بعض ملامح مدينة صور: مشرقية كالصبح… جميلة ومرهوبة كصفوف الرايات

مدينة صور

رؤيا النبي حزقيال

… إن كلام الرب كان إليَّ قائلاً: …هانذا أجلب على صور نبوخذنصر ملك بابل من الشمال ملك الملوك بخيل وبمركبات وبفرسان وجماعة وشعب كثير. فيقتل بناتك في الحقل بالسيف ويبني عليك معاقل ويبني عليك برجاً ويقيم عليك مترسة ويرفع عليك تُرساً ويجعل مجانق على أسوارك ويهدم أبراجك بأدوات حربه. ولكثرة خيله يغطيك غبارها. من صوت الفرسان والعجلات والمركبات تتزلزل أسوارك عند دخوله أبوابك كما تُدخل مدينة مثغورة بحوافز خيله يدوس كل شوارعك. يقتل شعبك بالسيق فتسقط إلى الأرض انصابُ عزك… وأُبطل قول أغانيك وصوت أعوادك لن يسمع بعد. واصيرك كضح الصخر فتكونين مبسطاً للشباك لا تُبنين بعد لأني أنا الرب تكلمتُ يقول السيد الرب. (العهد القديم)

اقرأ أيضاً: النبطية في حقبة الأربعينات والخمسينات تجاذبات فكرية ودينية أَثْرَتِ الجنوب ومحيطه

ليس هيّناً أن تفتح تاريخ مدينة، فكيف الحال مع صور… تلك الصخرة الناتئة في البحر “المشرقيّة كالصبح، الجميلة كالفجر، المختارة كالشمس، المرهوبة كصفوف تحت الرايات”.

هرقل (ملكارت): سأخبرك يا باخوس عن كل شي، فعِ كلامي. منذ الأزل سكن البشر هنا، عمرهم كعمر الكون، ولدوا يومها من التربة البكر التي لم تفلح، وأنشأوا مدينة على أرض صخرية ثابتة لا تزعزها الدهور.. وكنت أنا، بقلبي المفعم بالحب للمدينة واقفاً على رؤوس أبناء الطين

ليس هيّناً أن نطوي خمسة قرونٍ دفعة واحدة… لنحكي عن انبعاث جديد، وبحر لا زال يغسل ضفافها، لكأنها كل حكاياه وبعض متاعبه مع أولئك البحارة الأول الذين رفضوا الانصياع للمكان، فعبروه مدججين بالأحلام، الذهب، الفضة ومقالع الصخر لبناء عوالم جديدة في العالم القديم، وإلهام بعضه الآخر بفضيلة المغامرة.

…ومع ذلك فمن حقها علينا أن نتلمس تاريخها الحديث، وبخاصة أن نبوءة النبي حزقيال ما زالت تتداوم على واقعها وتهدد وجودها، هذا الوجود المحفوف على الدوام بخطر ما.

يبدأ تاريخ صور الراهنة يوم نزلها الشيخ عباس المحمد النصار العام 1749م، وكانت عبارة عن خرائب وبيوت مهدمة تخلو من معالم الحياة إلا من عشرة أشخاص على الأكثر وملاحة واحدة، فسعى النصار إلى تأسيس مجتمع تصوّره حلاً لإعادة المدينة إلى ما كانت عليه، وقام ببناء مركز حكومي، وخان للنزلاء، وسوق ومرفأ ومسجد، وأجاز ببناء كنيسة، لكن هذا لم يكن كافياً، فقد كان عليه أن يوفر الطاقة البشرية لتفعيل الحركة، ويبدو أن استدعاء السكان لم يكن عفوياً، بل كان عن سابق تصور، فصُور بحرية، والمسيحيون في جبيل خبراء في الصيد وصناعة المراكب، والمصريون السنَّة في صيدا خبراء تجارة واستيراد، والشيعة في جبل عامل أهل زراعة وفلاحة، على هذه الأسس قام المجتع الصوري منذ مائتين ونيف من السنين، وهذا التنوع لا تزال ملامحه قائمة للآن.

بعد قرن من التأسيس تقريباً، كان في صور من السكان 1650 مسيحياً، و5107 مسلمين، وكان فيها أديار وكنائس للروم الكاثوليك والروم الأثوذكس والموارنة واللاتين والبروتستانت ومسجد واحد، ما حوت على مدرستين للذكور ومدرستين للإناث (مار يوسف والإنجيلية) إلى جانب مدرسة حكومية واحدة.

وهكذا وخلال سنوات قليلة عادت صور إلى واجهة المدن اللبنانية، وأصبحت مركزاً تجارياً، ترد إليها السفن الشراعية من كل صوت لابتياع حاصلات البلاد من حبوب وتبغ وقطن وحبوب.

وصور في تاريخها الحديث نسبياً تعرضت مرتين للهدم والتخريب وتهجير سكانها وكأنها مسكونة باللعنة. ففي المرة الأولى يوم استعاد الأشرف خليل بن قلاوون المدينة من الصليبيين العام 1290 هدمها وسواها مع الأرض، ويضيف المؤرخ ابن السمعاني: “وهكذا أراح الناس منها”! والثانية: عندما رأى الشيخ قبلان ازدهار مدينة صور وتقدم العمران فيها، وازدهار التجارة فيها راح يفاوض الشيخ عباس نصار للتنازل عنها، ولما رفض عزم على الاستيلاء عليها قسراً. فهاجمها بأربعمائة فارس، ونهب دورها وحليّ نسائها وهدم بعض معالمها مغتنماً غياب حاكمها الذي اضطر فيما بعد إلى ورشة إعمار جديدة لإعادتها إلى ما كانت عليه.

وفي سنة 1831 آل الحكم في سوريا والشاطئ اللبناني إلى إبراهيم باشا فتحرر سكان المدينة إلى حين من الطغيان التركي، وأخذت صور تنتعش والحركة التجارية فيها تشتد وتقوى، ويقول الرحالة فلمنغ في كتابه “تاريخ صور”: “لو لم تتدخل الدول الأوروبية لمساعدة الأتراك لردّ إبراهيم باشا لتابعت صور تقدمها، ولفاقت جميع مدن الساحل السوري مدنية وعمراناً، فقامت أساطيلها العام 1840 وضربت صور وطرابلس، وأنزلت قواتها في جونية”.

وقد بلغ عدد سكان صور في هذه الأثناء ثلاثة آلاف نسمة، وتابعت نموها البطيء ليصل تعداد سكانها إلى 6000 في مطلع القرن العشرين. بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى، تشكَّلت في صور حكومة وطنية برئاسة الحاج عبد الله يحيى، على غرار الحكومتين اللتين شكلهما رياض الصلح وعمر الداعوق في صيدا وبيروت، ولكنها لم تدم طويلاً فقد أقالها الحاكم العسكري الفرنسي الذي انفرد وحده بإدارة شؤون البلاد.

وفي أول أيولل سنة 1920، عندما أعلن المفوض السامي نشوء دولة “لبنان الكبير” أصبحت صور والقرى المحيطة بها، أحد أقضيته، وهي اليوم عاصمة جبل عامل الدينية والثقافية والاقتصادية.

على أن صور عانت الإهمال شأنها شأن الجنوب عموماً، فقد أهملها الاستقلال اللبناني وبدت منطقة نائية، معزولة عن لبنان، وبعد سيل من المطالب والتظاهرات والإضرابات حاولت أن تدخل الدولة صور بمشروع إنمائي وإعماري.

في أيام أبي الفدا (1321) والقلقشندي (حوالى 1400) وخليل الظاهرة (حوالى 1450) كانت صور لا تزال في خراب تام، ولم ير ابن بطوطة (1355) من أسوار المدينة ومن منشآتها ومن مرفئها إلا بقايا (المؤرخ معن عرب)

إعادة تخطيط

ففي العام 1965 كُلفت لجنة استشارية لإعادة تخطيط، فاصطدمت بعشوائية المشروع نفسه الذي بدا آنذاك وكأنه جاء من السماء إلى الأرض كمخلوق عجائبي. وقد قام هذا المشروع على تقسيمات غلب عليها الطابع الفني على حساب الاجتماعي منه، فقد قسم المدينة إلى:

1 – 30% من المساحة (آثارات).

2 – 30% منطقة خضراء.

3 – 40% فنادق ومنتجعات سياحية.

هذه بطلة المدن… الكلام عليها ما له نهاية (سعيد عقل)

ومن الملاحظ أن هذا المشروع في حينه لم يلحظ الواقع الاجتماعي للمدينة ولا نموّه المضطرد، على حساب تحويل المدينة إلى مركز سياحي، وكأنه يبنى على أرض بور لا وجود لساكنين فيها، وقد رُفض هذا المشروع لأن تنفيذه من شأنه أن يحول دون التنوع الموجود في المدينة التي تعيش ذاكرة هي مزيج من الإسلام والمسيحية والفينيقية والكنعانية، ذاكرة كاد أن يحولها المشروع المذكور إلى “بابيون وفوطة بيضاء” همها تقديم الخدمات على حساب العراقة الأصيلة التي امتازت على الدوام بتنوعها الحضاري والثقافي والاجتماعي.

وفي موازاة هذا المشروع وفي العام ذاته تقدمت إيطاليا بمشروع يهدف إلى وضع المدينة في مصاف المدن العالمية السياحية، وقام هذا المشروع على النقاط التالية:

1 – وقف البناء في المدينة، وإبقاء ما هو قائم.

2 – تحويل صور من شبه جزيرة إلى جزيرة، بفتح مجرى مائي يبدأ من منطقة البص وينتهي ببحر الصليب، فيعزل المدينة عن البر.

3 – حفر قنوات مائية في الحارات القديمة على غرار البندقية في إيطاليا.

4 – بناء مدينة عصرية حديثة خارج المدينة التي كانت قائمة آنذاك.

5 – المحافظة على الشاطئ الرملي وعدم المساس به.

6 – التنقيب عن الآثار في مختلف الأماكن دون استثناء.

عندما زارها الرحالة ساندي (1610م) وجدها لا تزال كومة من تراب ولم يشاهد فيها ماوندول سنة 1697م بيتاً واحداً سليماً، ولم يكن يسكنها سوى عدة صيادين فقراء. والأهمية الوحيدة التي بقيت لصور تلك الأيام أنها كانت مقلعاً للحجارة والرخام (الرحالة البريطاني رايت)

مشروع الحلم

لكن هذا المشروع – الحلم – سرعان ما بخّرته الأحداث السياسية والعسكرية المتسارعة والتي كان لها بليغ الأثر على لبنان عموماً، والجنوب خصوصاً، ما أدى إلى فوضى عارمة في مختلف المجالات، غيّبت كثيراً من ملامحها، وشوَّهت بعضه الآخر.. ما يستدعي إعادة النظر، ووضع البرامج والخطط، لإنقاذ ما تبقى، وإعادة ما أمكن، مما فقدته من بريق وفرادة قل مثيلها.

اقرأ أيضاً: جورج جرداق.. المرأة في حياتي طوفان من الفتنة

هذه، باختصار أهم المحطات التي عاشتها المدينة في تاريخها الحديث وتبقى الإشارة ضرورية إلى عدد من الخطوات لا بد منها إذا ما أردنا تطوير المدينة الراهنة ويمكن أن نلحظ الآتي:

1 – توسيع النطاق البلدي، الذي لا يتعدى الآن نطاق قرية.

2 – استثمار البحر تجارياً، وثروته السمكية.

3 – استثمار منطقة الجفتلك سياحياً، لما فيها من مياه سطحية صحية.

4 – إشراك كل صاحب رأي في عملية التطوير المتبعة قبل اتخاذ القرار، لأن هؤلاء أهم أصحاب المصلحة الأساسيون.

وبغير هذه الوسائل وغيرها، تبقى صور أشبه بضاحية صغيرة في جبل عامل، بدل أن تكون مدينة استقطاب.

(مجلة “شؤون جنوبية” العدد الأول – شباط 2002)

السابق
الصين تُراسل برّي: شُكر وتضامُن!
التالي
العلاقات الإيرانية السعودية ملامح وشواهد من رؤية الإمام الخميني