النبطية في كنف العائلات السياسية

النبطية

المفارقة أنه إلى جانب كل الفوران الثقافي النهضوي والأيديولوجي الذي كانت الحاضرة العاملية تغلي به كان الكثير من أبنائها يرزحون تحت أغلال الإقطاع السياسي الجنوبي.

العائلات السياسية

كان الإقطاع السياسي في جنوبي لبنان آنئذ في عز قوته وأوج جبروته، وكان يتمثل ببضع عائلات ترث الزعامة أباً عن جد، أقوى هذه العائلات وأكثرها نفوذاً كان آل الأسعد، فقد كانت حزبية الزعيم الأسعدي متجذرة وممتدة في كل انحاء الجنوب لدرجة كان يقال عنها أن أحمد بك الأسعد والد كامل بك الأسعد رئيس مجلس النواب الأسبق كان قادراً على إنجاح “خشبة” في لائحته الانتخابية، وكان يليها في القِدم آل الفضل أبناء النبطية الذين كان جدهم فضل بك الفضل عضواً في مجلس “المبعوثين” العثماني، وهذه العائلة كانت حليفة دائمة لآل الأسعد، واشتهر حداء جنوبي انتخابي في الأربعينيات يقول: “أحمد بك زعيم جبلنا والفضل سلطان الجنوب” (محمد الفضل كان نائباً عام 1943 وزيراً عام 1944).

لكن من يتذكر آل الفضل الآن؟ وفي مواجهة آل الأسعد كان يقف بدرجة أولى آل عسيران فزعامة عادل بك عسيران (الرئيس الأسبق لمجلس النواب) كانت تتفرع في عدة أنحاء جنوبية.

اقرأ أيضاً: النبطية في حقبة الأربعينات والخمسينات تجاذبات فكرية ودينية أَثْرَتِ الجنوب ومحيطه

أما آل الخليل الذين كانت زعامتهم تتركز في منطقة صور وتمتد إلى منطقة بنت جبيل فقد اشتهروا بالبطش والخصومة الشديدة لآل الأسعد لدرجة أن زعيمهم كاظم بك الخليل النائب والوزير الأسبق وأقرب المقربين للرئيس كميل شمعون، تمكن في إحدى المرات وبواسطة أنصاره المسلحين في منع أحمد بك الأسعد على رأس موكب شعبي ضخم من دخول مدينة صور، وكان يحالف أحمد بك في منطقة صور بمواجهة آل الخليل محمد صفي الدين (أبو شوقي) الذي بدأ قاضياً ومن ثم خاض المعترك السياسي ودخل مجلس النواب عام 1953 وتسلم المنصب الوزاري عام 1958 وانضم إلى حكومات عديدة فيما بعد. كما أصبح رئيساً للجبهة الديموقراطية البرلمانية (جبهة النواب الشهابيين) خلال عهدي الرئيسين شهاب وحلو.

وكان لأحمد بك الأسعد في منطقة النبطية خصم قوي وعنيد هو يوسف بك الزين الذي بقي يحتل المقعد النيابي عن النبطية سنوات طويلة وحتى وفاته سنة 1962 فحل محله نجله عبد اللطيف بك الزين، وكان يوسف بك وكاظم بك الخليل حليفين دائمين لعادل بك عسيران في اللوائح الانتخابية التي كان عادل بك يترأسها في مواجهة لوائح أحمد بك الأسعد، فقد كان الجنوب قبل العهد الشهابي منطقة انتخابية واحدة (عمد العهد الشهابي إلى تقسيم لبنان كله إلى دوائر انتخابية متوسطة الحجم).

وكان من الغرابة بمكان أن يبقى الإقطاع السياسي متمكناً على هذا الشكل في النبطية البلدة التي كانت تزدحم بالأدباء والعلماء والمثقفين والمتعلمين وحملة الشهادات، وتغلي أيضاً بالأيديولوجيات وأحزاب اليسار، ولكن هذا الواقع المستغرب فعلاً دفع بعض أبناء أسر الملاكين والأثرياء من خريجي الجامعات في لبنان والخارج إلى محاولة كسر هذا الطوق من طريق خوض المعترك الانتخابي فصدموا عندما اكتشفوا صعوبة الدرب واضطرارهم في سبيل الوصول إلى الاتكال على زعماء الإقطاع السياسي نفسه. وهذا ما حدث فعلياً، وبدأ هذه التجربة الطبيب الأديب والشاعر الدكتور علي بدر الدين الذي تمكن من دخول الندوة النيابية مرة واحدة خلال الخمسينيات وانسحب بعدها من الحياة السياسية. والمحاولة الثانية تابعها الدكتور رفيق شاهين خريج الجامعات الأميركية في العلوم السياسية من خلال انتخابات عام 1957 عبر انضمامه إلى اللائحة الأسعدية في مواجهة مرشح قوي هو يوسف بك الزين فكان مصيره الفشل خاصة وأن الرئيس كميل شمعون عمد في تلك الانتخابات إلى إسقاط معظم رؤوس الإقطاع السياسي بمن فيهم أحمد بك الأسعد، لكن الدكتور شاهين عاد فنجح في دخول مجلس النواب عام 1960 وعلى جناح أسعدي أيضاً، وتسلم في العام نفسه منصب وزير التصميم.

وأوائل الستينات، برز طامح آخر من أبناء الأسر الثرية لخوض المعترك الانتخابي هو المهندس أنور صبّاح خريج الجامعات الأميركية أيضاً، وبالوقت نفسه احتدمت المنافسة بين أجنحة العائلة الواحدة آل شاهين، فتقدم إلى الحلبة الانتخابية الدكتورغالب شاهين (ابن شقيقي سعيد شاهين أكبر إخوتي الكبار من الزوجة الأولى لوالدي) وكان حائزا على ليسانس صحافة من الجامعة الأميركية في القاهرة ودكتوراه في العلوم السياسية والقانون الدولي من الجامعات الأميركية وتمكن الاثنان: المهندس أنور والدكتور غالب، من الانضمام إلى اللائحة الأسعدية في انتخابات عام 1964، وكانت الزعامة الأسعدية قد آلت إلى كامل بك الأسعد بعد وفاة والده أحمد بك عام 1962، وعمل كامل بك لفك اتفاق والده مع الدكتور رفيق شاهين، الذي ترشح خارج اللائحة فمُني بالفشل، بينما نجح المنافس الشاهيني له والطامح الصباحي في دخول الندوة النيابية، كما تسلم الدكتور غالب شاهين عام 1965 مركز وزير التربية في حكومة الرئيس رشيد كرامي.

لكن ذلك الشاب النابض بالعلم وحب الخدمة العامة رحل رحيلاً مأساويا في سن مبكرة جداً إثر نوبة قلبية عام 1968 ولم يكن قد مضى على زواجه سوى بضعة أشهر.

1964 و1968 انتخابات ومرشحون

لكن النبطية شهدت أيضاً عام 1964 تجربة انتخابية أخرى جذرية وكانت نتائجها صدمة معبرة. فقد خاض تلك المعركة مرشحاً منفرداً الدكتور عفيف فخر الدين خريج جامعات سويسرا وهو من عائلة ملاكين كانت تعدُّ من أكبر عائلات مزارعي التبغ في الجنوب يوم كانت هذه الزراعة الأكثر ازدهاراً. وقد طرح الدكتور عفيف شعار محاربة الإقطاع السياسي متكلاً على خدماته الطبية والمجانية لأهالي النبطية. وحصل على نسبة كبيرة من الأصوات لكنه فشل في دخول الندوة فتألم لذلك وهو المشهور بإنسانيته وفضَّل الهجرة إلى أفريقيا، وقبله فشل الدكتور بهجت ميرزا في دخول الندوة، وذلك في انتخابات عام 1960.

أما في انتخابات عام 1968 فقد انتكست اللائحة الأسعدية في النبطية فلم يتمكن من مرشحاها أنور صباح وفهمي شاهين شقيق الدكتور غالب شاهين من النجاح، وفي الوقت نفسه عاد إلى الندوة الدكتور رفيق شاهين إنما على جناح شهابي هذه المرة،. واحتل أيضاً عام 1969 مقعد وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وفي انتخابات عام 1972 وبعد النكسة التي أصابت المد الشهابي إثر انتصار الرئيس سليمان فرنجية وفوزه برئاسة الجمهورية نجح الأسعديان أنور صباح وفهمي شاهين في دخول الندوة وفشل في ذلك الشهابي رفيق شاهين، لكن القدر كان لآل شاهين بالمرصاد، ففي خريف 1974 وكان فهمي شاهين قد أصبح وزيراً للإعلام أصيب فجأة بنوبة قلبية شُفي منها، لكنه اضطر بناء لنصيحة الأطباء للسفر إلى لندن لإجراء عملية قلب مفتوح حيث لم تكن مثل هذه العمليات قد تطور إجراؤها في لبنان، وبالفعل أجرى له هذه العملية طبيب القلب المصري المشهور في لندن الدكتور مجدي يعقوب فكانت عملية فاشلة ذهبت بحياته. فكان رحيله في ظروف مشابهة جداً لرحيل شقيقه الدكتور غالب شاهين رحيلاً محزناً جداً فجع عائلته كما شكّل فاجعة وحزناً عظيماً لأهالي النبطية وعموم منطقتها.

أما في انتخابات عام 1968 فقد انتكست اللائحة الأسعدية في النبطية فلم يتمكن من مرشحاها أنور صباح وفهمي شاهين شقيق الدكتور غالب شاهين من النجاح

نهاية زعامة الأسعد

ونظمت بعد ذلك انتخابات فرعية ضمن المهلة القانونية عاد خلالها إلى الندوة النيابية الدكتور رفيق شاهين الذي تلقى دعماً كبيراً من الإمام موسى الصدر ومن بعض العائلات السياسية الجنوبية المعادية لرئيس مجلس النواب في حينه كامل الأسعد مثل آل عسيران وآل الزين، مسجلاً فارقاً كبيراً في الأصوات زاد على خمسة آلاف صوت، على أحد وجهاء النبطية المرحوم كامل علي أحمد المرشح الأسعدي الذي كان الرئيس الأسعد قدَّم له دعماً غير مسبوق منه، تمثل في إقامته ولأول مرة في النبطية طيلة الفترة الانتخابية، فكان أن شكلت تلك النتائج نكسة انتخابية موجهة لكامل بك والبداية الانقلابية على الزعامة الأسعدية في الجنوب اللبناني كله، وأعقبت هذه النكسة على مدى السنوات اللاحقة متغيرات لبنانية وجنوبية أساسية وضعت هذه الزعامة على طريق الانهيار خاصة وأن كامل بك عجز عن استيعاب تلك المستجدات.

اقرأ أيضاً: بعض ملامح مدينة صور: مشرقية كالصبح… جميلة ومرهوبة كصفوف الرايات

أما بالنسبة لمصير نواب النبطية في تلك المرحلة، فرفيق شاهين وأنور صباح بقيا يمثلانها من خلال مجلس عام 1972 الممدد له حتى عام 1992، وثالث نواب ذلك المجلس عبد اللطيف الزين بقي حتى نهايته، ثم تابع تمثيلها حتى وفاته، والثلاثة تسنموا قبل ذلك المناصب الوزارية.

(مجلة “شؤون جنوبية” العدد الأول – شباط 2002)

السابق
بري ممتعضاً من توغل «حزب الله»: بعد ناقصنا العداوة مع الأتراك!
التالي
إصابات «كورونا» إلى 13 .. هل تعلن الحكومة حالة طوارىء صحية؟