السيد علي الأمين.. الشاهد على إستشهاد محمد باقر الصدر (1): الاعتقال والترهيب ومنع المواكب الحسينية

السيد علي الامين
اية الله السيد محمد باقر الصدر هو مرجع ديني غير تقليدي، لم تعرف الطائفة الشيعية في العصر الحديث نظيرا له في رحلة عمره القصيرة، لقبه "الفيلسوف" بسبب كتاباته في "فلسفتنا" و"اقتصادنا" وغيرها من المؤلفات، وهو ابن عم الامام المغيب السيد موسى الصدر وصهره زوج شقيقته، واذا كان الامام الصدر اللبناني لم يهنأ بعمر طويل بين الناس فجرى خطفه وتغييبه في ليبيا وهو ابن 52 عاما سنة 1978، فان القدر أمهل ابن عمه العراقي السيد باقر الصدر عامين فقط، ليجري اعتقاله واعدامه في 9 نيسان عام 1980 على يد نظام صدام حسين البعثي وكان في 44 من عمره..

العلامة السيد علي الأمين كان شاهدا من قلب الحدث في الايام التي سبقت اعتقال واعدام استاذه السيد الشهيد محمد باقر الصدر، فجرى اعتقاله ايضا لكنه نجا من القتل، فكتب لاحقا مستذكرا عن أحداث زيارة الأربعين للإمام الحسين (ع)  في سنة ١٩٧٧:

… اتخذت الحكومة العراقية إجراءات للتضييق على زوار الإمام الحسين (ع)  في ذكرى الأربعين، فأصدرت قرارات بمنع المواكب الحسينية، وقد خرجت على أثر ذلك مظاهرات شعبية في النجف الأشرف، وقد شهدت بعضها في الصحن الحيدري وكان من شعاراتها التي سمعتها (الله، الله،  حسين وينا،  منعو العادة علينا)  والمقصود بالعادة (زيارة الإمام الحسين في كربلاء) وقد تمّ قمعها من قبل السلطات، وقد خنقتني العبرة وقتذاك، ولأني لم أكن أتوقع صدور القمع في ذلك المكان قلت مخاطباً أمير المؤمنين (ع)  لقد ظُلِمْتَ يا إمامي حيَّاً وميّتاً.

وفي تلك الأيام ذهبت مجموعة من العلماء وطلاب العلوم الدينية -وكان معظمهم من اللبنانيين- إلى مقر منظمة البعث في النجف الأشرف للإستفسار عن تلك الإجراءات،  وكان مقرّ المنظّمة قريباً من مبنى كلية الفقه، وتم الإجتماع مع رئيسها، وكان يدعى على ما أظنّ (عدنان أو إبراهيم سيد خلف) وقد سمعت من خلال النقل أنه قال لهم بأن المواكب الحسينية كانت لنا بمثابة السلّم لوصولنا إلى السلطة، فكيف نسمح باستخدام غيرنا لها!

إقرأ أيضاً: السيد الأمين يشدد على الحجر المنزلي: الشريعة تحثّ على صحة البدن!

ويقول السيد الأمين أنه على الرغم مما جرى من تضييق وترهيب لم تنقطع وفود الزائرين عن التوجه إلى كربلاء في حافلات الركاب وسيراً على الأقدام كما رأيتهم خلال التوجّه مشياً إلى كربلاء، وقبل الوصول إلى بلدة (خان النص)  التي تقع بين النجف وكربلاء استوقفتنا سيارة قادمة من كربلاء باتجاه النجف وطلب بعض ركابها منّا الرجوع معهم إلى النجف لأن الأوضاع الأمنية قد تدهورت في كربلاء، وقد فوجئنا بالخبر، وقد رفضنا العودة، وأكملنا المسير باتجاه (خان النص)  التي وصلنا إليها ليلاً، وقد بدت خالية حتى من سكانها يخيّم عليها الصمت المخيف والسكون المريب مع أنها الملتقى في تلك المناسبة لتجمعات الكثير من مواكب السائرين إلى كربلاء !

على الرغم مما جرى من تضييق وترهيب لم تنقطع وفود الزائرين عن التوجه إلى كربلاء!

وقد استضافنا في تلك الليلة رئيس بلديتها، وعرفنا من خلاله أن اصطداماً في البلدة قد حصل بين المواكب الحسينية وبين السلطات وتم اعتقال الكثيرين، وكان من شعارات بعض المواكب (يا صدّام شيل إيدك، جيش وشعب ما يريدك) أي، إرفع يدك.

الاعتقال الأول

وفي الصباح خرجنا وأكملنا المسير باتجاه كربلاء، وكنا نرى المشاة في الطريق إلى كربلاء، وسمعنا في الأثناء دوي الطيران الحربي في المنطقة،  وعند الوصول إلى منطقة (خان النخيلة)  فوجئنا بوجود حشد كثيف من الجيش بلباس الميدان وبكامل العدة يقطعون الطريق على المشاة إلى كربلاء ويوقفونهم ويصعدونهم في شاحنات عسكرية، ونحن جاء إلينا رجل أمن وأخذنا إلى ضابط في الموقع وتم اقتيادنا في سيارة تابعة لشرطة النجدة إلى السجن في كربلاء التي وصلناها عصر ذلك اليوم،  وفتح السجّان باب السجن وأدخلنا إلى بعض غرفه، وكانت مكتظّة بالمعتقلين، وبعد حلول وقت العشاء من ذلك اليوم جاءت مجموعة من رجال الأمن تخرج المعتقلين من غرفهم وتوقفهم خارجها في طوابير طويلة، وطلب رجال الأمن من تلك الطوابير السير، ولم نعرف الوجهة المقصودة ليتبيّن لنا بعد ذلك نقلنا إلى مبنى مركز محافظة كربلاء الذي وجدناه بعد إدخالنا إليه يعجّ بطبقاته وساحاته بالألوف من المعتقلين الذين كانوا ما يزالون يدفع بهم إليه، وبعد منتصف الليل وازدياد أعداد المعتقلين أحضر رجال الأمن شاحنات عسكرية وطلبوا منا الوقوف في صفوف للصعود إليها قائلين لنا بأن هذه الشاحنات سوف تنقلكم إلى أهاليكم، ولم أصدق هذه المقولة، وقلت في نفسي إنهم يأخذوننا إلى معتقل آخر، وبعد الصعود إلى الشاحنة وامتلائها بالمعتقلين صعد معنا عسكري بسلاحه وأغلقها علينا، وقد علمت من خلال النظر في بعض الثقوب في غطاء الشاحنة أنها لا تسير باتجاه النجف فأدركت أن الوجهة إلى معتقل جديد، وهذا ما كان، فقد تبيّن لنا بعد ساعة من السير تقريباً أن المعتقل الجديد هو معسكر الرشيد القريب من بغداد، وهو يتسع لعشرات الألوف، وبمجرّد وصولنا إليه وإنزالنا من الشاحنات طلب رجال الأمن منا رفع أيدينا واستقبال الحائط بوجوهنا، وتمّ بعد تفتيشنا توزيعنا على غرف هذا السجن الكبير التي لم تتّسع رغم كثرتها لأعداد المعتقلين، وقد نصبوا الخيم الإضافية لاستيعاب أعدادهم، وكانت تلك الغرف صغيرة المساحة،  وقد كان في غرفتنا ما يزيد على الأربعين فرداً، بعضهم يلتصق ببعض وقوفاً وقعوداً.

كانوا يختارون من كان يرتدي اللباس الأسود أو العمامة، ولعل ذلك كان لأجل دلالتهما في تلك المناسبة على أن المرتدي لهما كان من الزوّار الخارجين على السلطة!

وكانت أبواب تلك الغرف مصنوعة من قضبان حديدية توجد فيما بينها فُرَجٌ تفسح المجال للرؤية، فكان بعضنا يرى البعض الآخر في الغرف المتقابلة،  وبعد فترة من توزيعنا على تلك الغرف بدأ استعراضنا من قبل رجال الأمن والمخابرات، وأخرجونا على دفعات، فكانوا يختارون أولا من كان يرتدي اللباس الأسود أو العمامة، ولعل ذلك كان لأجل دلالتهما في تلك المناسبة على أن المرتدي لهما كان من الزوّار الخارجين على السلطة!

وقد أوقفونا في طابور طويل وبدأوا بعملية تغطية أعيننا بكل ما توفّر لدى المعتقلين من أغطية للرؤوس وغيرها، وعندما وصل الدور إلي فلم يجد عندي ما يغطي به عينيَّ سوى عمامتي فنزعها عن رأسي وحلّ رباطها وبدأ يلفها على الوجه والعينين، وهكذا فعلوا بسيد أفغاني يقف معي في نفس الصف وكان قد اعتقل معنا في الطريق إلى كربلاء، وفرقت بيننا أماكن الإعتقال إلى أن اجتمعنا في معسكر الرشيد، ثمّ طلبوا منا بعد ذلك الوقوف مثل (القطار) على حدّ تعبيرهم، أي أن يمسك كل شخص منّا بكتف رفيقه.

وساروا بنا ونحن معصوبوا الأعين لا نعرف أين نضع أقدامنا، وبعد إيقافنا عن السير مددت يدي أتلمس بها شيئاً لعلي أستند إليه لأخفف بعضاً من العناء والإرهاق، فاتكأت على شيء لم أعلم ما كانت طبيعته ونزلت أرضاً وبقيت ممسكاً به، وجاء بعض الجلاوزة طالباً ترك الإمساك به،  نسمع صوته ولا نستطيع أن نراه،  قائلاً باللهجة العراقية (عوفه، شنو هذا شباك العباس! ) أي اتركه،  فليس هو شباك العباس، ورفسني بقدمه طالباً مني الوقوف مجدداً،  وسمعت صوتاً آخر يطلب القيام، فقلت لا أقوى على الوقوف،  وتركت على تلك الحال قاعداً.

في غياهب السجن

وبقينا في انتظار السَّوق إلى مراكز التحقيق التي تعرف عندنا بمراكز الموت، وكنت في الأثناء أسمع السيد الأفغاني المجاور لي يستغيث بالله مستشفعاً بالإمام الحسين عليه السلام، وكان صوته المتهدّج يحمل الكثير من علامات العناء والرعب، والحزن والأسى،  وهذا مما ترك أثراً من الخوف في نفسي،  وفي تلك اللحظات حضرت في ذهني صورة الأهل في لبنان، وأطفالي والعيال في النجف الأشرف،  فاشتدّ حزني على الغربة والفراق وخوفي من أن ألا أراهم مجدّداً، وفي تلك الحال التي كنت أتضرع فيها إلى الله تعالى انتقلت إلى ذهني صورة الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام، وهو يعاني في سجن الرشيد، وقلت في نفسي عليَّ أن أقتدي بصبره وصموده وتحمّله للصّعاب حتى انتهت حياته بالشهادة، وقلت بأن الطاغية يمكنه أن يسلب حياتي بطلقة رصاص في الرأس، ولكنه لن يستطيع منعي من اللقاء بالأحبّة، لأن هذه الفترة الزمنية التي لا ألتقيهم فيها سوف تنتهي حتماً، وهي ليست شيئاً يذكر من الزمان الطويل عند الله تعالى، وحضرني في تلك اللحظات حديث (من مات وكان آخر كلماته لا إله إلا الله دخل الجنة)  وقد يكون بيننا وبين الموت خطوات، فأحسست بعد ذلك بخروج حالة الضعف والخوف من نفسي وحلول القوة والثبات فيها، ونسيت الفرقة والغربة والمعاناة، واستعدّيت لملاقاة الأسوء والأخطر.

قد يكون بيننا وبين الموت خطوات، فأحسست بعد ذلك بخروج حالة الضعف والخوف من نفسي وحلول القوة والثبات فيها!

وبعد طول مدّة الإنتظار التي بتنا لا نعرف معها دخول الليل أو بقاء النهار أتى من ساقني بيدي وذهب بي إلى مكان وكشف عمامتي التي عصبت بها عن وجهي وعينيّ فوجدت نفسي في الليل واقفاً أمام شخص في مكتبه، وكان يؤتى إليه بأشخاص آخرين من المعتقلين وبين يديه أعوان معهم أدوات التعذيب، كالعصا الكهربائية وخشبة تدخل فيها الأرجل ويتم ربطها بها تثبيتاً للقدمين كي لا يتمكن المعتقل من تحريكهما أثناء الضرب عليهما وكان الصراخ من الألم والإستغاثة تتردد أصداؤهما في المعتقل،  وكان تعذيب شخص أمام آخر وسيلة متبعة في تلك الأقبية لبثّ الرعب والترهيب في نفس الآخر قبل التحقيق معه تمهيداً لانتزاع المعلومات.

وبدأ التحقيق معي حول المشاركة في الزيارة وعن معرفتي بالمجموعات التي نظمت التظاهرات، وعن العلاقة بالمرجع الكبير صاحب الفكر الرسالي المستنير السيد محمد باقر الصدر، وعن مرجعيته، وعن العلاقة بحزب الدعوة،  ودوره في الأحداث الأخيرة.

وبما أنني كنت قد وطّنت نفسي على توقع الأسوء والأخطر فقد وجدت ما جرى من ترهيب وتوهين أثناء التحقيق دون ما توقّعته،  واقتادني بعد ذلك بعض عناصر الأمن إلى خارج غرفة التحقيق ليصل بي إلى غرفة فتح بابها الحديدي وأدخلني إليها ففوجئت بوجود شيخ وحيداً فيها كنت قد التقيته في سجن محافظة كربلاء، وكان قد اعتقل أثناء سيره من النجف إلى كربلاء، وهو كان قد أخبرني أنه يسكن في الكويت وقد قدم منها لزيارة الأربعين، واسمه الشيخ المحمودي، ولا أذكر الآن إسمه الأول، وقد التقيته بعد سنوات في مدينة (قم)  سنة ١٩٨٠، وأخبرت بعد خروجي من إيران سنة ١٩٨٣ أنه قتل في حادث سيّارة، رحمه الله.

وبعدما أغلق السجان باب الغرفة الصغيرة والمفتوحة على غرفة أخرى مثلها بدأ الشيخ يسألني عن أحوالي وعما جرى لي أثناء التحقيق، فحمدت الله إليه وقلت له إني متعب وأريد بعضاً من الراحة.

وبقينا معاً لليلتين أو ثلاث، وكان يتردد فيها علينا بعض الجلاوزة متوعداً ومهدّداً حاملاً بيده سلسلة من حديد يسحب بها المعتقل وفيها قيد لربط يديه، وكان يقول مشيراً إليها:هذه للعملاء والخونة وكان يردّد شعار حزب البعث الحاكم (أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة)   وكنّا في الأثناء نلوذ بالصمت.

وفي ليلة من تلك الليالي دخل علينا جندي يحمل سطلاً من ماء الشرب، وعرض خدماته علينا قائلاً (لا تْخافون، أنا إبن وْلَايَتْكُمْ ،  شِتْرِيدُونْ أنا بخدمتكم) أي، ماذا تريدون، أنا حاضر لخدمتكم، أنا إبن مدينتكم، وكان يقصد بها (النجف).

وكنّا نتضوّر جوعاً، فأوصيناه بشراء بعض من الجبن والخبز، فأتانا به، وشكرناه، ودعونا له، ولم نره بعد ذلك، لتغيّر الأحوال في مكان سجننا الذي كان فسيحاً بالنسبة لنا الإثنين، فقد فوجئنا بعد منتصف الليل وكنا نائمين بفتح الباب مع جلبة شديدة ففتحت عيني لأرى أعداداً بالعشرات من المعتقلين يسوقهم رجال أمن وجنود ويدخلونهم علينا، واطمأنت نفسي عندما رأيت معهم رفيق المعاناة والدرب إلى كربلاء الأخ الشيخ سليم صالح الذي لم أعرف عنه شيئاً بعد أن فرّق بيننا توزيع المعتقلين على غرف السجن.

وبعد طلوع صباح ذلك اليوم كانت قد امتلأت الغرفتان الخاليتان من التجهيزات بالمعتقلين، فقد كان فيهما بعض من غطاء لا يكاد يكفي لاثنين،  والأرض عارية، والجوّ بارد في شهر شباط،  وقد تمكن بعض المساجين من حمل وإخفاء بعض البطانيات التي كانوا يجدونها في الخارج أثناء العودة من دورات المياه ليلاً، وقد افترشوا بها الأرض، وكان يتم إخراجنا إلى دورات المياه بشكل طابور مرّتين في اليوم فقط،  مرّة في الصباح ومرّة في الليل، وقد اضطرّ بعض المساجين بسبب مرض أصابه لقضاء حاجته في زاوية من زوايا الغرفة، ولم يفتح السجان باب السجن على الرغم من تكرر المناداة له وطرق الباب عليه من الداخل .

وبفعل تدفق المعتقلين الجدد علينا ازدادت المعلومات من خلال مشاهداتهم وما وصل إليهم من أخبار، فقد علمنا باعتقال السيد محمد باقر الحكيم، وبإعدام مجموعة من الزائرين وأصحاب المواكب الحسينية، منهم حامل الراية الحسينية الحاج عباس عجينة وآخر من آل أبو گلل وغيرهم، رحمهم الله.

وجاءنا ضيوف جدد من المعتقلين، وكانوا من الإخوة السوريين وقالوا لنا بأنهم اعتقلوا في بغداد، وكان معنا في السجن رجل مصري قال بأنه اعتقل في كربلاء.

وكنّا في غرفة المعتقل هذه نؤدي الصلاة وننشغل بعدها بالدعاء رافعين أصواتنا مما أثار البعض من رجال الأمن، وقد سمعته يقول مستنكراً (شنو هذا؟!  ما نسمع بهاي الغرفة إلا صلاة ودعاء!)  .

وبقينا على هذه الحال مدّةً قاربت الأسبوعين لا نعرف مصيرنا،  وكنا نتوقع في كل يوم عند حلول الظلام أن يأتي دورنا لنساق إلى الإعدام، حيث كنا نسمع بعض أطلاقات الرصاص، وكان يقال لنا بأن حملات الإعدام تبدأ ليلاً.

السابق
بالفيديو: طبيب مستاء من «معمل كورونا الإيراني».. ويناشد نصرالله التدخل!
التالي
إصابة جديدة «بالكورونا» في برجا.. ووفاة شخص!