السيد علي الأمين.. الشاهد على إستشهاد محمد باقر الصدر(3): أيام القمع والعزلة ومشروع «خميني العراق»!

السيد علي الأمين
في الحلقة الثالثة: هل حاول الصّدر ان يكون خميني العراق، أم ان وكلاءه وانصاره هم من اختاروا المنحى الثوري ضدّ نظام البعث فكان ما كان؟

لا يمكن فصل مسيرة الشهيد محمد باقر الصدر عن حركة الامام الخميني الذي نفاه شاه ايران فاختار مدينة النجف الاشرف في العراق، ليقيم فيها مدة 13 عاما، وليخرج منها قبل عام من انتصار ثورته في العراق. وفي الحلقة الثالثة يواصل العلامة السيد علي الامين سرد شهادته عن هذه المرحلة الحافلة بالاحداث المثيرة من عمر العراق والشيعة بشكل عام. فهل حاول الصّدر ان يكون خميني العراق، أم ان وكلاءه وانصاره هم من اختاروا المنحى الثوري ضدّ نظام البعث فكان ما كان؟

في سنة ١٩٧٨ بدأت تتصاعد أحداث الحراك الشعبي ضد نظام الشاه في إيران خصوصاً بعد فترة وجيزة من وفاة النجل الأكبر للسيد الخميني، السيد مصطفى الخميني، في النجف الأشرف، وقد كان من العلماء الأجلاء والبارزين في الحوزة العلمية، وكان يلقي دروسه في الفقه والأصول في مسجد الشيخ الأنصاري المعروف بمسجد الترك، وكان يتقن التحدّث باللغة العربية واللهجة العراقية.

وقد كانت وفاته مفاجئة وغامضة، وسرت شائعة اغتياله بالسم على يد مخابرات الشاه، وقد ذهبت الوفود الكثيرة من طلاب الحوزة وعلمائها إلى منزل والده السيّد الخميني لتعزيته، وكنت في عداد وفد من الطلبة اللبنانيين وبعض العلماء، وكان منهم على ما أذكر المرحوم الشيخ جعفر الصائغ الذي ألقى كلمة في المناسبة.

اقرأ أيضاً: السيد علي الأمين.. الشاهد على إستشهاد محمد باقر الصدر (2): إفراج واعتقال ولقاء.. وهذا ما قاله الشهيد؟

وكان من الطبيعي أن تنعكس تلك الأحداث المتصاعدة في إيران على حوزة النجف الأشرف مقرّ إقامة السيّد الخميني الذي كان يظهر معارضته للشاه بوضوح في كتاباته وفي توجيهاته لطلابه ولأنصاره داخل إيران وخارجها.

وقد انقسمت حوزة النجف ومرجعياتها الدينية في تلك المرحلة بين مؤيدين لتدخل رجال الدين في المعارضة الجارية في إيران، وبين رافضين لها ولتدخلهم فيها، وبين ساكتين عن تلك الأحداث.

خروج الخميني من العراق وصعود نجم الصّدر

الامام الخميني
الامام الخميني

وبعد أن ظهر في وسائل الإعلام العالمية مدى تأثير السيد الخميني في الشارع الإيراني المنتفض على نظام الشاه خشي النظام العراقي من انعكاسات تلك الأحداث على الداخل العراقي حيث أصبحت مدينة النجف التي يقيم فيها السيد الخميني محط الأنظار ومقصداً للسائلين والباحثين من رجال السياسة والفكر والإعلام، يأتون إليها طلباً لمقابلة منه حول ما يجري على الساحة الإيرانية، وهذا أمر لم تعتد عليه النجف من قبل، ولا يروق للنظام العراقي أن تصبح النجف مرجعية سياسية، ولهذا السبب طلب النظام العراقي من السيد الخميني الخروج من العراق، وقد سمعنا أن إخراجه كان استجابة لطلب من نظام الشاه، ويمكن أن يعود السبب للأمرين معاً.

وقد شكل إخراجه منها في تلك الظروف صدمة لنا، ولكن حوزة النجف العلمية لم يظهر عليها التأثر بذلك، وبقيت الدروس فيها على حالها لم تنقطع، ولم نسمع من مرجعياتها الدينية استنكاراً لما حصل.

وقد توقع كثيرون أن يعود الهدوء إلى النجف بعد إخراج السيد الخميني منها وأن يتم عزلها عن الأحداث الجارية في إيران، ولكن الذي حصل كان خلاف ذلك، فبعد سماعنا بوصول السيد الخميني إلى باريس لم تتوقف تلك الأحداث، بل استمرّت المواجهة لنظام الشاه وازدادت وتيرتها، وهذا ما كان يصلنا من متابعة وسائل الإعلام الخارجية التي كان لا يتاح لنا التقاط إذاعاتها بوضوح في غير ساعات الليل .

وبدأنا بعد ذلك نرى في النجف وفوداً من الشباب من المدن والقرى تأتي إلى زيارة السيد محمد باقر الصدر معلنة تأييدها لموقفه العلني المؤيد للسيد الخميني وحركة الشعب الإيراني.

وكان يقود تلك الوفود الشعبية إلى النجف وكلاء السيد محمد باقر الصدر في تلك المدن والقرى من أهل العلم وأئمة المساجد.

وبعدما أصبح السيد الصدر في شبه عزلة تامّة وتحت المراقبة المشدّدة أذكر أني ذهبت إلى زيارته في بعض تلك الأيام الموحشة، فوجدته وحيداً في منزله، وبعدما خرجت من منزله تبعني بعض رجال الأمن واستوقفني وسألني عن إسمي طالباً هويّتي الشخصية

ولم تكن مألوفة لدينا مثل هذه التحركات التي تحمل الطابع السياسي المعارض في العلن لتوجهات النظام العراقي الذي كان يمنع من تشكيلات الأحزاب السياسية المخالفة له خصوصاً الدينية منها، وظهر ذلك في قيامه بإعدام مجموعة من العلماء في سنة 1974 بتهمة الإنتساب إلى حزب الدعوة، ومنهم المرحومون الشيخ عارف البصري والسيد عماد التبريزي والسيد عز الدين القبانجي وغيرهم، وتكرر ذلك القمع بعد الذي قام به النظام من اعتقال لألوف المشاركين في ذكرى الأربعين سنة 1977 وإعدامه للعشرات منهم.

وقد حدث نقاش داخل الحوزة حول هذه التحركات، عن جدواها ومخاطرها، وقد اختلفتُ مع بعض وكلاء السيد الصدر ممن كان يأتي بالوفود إلى النجف، وكنت من المستمعين لآرائه وأفكاره وإرشاداته، فهو كان أكبر منّي قدراً وسنّاً وأوسع تجربةً، وأقدم زماناً في الإنتساب إلى الحوزة، وقد قلت له في غمرة تلك الأحداث إن ما تقومون به اليوم يخالف ما تعلمناه من كتابات الأستاذ السيد الصدر،  ويتنافى مع ما كان يتلى علينا في حلقات الدروس السرّية لحزب الدعوة، حيث كنا ندرس فيها أن رسالتنا فكرية انقلابية، وأن الترتيب بين المراحل ضروري، فالتغيير يحدث طبيعيّاً في الأمّة بعد حصولها على المعرفة بمضمون رسالتها، وهذا يعدّ شرطاً لإبعاد غربتها الفكرية عنها، وأن المرحلة التي تمرّ بها الرسالة الإسلامية في عصرها الحاضر هي مرحلة فكرية – وليست سياسية – نعمل فيها على تثقيف الأمة وتعريفها بإسلامها، وهي مرحلة تحمل طابع السّرّيّة، وليست علنيّة، فلا صراع فيها مع الحاكم على السلطة ولا نزاع، وإنَّ الدخول في المرحلة السياسية العلنيّة وتجاوز تلك المرحلة الفكريّة التي لم نزل نحن اليوم نعيش فيها سوف يعرض الدعوة والدعاة إلى الخطر.

وقلت له أيضاً لا يجوز أن نغترّ بسكوت النظام العراقي عن مثل هذه التجمّعات واللقاءات التي تبدو خطوات متسرّعة وغير مدروسة يغلب عليها الطابع العاطفي، والنظام نعرف بطشه وظلمه، وقد يعطي فرصة لِتَحَرُّكِ هذه الجماعات في العلن لينكشف له حجمها وعناصر تنظيمها ومدى تأثير قيادتها في الشارع وبعد ذلك يطبق عليها في مرحلتها الجنينية قبل اكتمال نموِّها واشتداد عودها.

قمع واعتقالات

لم تدم تلك التّجمّعات والتّحرّكات طويلاً، فبعد قيام النّظام العراقي بإبعاد السيّد الخميني عن العراق بدأ خطوته التالية بحملة اعتقالات واسعة في صفوف وكلاء السيّد الصدر وبمنع تلك التّجمّعات بعد فضّها بالقوّة وملاحقة عناصرها.

وأتذكر أنني في يوم جمعة من تلك الأيام التي تلت إبعاد السيد الخميني كنت أقوم بزيارة معتادة في أيام العطلة لمنزل الأستاذ السيد نصرالله المستنبط،  وقد خرجت من عنده قبل موعد صلاة الظهر، وما أن وصلت إلى شارع الإمام الصادق حتى فوجئت بحشود غفيرة من الشباب ووجوه جديدة متوجهة نحو مقام أمير المؤمنين عليه السلام، وعندما وصلت إلى شارع مسجد الخضراء المجاور للمقام وجدت تلك الحشود تدخل إليه وكان المرجع السيّد الخوئي يقيم فيه الصلاة، وقد حدثت لدي رغبة في المشاركة مع تلك الجموع في الصلاة، فدخلت المسجد ووجدته ممتلئاً بطابقيه بالمصلين، وقد حصلت بصعوبة على مكان داخل المسجد في الصفوف الأخيرة من الطابق الأرضي.

وما أن انتهت الصلاة حتى علت أصوات المصلّين المحتشدين بالصلوات على محمد وآل محمد، وبدأ قسم منهم بالخروج من باب المسجد من جهة السوق الكبير قاصدين المقام وحينذاك فوجئنا بإغلاق باب المسجد وقيام قوات الأمن والشرطة بضربهم بعنف وقسوة والإشتباك معهم واعتقالهم وسوقهم إلى عربات عسكرية جاهزة،  وبقيتُ مع العشرات داخل المسجد، وكنّا نشاهد عملية القمع من الزجاج الشفاف لنوافذ المسجد المطلّة على الشارع، وكان السيد الخوئي لا يزال في المسجد، وقد تجمّعنا حوله بانتظار ما ستؤول إليه الأمور، وبعد إنهاء عناصر قوات الأمن لمهمّتهم خارج المسجد فتح بابه وجاء بعضهم معطياً الإذن بالخروج للسيّد الخوئي وقام بمساعدته على النهوض والسير معه وإيصاله إلى سيارته بعض من أفراد حاشيته المرافقين له، وقد سرت خلفهم، وعند وصول المساعدين بالسيد إلى باب المسجد فتحه الممسكون به من عناصر الأمن، وما أن خرج السيد الخوئي ومساعدوه من الباب حتى همّ الممسكون به بإغلاقه وراءهم ومنعي من الخروج، فقال واحد منهم (عُوفَه، هذا وْيَاهُمْ)  باللهجة العراقية، أي دعْهُ يمرّ، هذا مع السيد الخوئي وجماعته، فخرجت معهم من باب المسجد وصعد السيد بمساعدة مرافقيه إلى سيارته وأغلقت قوات الأمن باب المسجد بعد خروجنا منه على من تبقى من المصلّين، وسرت في الطريق وحيداً إلى محلّ سكني الكائن بعد شارع الرسول في الجادة الخامسة القريبة من شارع المدينة، وقد بدت ساحات المقام والشوارع المحيطة به والموصلة إليه مقفرة وموحشة وقد خلت من المارّة والزائرين،  وكانت أبواب المكتبات والمتاجر والمطاعم والحوانيت مغلقة بعدما كانت مكتظّة بجموع الناس قبل ساعتين تقريباً.

اعتقال الصّدر وحصار منزله

محمد باقر الصدر
محمد باقر الصدر

علمنا في اليوم التالي أن قوات أمنية اقتادت السيد الصدر إلى بغداد، وأعادوه بعد ذلك إلى النجف في اليوم التالي أو في اليوم الذي بعده على ما بقي في الذاكرة.

اقرأ أيضاً: السيد علي الأمين.. الشاهد على إستشهاد محمد باقر الصدر (1): الاعتقال والترهيب ومنع المواكب الحسينية

وقد انتشرت عناصر من القوات الأمنية بلباسها غير العسكري حول منزل السيد الصدر الكائن في محلّة العمارة القريبة من المقام،  وكانت تلك الإجراءات خطوة فرضت عليه ما يشبه الإقامة الجبرية، ولعلها كانت لمراقبة الداخلين عليه والخارجين من عنده،  ولاختبار مدى ردّة الفعل لدى الحوزة والنّاس على التضييق عليه.

وفي تلك الظروف الأمنية قلّ الزائرون له، ولم نعد نرى أثراً لتلك الوفود الشعبية في النجف، ولم تقم الحوزة بأي عمل يظهر الرفض لما جرى ويجري من أحداث.

وبعدما أصبح السيد الصدر في شبه عزلة تامّة وتحت المراقبة المشدّدة أذكر أني ذهبت إلى زيارته في بعض تلك الأيام الموحشة، فوجدته وحيداً في منزله،  وبعدما خرجت من منزله تبعني بعض رجال الأمن واستوقفني وسألني عن إسمي طالباً هويّتي الشخصية، وتكرر هذا السؤال عدّة مرّات في زيارات أخرى.

السابق
من العناية الفائقة الى المنزل.. اليكم ما قال رئيس الوزراء البريطاني!
التالي
كاهن كفرحبو الضنية يخالف قرار التعبئة.. ويحتفل بالشعنينة!