الجنوب يُسقط «الحزب والحرب».. من حساباته!

تفرز حرب المشاغلة التي إنغمس بها "حزب الله"، واقعاً نفسياً إجتماعيا عسكرياً جديداً غير متوقع، يشي بتبدل جذري في نظرة القوة والردع التي كانت "تتغنى" بها بيئته سابقاً، بعد ان أصابها منه مقتلاً، ولم يتمكن من حمايتها، معطوفاً على شعور يسري في اوساطها، انها غير معنية بهذه المعركة، ونسجت شبكة أمان نفسية ذاتية، تُبعد عنها شبح الحرب، وتعيش حياة شبه طبيعية، بعد ان تمكنت من تحديد قواعد الإشتباك المستجدة بين الحزب وإسرائيل.

تبدو الحياة خارج مناطق الاشتباك الشديد في جنوب لبنان شبه عادية، حركة النزوح توقفت لا، بل عاد اكثر الذين غادروا في بداية الاسابيع الاولى من الحرب الى بلداتهم، فيما بقي الذين هجروا من بلداتهم الحدودية خارج هذه البلدات، التي تضررت معظم مبانيها او جرى تدمير جزء كبير، وهذه البلدات هي بمثابة قصبات في اقضية صور وبنت جبيل ومرجعيون، مثل مروحين والضهيرة وعيتا الشعب ويارون وعيترون وبليدا وميس الجبل وكفركلا، فضلا عن عشرات القرى التي تشهد عمليات تدمير مستمر منذ ٨ اكتوبر، تاريخ انخراط “حزب الله” في مناصرة غزة.

خارج خطوط المواجهة المباشرة، عادت الحياة الى طبيعتها، وفي هذه القرى والبلدات، في اقضية بنت جبيل وصور وحتى النبطية، والتي تبعد نحو 5 كيلومترات عن الحدود في الحد الأدنى، تضم الى المقيمين فيها عائلات مهجرة من قرى الحدود، بتفاوت بين بلدة واخرى، تقررها حسابات تتصل بتوفر اماكن سكن خالية ومتاحة للعائلات المهجرة.

الحديث عن خسائر الحرب المستمرة، يتركز بشكل رئيسي لدى ابناء القرى الحدودية، لجهة الخسائر المادية سواء البيوت المتضررة او المصالح الاقتصادية، من مشاريع زراعية او تجارية وصناعية، تعرضت لاضرار كبيرة خاصة في بلدة عيترون، التي طال مرافقها الزراعية والتجارية، اضرارا هائلة وغير مسبوقة.

واقع الحياة في مختلف هذه المناطق يوحي بان الحرب بعيدة على رغم تحليق طائرات الدرون الاسرائيلية

خارج الدائرة الحدودية، تبدو الحرب بعيدة، وان قامت اسرائيل بعمليات اغتيال لكوادر في “حزب الله” في العمق الجنوبي، وفي بلدات لم يطلها اي عدوان اسرائيلي، كما هو الحال في بلدات الشهابية او قرى في منطقة صور وفي ابو الاسود وغيرها، واقع الحياة في مختلف هذه المناطق، يوحي بان الحرب بعيدة، على رغم تحليق طائرات الدرون الاسرائيلية، وعلى رغم سماع اصوات القذائف المنفجرة في البلدات الحدودية.

كما ان الحركة التجارية طبيعية، والازدحام المعهود قبل الحرب عاد، وبعض القرى شهدت حركة تجارية غير مسبوقة بسبب وجود العائلات المهجرة، والتي تتلقى مساعدات اغاثية ومالية من جهات عدة دولية ومحلية على رأس القائمة فيها “حزب الله”.

ما يمكن ملامسته في احاديث المقيمين في البلدات الخلفية، هو حالة من الاطمئنان النسبي، لعدم قيام اسرائيل بتوجيه ضربات عشوائية تستهدف المدنيين، كما كان الحال في الحروب السابقة، ومنها حرب ال٢٠٠٦، حيث كانت نسبة الشهداء العسكريين الى مجموع الضحايا ١ على ٥ اي نحو ٢٥٠ شهيدا ل”حزب الله” من اصل اكثر من ١٣٠٠، اما اليوم فالمعادلة معكوسة تماما بحيث ان المدنيين الذين سقطوا حتى الآن، هم اقل من حيث النسبة، من مدني واحد مقابل ستة عسكريين او كوادر حزبية.

لا بل أكثر من ذلك، لا تتوقف الاحاديث عن ان سقوط المدنيين، لم يكن مقصودا من قبل الجيش الاسرائيلي، وكأن البعض من الجنوبيين يتمسك بفكرة ان الحرب الجارية هي بين اسرائيل وعناصر “حزب الله” ولا علاقة للمدنيين، وان اسرائيل لا تريد حتى الآن الحاق الأذى بالمدنيين، وهدفها كوادر الحزب ومقاتليه، لذلك تتردد كثيرا تحذيرات بين المواطنين انفسهم، انه اياك ان تقود سيارة كانت لعضو في “حزب الله” لانها قد تستهدف، او اياك ان تنسى هاتفك في البيت، فهو يجب ان يبقى معك في سيارتك، لأن عدم وجود هاتف يعني ان السيارة مشبوهة من قبل الاسرائيليين وقد تستهدف، باعتبار ان عناصر “حزب الله” ممنوعون من قيادتهم من استخدام الهاتف الخلوي او اقتنائه.

الحرب الجارية اليوم، ليس فيها حديث عن بطولات ولا عن ظواهر الهية على الجبهة، فيما الحديث الطاغي لدى الجمهور، الدهشة من قدرة الجيش الاسرائيلي على الكشف الامني وتنفيذ الاغتيالات

في الحروب السابقة التي خاضها “حزب الله” كان من الممكن ان يظهر الحزب عن قدرات، توفر مادة لمناصريه او للناس عموما، على نحو كفاءته العسكرية، في مواجهة الاحتلال من ضرب الفرقاطة “ساعر” في البحر بداية حرب ٢٠٠٦، او التفوق على دبابة الميركافا في الحجير، او غيرها من الروايات الحقيقية والالهية التي راجت في تلك الحرب وسواها، فالحرب الجارية اليوم، ليس فيها حديث عن بطولات ولا عن ظواهر الهية على الجبهة، فيما الحديث الطاغي لدى الجمهور، الدهشة من قدرة الجيش الاسرائيلي على الكشف الامني وتنفيذ الاغتيالات وفي هذا السياق ايضا يجري تضخيم القدرات الاسرائيلية بطريقة غير واقعية، وتنشأ مسافة بين الناس والمعركة الجارية، بحيث يبدو الحديث عن الحرب باعتبارها معركة بين طرفين، لا علاقة للمتحدثين بها، وليسو هدفا لقذائفها وسلاحها.

يمكن مثلا ان يرى “حزب الله” كيف تم تدمير مئات البيوت في كفركلا فيما مستعمرة المطلة التي يشاهدها المارة المتجهين من امام كفركلا على الحدود انها لا تتعرض بيوتها الفارغة، الى اي رد من قبل الحزب

يمكن الاستنتاج من خلال ما تقدم، ان اسرائيل في استرتيجية المواجهة في جنوب لبنان اليوم، تعمل على توسعة المسافة بين المدنيين و”حزب الله”، ومحاولة تحييد المدنيين، بغاية القول ان مشكلتها مع كوادر الحزب الذين يشاركون في قتالها، هي تحصر اهدافها بالعسكريين، ولم تحاول استهداف اي شخصية دينية او سياسية حتى الآن، وهذا السلوك الاسرائيلي الذي يبدو فيه اكثر استحكاما على الحزب، واقدر على القتل والتدمير، فيما يبدو “حزب الله” اما عاجزا على الردع او مقيد اليدين، اذ يمكن مثلا ان يرى “حزب الله” كيف تم تدمير مئات البيوت في كفركلا، فيما مستعمرة المطلة التي يشاهدها المارة المتجهين من امام كفركلا على الحدود، انها لا تتعرض بيوتها الفارغة، الى اي رد من قبل الحزب، وقس على ذلك بقية المستوطنات، وهذا وضع الى حد كبير يوفر لاسرائيل، استكمال عدوانها المنهجي والبطيء والمستنزف، من دون ان تتعرض لأي ادانة دولية او غربية، او من اي دولة حتى سوريا نفسها، هي حرب مثالية لاسرائيل وقاسية على “حزب الله” وغير متوقعة.

اذ لم يكن احد من المراقبين يتوقع، ان تخوض اسرائيل حربا تدوم كل هذا الوقت، ولم يكن جمهور “حزب الله” الذي اطمأن لقوة ردعه اسرائيل، ان يخطر بباله ان الحياة في البلدات الحدودية ممكن ان تستباح من اسرائيل بهذا الشكل، وان الذين بنوا منازلهم وقصورهم على مقربة من الحدود، لم يخطر ببالهم ان اسرائيل ستتجرأ على تدميرها.

كثير من المفارقات والخيبات والاسئلة، باتت تفرض نفسها بقوة على المستقبل في هذه المناطق،
الى حد السؤال هل العودة ممكنة وكيف؟

السابق
جنوبيون «يضيقون ذرعاً» من تحويل بلداتهم إلى «منصات».. وهذا ما طلبوه من الحزب!
التالي
«سيدة الجبل» لدوائر القرار الدولية والاقليمية : نتمسك باحترام الدستور ووثيقة الوفاق الوطني