أخاف من المجزرة ومن الذي يعتبرها بطولة وانتصارا

المجزرة
أخاف من المجزرة، ليس من تلك التي حصلت، أو هذه التي تحصل الآن، بل من أخرى سوف تحصل. ربما نكون حينها نياما، فتوقظنا رائحتها، يخترق هديرها سكينتنا. ربما نكون مستيقظين، فنلعنها، نقرأ تعاوذينا المعتادة، ثم نعود إلى نومنا مطمئنين أنها تجاوزتنا.

أخاف الحديث عن المجزرة، من لفظ حروفها، أتعب من تحديد مواقعها وساعات حدوثها، أرتعد من تخيّل صورها المتوقعة، أنشغل بعد سكاكينها وما علق عليها من دماء ومن أرواح ومن أنفاس أخيرة. أحصي أعناق ضحاياها، توسلاتهم، ضعفهم، استسلامهم، نظرات الرعب في عيونهم، وقبورهم التي حفرت على عجل. أقنع نفسي أن مجزرة اليوم ستكون الأخيرة، ربما سينهض القاتل من مجزرته متعبا يوم غد، أو ربما سيذهب إليها، فلا يجد مزيدا من الأعناق اليانعة.

المجزرة، أشعر بها تلاحقني أينما ذهبت، تتبعني إلى الشرفة، إلى الحمام، تحشر نفسها في فراشي، تتوسد أحلامي، تأكل وتشرب على مائدتي، تنزل معي درجات السلم، تستقل السيارة قبلي، وتسبقني إلى عملي.. تلازمني وتطوف حولي، كأنها ظلي الآخر.

قرأت في قصص الرعب أن القاتل يتعملق كلما أردى مزيدا من الضحايا، يتضخم جسده، ينتفخ، يتسع، تختفي الألوان من وجهه وعينيه، تتمدد أطرافه، تنبت له ألف يد تحمل ألف سكين، وكلما انتهى من مجزرة تقوده شهوة الدم إلى أخرى، إلى نحور أحياء جدد.

إذا، ليس ترفا أن أبوح بخوفي من المجزرة. أنا أنثى أولا، هشاشتي حيال العنف جزء من تكويني، كما أنني أم، فلا حرج علي إذا توجست من اقترابها من أطفالي، من أطفال إخوتي وأقربائي وأصدقائي، وأطفال أناس لا أعرفهم، ولا يعرفونني.

خوفي من المجزرة ليس مقتصرا على وقوعها أو الحدس به، صرت أخاف أن تصبح أنفاسنا رهنا لمواقيتها الموعودة أو المفاجئة، أن يصبح العمر المقدر لكل واحد منا ملكا لسكين مقترفها، لسرعتها المدهشة في محو تفاصيل حياتنا، لقدرتها على وضع نهاية موحدة لبداياتنا المختلفة، وحشرها في إطار واحد، في يوم واحد، ولحظة واحدة.

وأخاف ممن يبرر ارتكاب المجزرة، ممن يفاخر به، ممن يضيف إليها أبعادا وجودية وقيما تاريخية، ويسميها تطهيرا أو بطولة أو انتصارا، أخاف أن تتحول إلى ثقافة. وخوفي مضاعف ممن يتغاضى عنها، يتجاهلها كأنها لم تحدث، يغلق حواسه عنها، ولا يسمح لفظاعاتها أن تحرك ما تجمد من إنسانيته.

وأخاف أيضا من مساومة القاتل على ثمنها، من مساواته بضحاياها، من أن تهمل في لحظة تخل عابرة أو غادرة، تلمع سكين القاتل وترمي اللوم على القتيل. وأخاف ممن يستغلون خوفنا منها، فيتفننون بترهيبنا بها، ينقشون على أجسادنا أسماء ضحاياها وأماكنها ومواقيتها. ليس فقط كي لا ننساها، بل كي لا ننساهم. كي نتذكر دائما أن موتنا وبقاءنا رهن سكاكينهم أيضا.

السابق
الأسد: الدعم التركي «العامل الرئيسي» في سقوط إدلب
التالي
اعتصام للنازحين من اليرموك في البداوي احتجاجا على خفض التقديمات