينية

غُرف التحقيق

وبعد أن قادنا عشرات الأمتار أدخلنا إلى بعض الأبنية المكتظة برجال الأمن والعسكر ثم إلى غرفة من غرف التحقيق مجدّداً،  وأوقفنا فيها أمام محقق ومعه أعوان من رجال الأمن، وجرى معنا التحقيق سريعاً وأبلغنا المحقق بإطلاق سراحنا، فطلبت منه أن يعطينا وثيقة بذلك خشية التعرض للإعتقال لدى المرور على الحواجز العسكرية بين بغداد والنجف فرفض الطلب، وهذا مما جعلني أشك في الأمر، ثم اقتادونا إلى الخارج، وكانت هناك سيارة عسكرية يقودها عسكري وإلى جانبه آخر، وطلب منّي ومن المصري رفيقي في السجن الصعود إليها، ودفعني بعض رجال الأمن أثناء التوجه إليها قائلاً (سلّم على موسى صدرك)  ويقصد به الإمام السيد موسى الصدر رئيس المجلس الشيعي في لبنان، وكان على خلاف سياسي مع النظام العراقي في أحداث الحرب الداخلية والجارية على الساحة اللبنانية في ذلك الزمان.

وانطلقت بنا السيارة ونحن على شك من المصير، وأخذت السيارة تقطع الحواجز داخل معسكر الرشيد، واستمر سائقها بذلك فترة ربع ساعة أو أكثر حتى توقّف على حاجز عسكري فسأله الرجل الواقف على الحاجز بلهجته العراقية بعدما مدّ رأسه إلى داخل السيارة ونظر إلينا (ذُولَه للإعدام ؟) أي، هؤلاء للإعدام؟ فأجابه السائق: لا، إطلاق سراح، فانفرجت أساريرنا بعد أن كانت قد اختفت أنفاسنا بين السؤال والجواب!

كاراج بغداد العمومي

ومضى السائق بنا حتى وجدنا أنفسنا خارج المعسكر في شارع عام تجتازه حافلات وسيارات فطلب السائق منا الترجّل من سيارته العسكرية، فنزلنا في منطقة نجهلها، ووقفنا على جانب الطريق نسأل عن وسيلة نقل تقلّنا إلى كاراج بغداد العمومي، وصعدنا في حافلة عمومية تسمّى ب (الأمانة) تابعة لأمانة النقل العام الحكومية، وبعد مدة تقارب ثلث ساعة أو تزيد وصلنا إلى كاراج بغداد العمومي، وكان الوقت قريباً من منتصف الليل، وهناك افترقت عن صاحبي المصري بعد الوداع، فهو توجه إلى جناح السيارات المعدّة لنقل الركاب إلى مدينة كربلاء التي كان يقيم فيها قبل الإعتقال، وأنا توجهت إلى جناح مدينة النجف، وجاءني سائق سيارة أجرة مبدياً استعداده النقل إلى النجف، ويبدو أنه كان معتاداً على نقل معتقلين خرجوا قبلي، فقد قال لي: الحمد الله على السلامة، أَلآن خرجتَ من المعتقل؟

بغداد

وقد طلبت منه الإنتظار توقّعاً لمجيء ركاب آخرين كي لا أكون الراكب الوحيد، وقد كنت أخشى أن يثير وجود راكب واحد في السيارة تساؤلات رجال الأمن الذين كنت أتوقع في تلك الظروف انتشارهم على الحواجز بين بغداد والنجف، وليس لديّ مستند يثبت إطلاق سراحي،  فقد يحصل اعتقالي مجدّداً.

وانتظرت فترة ولم يأت أحد، فوافقت معه على الإنطلاق، وأثناء السير عرّفني بنفسه وأنه من مدينة الكوفة القريبة من مدينة النجف،  وأنه من آل الأسدي، وبعد ذلك أخذ يسألني عما جرى لي، وكنت حذراً في إجابتي لعدم معرفتي به من قبل، وروى لي بعضاً مما نقله له بعض المعتقلين من الذين أقلّهم بسيارته في ليالٍ سابقة.

واقترحت عليه فكرة الخروج من العراق إلى لبنان أو إلى الشام، فإن العلم والحوزة يكونان حيث تكون، وسيسعى إليك طلاب العلوم الدينية من كل أنحاء البلاد، وقد استحسن الفكرة وأجابني قائلاً بأنني لا أغادر النجف لأمرين: الأول، إن النجف مهوى أفئدة الشيعة في العالم، والثاني ماذا أقول لعوائل الشهداء وإخوانهم، وماذا أقول لغيرهم من أهالي المعتقلين الذين يقبعون في السجون! كيف أتركهم؟!

وكانت الطريق من بغداد باتجاه النجف شبه خالية إلا من سيارات قليلة، مما يشير إلى وجود حالة طوارئ في المنطقة، وعند وصولنا إلى مدينة الحلّة توقّف السائق فيها قرب بعض المطاعم ودعاني للنزول لتناول العشاء فشكرته وبقيت في السيارة، وكنت أخشى النزول لأنني كنت أظنّ أن ظهوري كمعمّم في ذلك الوقت المتأخر من الليل وفي تلك الظروف غير الطبيعية قد يثير التساؤل في منطقة تخضع للرقابة.

وكان بقربي وأنا داخل السيارة صاحب عربة يعرض عليها بعضاً من البرتقال للبيع، فتذكرت الأطفال وقلت في نفسي: أحمل لهم شيئاً لعلّي أدخل به السرور عليهم بعد الغياب، فناديت البائع من داخل السيارة وابتعت منه (2كلغ)، وعاد السائق بعد تناوله العشاء، وقاد السيارة باتجاه النجف مقصدنا، وما أن قطع عشرات الأمتار، ووصلنا قريباً من خزّان المياه في مدينة الحلّة حتّى قطعت علينا الطريق سيارتان مدنيتان تقادان بسرعة، وأشار من فيهما علينا بالتوقّف، وترجل منهما عدد من رجال الأمن بلباس مدني شاهرين السلاح باتجاه سيارتنا، ووجّهوا إلينا على الفور تهمة العمل على تفجير الخزّان، وصعد معنا إثنان منهم بسلاحهما في المقعد الخلفي من السيارة، وقدمت لهما كيس البرتقال للضيافة ولأقول لهما ليس معنا سلاح وأدوات تفجير سوى هذا فرفضا الضيافة، وقلت لهم بأني كنت معتقلاً في معسكر الرشيد وقد خرجت منه بعد إطلاق سراحي قبل ساعات، وأنا الآن متوجه مع السائق لإيصالي إلى مسكني في مدينة النجف، ولم يأبهوا لكلامي، ولا لكلام السائق،  فقد حصلوا في هذا الليل البهيم على صيد ثمين ألبسوه تهمة كبيرة، وقد يحصلون بسببه على مكانة وحظوة من قيادتهم المحلّيّة!

مسجد النجف – العراق

معسكر الرشيد

وقد اقتادونا إلى إدارة الأمن المركزي في مدينة الحلّة، فتحقق ما كنت أخشاه عندما طلبت من المحقق لدى إخراجي من معسكر الرشيد مستنداً بإطلاق السراح لإبرازه على الحواجز حيث تدعو الحاجة إليه منعاً لتكرار الإعتقال.

ووصلوا بنا بعد قليل إلى المركز المذكور وقد فوجئنا بكثافة رجال الأمن في خارجه وداخله، وأنزلوني من السيارة واقتادوني إلى غرفة فيها رجال أمن، وطلب مني بعضهم الجلوس على كرسي، وبدأ آخر بالتحقيق معي من جديد، فرويت له قصة الإعتقال وإطلاق السراح وطلبت منه الإتصال بالمسؤولين في معسكر الرشيد للإطلاع منه على حقيقة ما قلته له.

وطال الإنتظار، وخشيت على السائق من أن يعتقل بسببي أو أن يتركني وحيداً في تلك البقعة التي ليس لي فيها أهل ولا عشيرة،  ولا أعرف وجهة السير فيها.

النجف

وبعد مرور ساعتين أو أكثر تمّ إخراجي من التوقيف، وفوجئت ببقاء السائق في انتظاري، فصعدت معه وشكرته ودعوت الله له، وقد كان من الأوفياء، وقد روى لي أثناء قيادته السيارة من الحلّة باتجاه النجف تعرّضه للتهديد باعتقاله واحتجاز سيارته من قبل رجال الأمن،  وطلبوا منه الإدلاء بمعلومات مما سمعه منّي، وقد كان بإمكانه أن يقول لهم ما يريدون نأياً بنفسه عن الأخطار وتحمل الأضرار، فجزاه الله عنّي خير الجزاء.

ووصلنا إلى النجف قبل طلوع الشمس، وكانت الشوارع خالية من السيارات ومن المارّة على غير العادة في مثل هذه الأوقات، وعندما أنزلني في شارع الرسول-الجادة الخامسة-بدا مقفراً وموحشاً، فودعته وطرقت الباب خائفاً من وجود غير ظاهر لرجال الأمن في الشارع، وفتح الباب واجتمع الشمل مجدّداً مع العائلة وفلذات الكبد، والحمد لله رب العالمين.

اقرأ أيضاً: السيد محمد حسن الأمين.. نظرة على أجواء الدراسة في النجف

المركز التاريخي للعلم والعلماء

وقبل ظهر ذلك اليوم، وأظنه كان يوم جمعة، ذهبت إلى ديوان الأستاذ الكبير السيد محمد باقر الصدر لأنقل له ما دار حوله من أسئلة أثناء التحقيق معي ومع غيري مما سمعته من المعتقلين الآخرين،  وقلت له على انفراد خلاصة ما دار:

إن القوم لا يريدون سواك، واقترحت عليه فكرة الخروج من العراق إلى لبنان أو إلى الشام، فإن العلم والحوزة يكونان حيث تكون، وسيسعى إليك طلاب العلوم الدينية من كل أنحاء البلاد، وقد استحسن الفكرة وأجابني قائلاً بأنني لا أغادر النجف لأمرين: الأول، إن النجف مهوى أفئدة الشيعة في العالم ففيها الإمام علي عليه السلام، وهي المركز التاريخي للعلم والعلماء عندنا، والثاني، وهو الأهمّ عندي، أني ماذا أقول لعوائل الشهداء وإخوانهم، وماذا أقول لغيرهم من أهالي المعتقلين الذين يقبعون في السجون! كيف أتركهم؟!

وقد أعطاني بجوابه هذا درساً في وفاء القائد ونكران الذات واستعداده للتضحية في سبيل رسالته.

وقد عرضت عليه مرّة أخرى فكرة الخروج من العراق في زمان الحصار الذي فرضه عليه النظام سنة 1980 قبل استشهاده رحمه الله، وسيأتي الحديث عن هذه المرحلة في أحداث سنة 1979 بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران وإعلان السيد الشهيد عن تأييدها، ومجيء الوفود الشعبية إلى النجف دعماً لمواقف السيد الشهيد منها”.

السابق
بالفيديو: أمن الجنوب الإجتماعي في الواجهة..سرقتان خلال 12 ساعة: ليلية من الجدار ونهارية من الباب!
التالي
بالفيديو: لغط في دير العشاير..الأهالي يتهمون البلدية بتسميم كلابهم والأخيرة تنفي!