هكذا كنت أرى «الدرك» و«الجيش» و«الواسطة»

رشوة
في ذلك المكان، لم أرَ أحدا يعتبر السلك العسكري بمختلف مؤسساته أكثر من وظيفة بميّزات كالتقاعد والمعاش الثابت والمدارس للأولاد، بالإضافة طبعاً إلى الطبابة والتأمين الصحي. لم يأتِ أحد يوما على ذكر كلمة "وطن" أو عبارة "وطنية" في حين الإشارة إلى رغبتهم الملّحة بأن يصبحوا عناصراً في الجيش أو الدرك.

حين كنت في سن المراهقة تقريبا، كان أحد أقربائي من جهة أبي مسؤولاً مهما في السلك العسكري. كلامه مسموع وعلاقاته وطيدة مع المسؤولين والجهات التي كان يجب أن يكون مقرّباً منها قي التسعينيات. وكان الأهل والأقارب مستفيدين، على قدر ما أتيح لهم من المنصب وما يأتي معه من “منتفعات”، أي خدمات ووظائف وتسهيلات في المعاملات الإدارية وما شابه ذلك.
وربما من العيب الآن أن أحكي عن “المنصب” بهذا الشكل فلا داعي للتشهير ولا كشف المستور، ولا هي الغاية هنا. ما حدث أني طوّرت شعوراً عدائيا تجاه السلطة وتعنّتها ولم تكن تشعرني بالبهجة، ولم أكن أشعر بالفخر أني قريبة “فلان”. ربما لأني كنت أرى في هذا الفلان ما لم يره الناظرون إليه من خلف سحابة النفوذ و”المنصب”.
ما أعاد إلى ذهني هذا الفلان هي ذكرياتي عن قاصديه ممن كانوا يطمحون أو يطمعون بوظيفة في السلك العسكري. يأتون محملين بالبيض البلدي والتين و”سحارات” العنب ويطلبون “واسطة” لابنهم في دورة “الدرك” أو ” الجيش”. حتى أن الحال وصل بهم أحيانا أن يدفعوا المال لأحد الأشخاص معتبرينه وسيطا بينهم وبين صاحب المنصب ليتوسط لهم لديه ويضمنوا الوظيفة. بعضهم كان عرضة للنصب إذ لم يف الوسيط بوعده، وكانوا يأتون ليشتكوا منه لأعيان البلدة ويبكوا ضياع “تحويشة العمر” بلا وظيفة لابنائهم.
وفي ذلك المكان، لم أرَ أحدا يعتبر السلك العسكري بمختلف مؤسساته أكثر من وظيفة بميّزات كالتقاعد والمعاش الثابت والمدارس للأولاد، بالإضافة طبعاً إلى الطبابة والتأمين الصحي. لم يأتِ أحد يوما على ذكر كلمة “وطن” أو عبارة “وطنية” في حين الإشارة إلى رغبتهم الملّحة بأن يصبحوا عناصراً في الجيش أو الدرك.
لم تكن البذلة التي تسحرهم أو تسحر أهلهم، وكانوا إن أصبحوا في السلك العسكري، سعوا جاهدين للانتقال إلى مراكز خدمة مريحة حيث “يتوصى” بهم الظابط المسؤول. ليس ما أكتب تجنيا ولا هو انتقاص من قيمة العاملين في هذا السلك. هو تسليط الضوء على واقع معاش وقد شهدته شخصيا. وقد أفهم جيدا هذه الرغبة بالوظيفة في بلد لا يشعر أبناءه بالامان خصوصا لفئة ربما لم تتح لها الفرصة لتحصيل دراستها ولم تحصل على شهادة. ولذا ربما معظم أبناء المؤسسة العسكرية وأقصد هنا الجيش من أبناء عكار.
أشير إلى الأمر هنا وقد كثر الجدال بعد خطف الجنود والدرك اللبنانيين وأسرهم من قبل تنظيم داعش وجبهة النصرة في معركة لا تزال ملتبسة حتى الآن. تكثر الأحاديث عن التضحية والأقوال إن مهمة الجنود الدفاع عن الوطن وتحمل تبعات كونهم جنود وحماة للوطن. وهذا أمر بديهي أن يعرف العسكري أنه في معركة وبالتالي إن الوظيفة التي سعى إليها كضمان قد تشكل تهديدا لحياته. ولكن ألا يعرف المنظّرون أنّ الدول المحترمة تحافظ على جنودها وتعمل على تقوية جيشها؟
نحن نتحدث عن جيش ينتظر هبات لا تأتي، وعن سلك أمني شوهته السياسة وخلقت شرخاً بين مؤسساته العسكرية وأجهزته الأمنية فأضعفتها. تحول الجيش إلى مزايدة بالوطنية، وعلى حد قول أحد الزملاء، بات السؤال المطروح لمعرفة انتماء اللبناني الطائفي والسياسي “هل أنت مع المقايضة؟” والاجابة طبعا تقرّر التصنيف.
الجيش بهمّة قيادته، فما هو وضع القيادة وهل هي خارج التجاذبات السياسية؟ هل تحتضن المؤسسات العسكرية أبناءها وتخبرهم عن انتمائهم الوطني؟ هل هناك لبناني يشعر فعلا بانتماء وطني؟ هناك طبعا – لكن كم هو عددهم؟
لماذا يجب على الجنود أن يشعروا بالرغبة أو الفخر بأن يصبحوا شهداء؟ شهداء من وماذا وأي قضية؟ قضية الفساد المستشري في السلطة والسياسة المتفشية في المؤسسات اللبنانية على اختلاف أنواعها؟
وطن؟ الوطن هو أحضان أمهاتهم وزوجاتهم وأبنائهم. هذا هو الوطن الوحيد لنا نحن من لا نريد الموت المجاني من أجل وطن يهدمه مسؤوليه وأحزابه. وطننا الصغير هو حضن أحبائنا حتى يثبت العكس ويصبح لنا وطن كبير. ليس عيبا ان يبكي جنديا عبر الهاتف ولا أن يشعر باللاجدوى. هو إنسان ولبناني أيضا أصابته ويلات الوطن مثلنا.
ولذا لا أتكلم عنه كجندي فحسب وأجرده من أي كيان آخر. كل البلدان تركض لتحرير أسراها وتفاوض وتسعى عوضا أن تحمل شعار “الهيبة” كأكبر دليل لغيابها. الهيبة أيّتها الحكومة العتيدة ليست اكسسوارا تلبسينه حينما تريدين، هي سلوك. وكذلك الأمر يا مجلس النواب وساستنا “المهيوبين”. أيّ هيبة والحدود مفتوحة وهناك أحزاب خارج سلطة الدولة والقانو؟.
ثمّ يأتيك سياسي من بلادي ليطلب انتشار الجيش على طول الحدود ويرفع سقف المطالب، فهل يريد الجنود دروعا بشرية؟ أليس الأجدر بناهبينا أن يعملوا على تقوية إمكانيات العسكر قبل قذفهم شمالا ويمينا فيحق لنا بعدها بمطالبة الجنود بالوطنية؟ الوطن هو أيضا تبادل مصالح، يعطينا ونعطيه لكن أن نصبح عشاقا من طرف واحد لدولتنا التي لا تبالي بِنَا، فهده مازوشية لا نريدها. وجع أهالي الجنود يقنعنا أكثر من عجزك أيتها الدولة المسكينة، وجع أن نعجز عن حبك. هو وجع الحنين إلى أن نعامل كبشر لهم قيمة؟ وجع يشبهنا، مؤلم كألمنا، لا حول له ولا قوة.

السابق
نعم… داعش تنظيم إسلامي يطبق تعاليم الإسلام
التالي
للبنانيّين أيضاً «نوبلهم»