الجمالية والأصالة.. وصفحات مضيئة من الريف

الجاروشة

من أهم أولويات العمل الثقافي في المجتمعات، المحافظة على التراث، لأن المحافظة على التراث هي محافظة على التاريخ، بجوانبه المتعددة، ونواحيه المختلفة.

والمأثورات الشعبية هي جزء أساسي ومهم من التراث، ومن أجل الإبقاء على هذا التراث، فمن الضروري الاعتناء أساساً، من الناحية المادية، على الأقل على عناصر هذه المأثورات، وأهم من ذلك، أن يظلّ المأثور حيّاً بين ممارسيه، أي في مجتمعه وجماعاته ولكي نجعل العنصر حيّاً فلا بدَّ من الإبقاء على الوظيفة التي يؤديها في ظل المتغيرات الجديدة للحياة العصرية.

اقرأ أيضاً: النبطية في كنف العائلات السياسية

إن المأثورات الشعبية بطبيعتها الإبداعية، في تعبير صادق، وحيّ، وحقيقي عن واقع القدرات الإبداعية للمجتمع، كما أنها إبداع حيّ مستمر يعتمد في أسسه الإبداعية على موروثات ثقافية، عايشها المجتمع في تواصل حقبه التاريخية، وهي أيضاً تعبير عن ثقافة هذا المجتمع، عن علاقات أفراده، بعضهم ببعض، عن طريقة حياتهم، عن فنهم ومجهودهم المتواصل، لترتيب أوضاعهم المعيشية والاقتصادية، كما أن هذه المأثورات تظهر قدرة الإنسان – ابن المجتمع الريفي البسيط، المتواضع، من حيث قدراته وإمكانياته، والظروف المحيطة به، القادر على تحويل معطيات الطبيعة والحياة، لتصبح شيئاً نافعاً ومفيداً للإنسان – على إضفاء قيم جمالية على ما هو نافع ومفيد، فيتحول النافع والمفيد إلى شيء له قيمة إنسانية في نفس الوقت.

ثقافة تغيب

إن الحديث والكتابة عن المأثورات الشعبية في مجتمعنا، من كافة جوانبها، محاولة للكشف عن القدرات الخلاقة للإنسان في هذا المجتمع، عن الطاقات الكامنة فيه، لا في مجال الإبداع الفني فحسب، بل في مختلف نواحي وميادين الحياة. إن في مأثوراتنا الشعبية صدقاً بالغاً في التعبير، وهذا التعبير هو الذي كان يعطي لمأثوراتنا حيويتها وأهميتها، فهي تعبير إنساني مباشر، يعبِّر به الإنسان، وبمختلف وسائل التعبير، عن موقفه من تجربة الحياة على أرضه، وهي تعبير أيضاً، يعبِّر به الإنسان عن مقدرته على الإبداع، وإمكانياته على الخلق والفن والإضافة إلى معطيات الحياة على أرضه.

إن إطلاق صفة “الشعبية” على مأثوراتنا، لا يعني الابتذال والضعة، مقابل ما يعرف عن الأمور الأخرى من رفعة في التفكير والتصوير والتعبير والأداء.

إن المأثورات الشعبية التي نعنيها، هي شيء رفيع، يستلهمه الفنان، الأديب، الشاعر، أو غيرهم من روح الشعب، ومن مختلف بيئاته، فيعبّر به عن مشاعر هذه الأمواج المتدافعة من الناس في ملتطم الحياة.

لقد افتقدنا أو كدنا نفتقد الطربوش والكوفية والعِقال والسروال والغمباز وسري الهز والسكملة والنقارة والبرنية والقصعة والجنطاس والكبكة والنملية وصندوق العرائس والمحدلة والنورج والجاروشة والشاعوب والكوارة وغيرها

لم ينجح كبار الأدباء والشعراء والفنانين، أمثال شكسبير، و”غوته”، و”دانتي” وتشيخوف” وغيرهم وغيرهم من أمثالهم، إلا لأنهم يخاطبون الشعب كله، ويجلون ما يختلج في قلبه، وما يختلج في صدره، في أداء صادق، واستلهام أمين، فهم فنانون عظماء، كبار، لا يموتون إلا بأجسادهم لأنهم استطاعوا أن يتملكوا ناصية الجمهور الزاخر، وأن يندسوا إلى أعماق نفسه، فيكون بينهم وبينه تجاوب عميق.

إن تركيزنا على الثقافة الشعبية، وعلى المأثورات الشعبية، هو محاولة للعودة إلى حضارتنا التي هي في طريق الزوال، بحيث أنها أخذت بالانحسار تدريجياً، وخاصة في الريف، كلما غزت الحضارة والمدنية الحديثة هذا الريف، بمظاهرها المتعددة الأوجه والجوانب.

لقد افتقدنا أو كدنا نفتقد الطربوش والكوفية والعِقال والسروال والغمباز وسري الهز والسكملة والنقارة والبرنية والقصعة والجنطاس والكبكة والنملية وصندوق العرائس والمحدلة والنورج والجاروشة والشاعوب والكوارة وغيرها وغيرها من أدوات الفلاحين والمزارعين والحرفيين، وحلَّت مكانها مظاهر جديدة.

أصالة الريف وجمال القرى

وإذا توفي أحد الأشخاص في بلدة أو قرية ما، كنا نرى رجالها، وقد همَّ كل منهم بحمل رفشه ومعوله ومجرفته، وتوجه نحو المقبرة أو الجبّانة ليقوم بواجب المؤاجرة، أي كسب الأجر من الله عز وجل، وكان الرجال “يهدّون عِقلهم، والنساء يضعن العصابات السود على رؤوسهن، ويبقى الحداد لمدة أربعين يوماً، كل هذه الأمور أصبحت اليوم نادرة، وحلّت محلها “الحضارة الجديدة” القائمة على حفر القبور بالأجرة، وإهمال الموت، وعدم الحِداد، وعدم القيام بالواجب كما يجب، إلا للمظاهر فقط، وحلت الخطب السياسية محل مسيرات الندب التي كان يقوم بها الشباب في شوارع وطرقات البلدة أو القرية، ومحل حلقات الندب التي كانت تقوم بها النساء، وتبرعن في القول والندب واللعب بالسيوف والمطارحات بينهن لإظهار شدة الحزن والتأثر.

وإذا ما أراد أحدهم أن يصب سقف منزله، فإنه كان يدعو الأصحاب والجيران إلى ما كان يدعى بـ”الهدَّة” (أي هدّة الجميع على العمل المشترك)، يتجمع هؤلاء منذ الفجر الباكر، حيث يبدأ العمل، وما إن تطلع الشمس، حتى يكون العمل قد أنجز بأكمله، ثم يقيم صاحب البيت وليمة متواضعة على “قدّ الحال”، وتنتهي المسألة بعبارات رقيقة، صادرة عن صميم القلب مثل: “باراك الله بكم يا إخوان” و”الله يسلم ديّاتكم”، و”الله يديمكم” و”الله يقدّرنا على مكافتكم” و”الله يعطيكم العافية”. واليوم طغت المادة على كل شيء، فاختفت الهدَّة ومثيلاتها، ولم يبق سوى العمل بأجر مادي وبـ….

لقد نسي الناس الأغاني التي كانت تُغنى على البيادر، وأيام الحصيدة، ووقت التذرية وغيرها وغيرها

وفي موسم جرش البرغل كانت بنات الحي يجتمعن معاً للجرش، ويساعدهن الشباب، وبعد الانتهاء من العملية يأكل الجميع “الإلبة مع السكر”، ويتحلقون مع بعض “فرخة وديك” في دبكة شعبية على دقات الطبلة ومع الأغاني الشعبية المتداولة.. والسهرات التي كانت تتم حول الموقد، حيث يجتمع الختيارية في أحد البيوت، يسهرون على ضوء السراج، ولمبة الموقد، فيستمعون إلى الحكايا الحديثة، وما يتخللها من أشعار وأزجال وأغاني وعتابا وميجانا وغيرها.

لقد نسي الناس الأغاني التي كانت تُغنى على البيادر، وأيام الحصيدة، ووقت التذرية وغيرها وغيرها.

اقرأ أيضاً: بعض ملامح مدينة صور: مشرقية كالصبح… جميلة ومرهوبة كصفوف الرايات

انطفت صفحات مضيئة من حياتنا الريفية الجميلة، وارتفعت جدران لتحجب عنا أصالة الريف، وجمال القرى، والصباحات الحلوة وتماشي الأصيل، وتجميع الصعتر والزهورات وصلي الدبقات، وحلَّت محل كل هذه الأمور العلاقات الاجتماعية الرسمية، والمصلحة والمادة وعهر المال والتكاذب والاحتيال، والتصنّع والرياء وأكل الحرام وتغليب المصلحة الخاصة الفردية على المصلحة الجماعية.

إن محاولتنا المتواضعة هي محاولة للعودة إلى الماضي الناصع، الماضي الحقيقي، خوفاً من ضياعه ونسيانه تماماً، وموته مع من ماتوا من الذين كانوا يحفظون في صدورهم وبين حناياهم الكثير الكثير.

(مجلة شؤون جنوبية – العدد الأول شباط 2002)

السابق
رئيس الحكومة «المفلسة» يلتزم إعلان دولة لبنان المارقة!
التالي
المخيمات الفلسطينية لم تشملها الاجراءات الصحية.. هلع في «المية ومية» بعد الاشتباه بحالة «كورونا»!