«طال المطال».. حلب تُضيّع أرشيف قدودها!

صباح فخري
هي شامة في الوجه، وفستقٌ يتغنى بطعمه العالم بأسره، لكنّها قبل ذلك قدود تكنّى باسمها "حلب" وتروي اليوم حكاية مدينة مليئة بالعراقة والدمار معاً!

من الأندس إلى الشام، رحلة طويلة عبرتها الموشحات حتى استقرت في حلب وتبلورت بشكل “القدود الحلبية” نسبة إلى أنها نشأت على ألحان دينية أو مدنية، بمعنى أنها بُنيت على “قد”، أي على قدر أغنية شائعة، فاستفادت من انتشار الأغنية المنتشرة لتبني جماهيريتها.

وحيث لا يعرف الكاتب والملحن الأصلي لبعضها مثل أغاني عموري و يا حنينة و برهو و يا ميمتي، يعرف نسب البعض الآخر مثل ربيتك زغيرون التي كانت موشح “يا صفوه الرحمن” لعثمان الموصلي و “يا طيرة طيري يا حمامة” لأبي خليل القباني و “سيبوني يا ناس” لسيد درويش، فكيف إذاً بدأت الحكاية من حلب وأين هي اليوم بعد دمار المدينة القديمة وتهجير ربع مليون مواطن منها واستعادة النظام السيطرة عليها بالحديد والنار؟

العراقة في حلب

إذا فتحت كتب التاريخ عن حلب ستجد اهتمام أهلها بالموسيقى وفنونها منذ قديم الزمان، حيث كان لمدينة حلب شأن كبير بفنون الموسيقى واحتلت مساحة كبيرة من حياة أهلها، لذلك استحقت عن جدارة أن يطلق عليها عاصمة الموسيقى.

كما أن كثير من الكتاب رووا قصصهم مع الغناء في حلب، فسبق وقدم كتاباً إلى أميرها سيف الدولة وهو كتاب “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني، كما أنجز الفيلسوف الفارابي كتابه “الموسيقى” الكبير في مدينة حلب ، وعُرف الكثير من الموسيقيين من الأساتذة الكبار في حلب وخرجت من حلب ألوان الموسيقى العربية.

مطربو حلب
مطربو حلب

تجديد وابتكار

مع نهاية القرن التاسع عشر، بدأت الانطلاقة الفعلية للقدود وأضافها الحلبيون إلى تراثهم الموسيقي لتدخل هذه الفنون في تصنيف الموسيقى العربية وأشهرها القدود والموشحات والموال والطقطوقة التي تطورت بعد ذلك على يد سيد درويش وأحمد صبري ومحمد القصبجي ورياض السنباطي وداود حسني وزكريا أحمد.

إلا أن الأشهر في تلحينها كان الشيخ عمر البطش والذي يعد من أهم من لحن الموشحات وكان من منشدي الزوايا الهلالية في حلب وقد اجتمع وتتلمذ على يديه مشاهير المطربين والملحنين والموسيقيين مثل صبري مدلل وعبد القادر الحجار وبهجت حسان وصبري الحريري.

رقصة المولوية
رقصة المولوية

الانتقال إلى الإعلام

كان لا بد للقدود من أن توّثق موسيقياً عبر الصوت والصورة، هنا ننتقل إلى مرحلة أكثر انتشاراً وإلى خارج حدود حلب، حيث دمشق العاصمة ونستذكر اسم المخرج راتب ولّاية الذي يعتبر رائداً في التوثيق المرئي والمسموع للتراث؛ فقدّم عدة برامج للإذاعة والتلفزيون السوري، نذكر منها “أيام وأنغام”. ثم كتب وأخرج وقدّم 64 حلقة بعنوان “مع الموسيقى العربية”. وفي سبعينيات القرن الماضي، قدّم سلسلة “نغم الأمس”، وأسند البطولة الغنائية لصباح فخري.

إقرأ أيضاً: مطار سوري يعود للعمل بعد 8 سنوات.. الضجة في حلب والمأساة في إدلب

يذكر الباحث سعد الله آغا القلعة، أن عدد ما سُجّل في “نغم الأمس” يقرب من 160 لحناً، ما بين أغنية وقصيدة ودور وموشّح وموّال وأغنية شعبية وقدّ حلبي. أعمال ولاّية رافقها بزوغ نجم شريكه في “نغم الأمس” المطرب صباح فخري، الذي شكّل علامة فارقة في الطرب الحلبي وفي توثيق الموشّحات أيضاً.

قدود حلبية
اشتهر المطرب صباح فخري برقصته الشهيرة خلال غنائه القدود

صباح فخري إلى العالمية

لا يمكن إنكار أن المطرب صباح فخري استطاع نقل القدود الحلبية بصوته إلى كافة أرجاء الوطن العربي، وحتى العالم. فلا تخلو سهرة اليوم في أي مدينة عربية إلا من أغنية على الأقل من أرشيف فخري، والذي تحول بأدائه وطريقة صياغته للجمل إلى مدرسة تتربى عليها أجيال من الفنانين الناشئين في غالبية الدول العربية لاسيما في المغرب العربي حيث القرب في الجغرافيا من إسبانيا والتأثر بالموشحات والفن الصوفي.

وبحسب كتاب “الموسيقى في سورية” للباحث صميم الشريف، فإن الباحث التونسي إلياس بودن أحصى في كتابه “صباح فخري ومسيرته الفنية”، 347 أغنية قديمة، منها 110 لا يُعرف لها ملحن. في حين تشير إحصائيات أخرى إلى وصول أرشيف صباح فخري إلى الألف أغنية.

قلعة حلب
سعى النظام لإيهام العالم باسترجاع حلب عبر حفلات في قلعتها

الأرشيف المهمل

دخلت مدينة حلب على خط الصراع في سوريا، ثار أهلها وحدثت المواجهات بين الفصائل التي تمكنت من السيطرة على حلب القديمة والوصول إلى قلعتها، فتوحش النظام ودمر الأحياء القديمة بما فيها من معالم تاريخية طالت السوق المسقوف ومئذنة الجامع الأموي الكبير، وعلى إثر ذلك ضاع جزء كبير من أرشيف المدينة الموسيقي فضلاً عن هجرة غالبية الموسيقين والشتات الذي أصاب أهل المدينة.

حجم الخسارة ذكره الموسيقي إبراهيم مسلماني، مؤسّس فرقة “نوا” الموسيقية حيث قال: “هناك ما يفوق الـ60 بالمئة من موشّحاتنا مفقود أو غير منشور أو غير موثّق، كثير منها كان يمكن أن نقدّمه للأجيال الجديدة”.

وبمقارنة مع التوثيق في تركيا، فقد تمكنّ الموسيقين الأتراك من توثيق ما يقرب من 55 ألف نوتة موسيقية، حُفظت فيها الموسيقى الغنائية والآلية التركية والعثمانية، بينما صدحت أصوات الفنانين السوريين بما يقرب من 250 موشّحاً تقريباً، والموثّق منها أقل من ذلك.

إقرأ أيضاً: حرب الطُرقات في فصلها الأقسى.. النظام السوري يمتلك «دمشق حلب»

من جهة أخرى، لم يكن للمؤسّسات الحكومية دور يُذكر في التخطيط والدعم من أجل إنجاح عملية حفظ الموشّحات والفولكلور بشكل عام، علاوة على الإهمال المتعمد لمدينة حلب بتاريخها العريق، فلم يولِ النظام المدينة اهتماماًَ خاصاً ولم يبرز في العقد الأخير غنى ما تحمل إلا حين قررت منظمة الدول الإسلامية اختيار حلب كعاصمة للثقافة الإسلامية عام 2009.

ولأن الموسيقى التي تحملها القدود تحتاج إلى توثيق يتماشى مع قواعد نظم هذه الألحان فإنّ غياب الموسيقين البازرين الذين يتمسكون بالتوثيق زاد في تغييب حضور الموشحات والقدود، وبقي الاتكاء على الأرشيف الموثق والذي تعرّض للكثير من الضياع.

قد لا يجد السوريون اليوم وقتاً للتفكير بضياع القدود في زحمة الأزمات المعيشية وتعقد المستقبل السياسي للبلاد، لكنهم بالطبع يرتبطون بحلب عاطفياً عبر عدة معاني وتفاصيل لعل أبرزها القدود في جملة شهيرة تقول: “طال المطال طال وطول.. لا بتغير ولا بتحوّل”

السابق
اطلاق حملة إنقاذ «نهر الكلب».. وجمعية الأرض تقرع جرس الانذار!
التالي
نقص حاد في المستلزمات الطبية.. ونقيب المستشفيات: لبنان غير جاهز لمواجهة «كورونا»!