وجيه قانصو يكتب لـ «جنوبية»: إيران تحدي المعنى والحقيقة

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

لا أحد يعلم كيف تنتصر الثورات، أو ما الذي يجعل ثورة تخفق وثورة تنجح، بحكم وجود عدد كبير من المتغيرات والعوامل العصّية على التشخيص والرصد والتوقع.  بل يذهب البعض إلى أنّ أيّ حراك لا يتخذ صفة ثورة إلاّ بعد نجاحه، أي يكون عنوان الثورة متأخراً عن تحركات العصيان ودعوات التغيير.

يتأكد هذا حين نعلم أن الثورة صفة لاحقة ونعت نطلقهما على الأحداث بعد حصولها. فحين تنجح وتحقق تقويضاً للواقع وتغييراً جذرياً فيه نسميها ثورة، وحين لا تحقّق نتائج فعلية تسمى انتفاضة أو تمرد أو فورة شعبية آنية. فالأحداث لا تتخذ صفة الثورة، إلا بعد ظهور نتائجها وجلاء التحولات والتغيّرات التي تحدثها. فقد يحدث أن يحصل حراك شعبي بسيط في مكان ويحقّق تحوّلات جذرية، وقد يحدث أن تتوفر نفس شروط التغيير في بلد آخر مع تعبئة شعبية كاسحة، ومع ذلك يتم إحباطه وأجهاضه وتعود الأمور إلى مستقراتها المألوفة.

إنّ توصيف أي حراك أو تمرّد أو هياج شعبي أو عمل معارضة منظم وعنفي، لا يصير ثورياً إلاّ حين تحصل لحظة الإنكسار الكبرى للنظام السابق، وتتهاوي قواعد الشرعية فيه، ويفسح المجال لتأسيس مبادئ انتظام جديدة، وقواعد شرعية مختلفة


وقد بيَّنت حنّة أرنت أن ثوار الثورة الفرنسية أنفسهم، لم يكن بنيتهم القيام بثورة بمعنى التغيير الجذري، بقدر ما كان غرضهم الأولي إصلاح المملكة.  أي لم يعرفوا أنهم كانوا يثورون أو أنهم أصبحوا ثواراً.  فالأمور تتخذ منحى ثورياً حين يبدأ النظام القائم بالانهيار الشامل، وتظهر مقومات وضع جديد ومعالم انتظام عام مختلفة. 

أي إنّ توصيف أي حراك أو تمرّد أو هياج شعبي أو عمل معارضة منظم وعنفي، لا يصير ثورياً إلاّ حين تحصل لحظة الإنكسار الكبرى للنظام السابق، وتتهاوي قواعد الشرعية فيه، ويفسح المجال لتأسيس مبادئ انتظام جديدة، وقواعد شرعية مختلفة.حين تنجح الثورات، لا يكون نجاحها مقتصراً على إزالة سلطة ومجيء سلطة بديلة، بل تصور نفسها على أنها حاملة لقيم جديدة ومبادىء خلاص دنيوي، تؤمّن عدالة توزيع مثالية ومنظور سعادة أرفع. بالتالي تخلق الثورة منظومة معان ذات قوة رمزية مكثفة، تكون أساس قبولها ومصدر شرعيتها وموجباً للإنصياع الطوعي لها. فنظام ما بعد الثورة لا يقتصر على اخضاع الإرادات، بل يصوب بالدرجة الأولى على القيمة والمعنى اللذان يُخضعا العقول ويطوّعا الضمائر.

ما يجعل أساس استمرار نظام الثورة، ليس سياج القوة والإكراه والقمع الذي يحمي هذا النظام، بل أطُر الوعيّ والمعنى والقيمة التي يجهد النظام في تعميمها وسيادتها في المجتمع

ما يجعل أساس استمرار نظام الثورة، ليس سياج القوة والإكراه والقمع الذي يحمي هذا النظام، بل أطُر الوعيّ والمعنى والقيمة التي يجهد النظام في تعميمها وسيادتها في المجتمع.  فالتغيُّر الذي تنشده الثورة بعد نجاحها، ليس تغيُّراً في الحكم بل تغيُّراً في قيّم المجتمع وتحوّلاً إلى نظام قيم جديد، تكون بمثابة الإطار الذي يفكر فيه الفرد، وبمثابة الإحساس المشترك بالمجتمعية الذي يحسّه أفراد المجتمع، إضافة إلى كونها أساس الرضا بالسلطة والتقيّد الطوعي بتعاليمها وأوامرها، بصفتها تجسيداً ملموساً ومباشراً للقيم الجديدة. فنظُم الثورات تعوّل على ملاك الخير قبل أن تطلق شيطان القمع والترهيب، على قيّم التسامي والعفوّ قبل أن تلوذ بمسلك الاعتقال والقتل والإبادة، على فضيلة الإقناع والطواعية، قبل الكشف عن رذيلة كمّ الافواه والإكراه.

هذا يؤهل أيديولوجياً القيّم الجديدة للثورة، بأن تكون وسيلة لتماهي المجتمع مع نظام الثورة وقوة انتشار للنظام وتجذره داخل المجتمع، في حين تصبح قوى الحرس الثوري وسيلة حماية ضد المجتمع وآلة تبديد لأيّة قيمة منافسة، وصدّ لأي وعيّ مختلف وإبادة لأي تحرك مضاد.  ما يعني أن الايديولوجيا هي  القوة العميقة والمصيرية لنظام الثورة، في حين تكون أجهزة الحرس الثوري بمثابة القوة العائمة والظاهرة، الأولى عنصر تقدم وتجذر وتمدّد والثانية أداة دفاع وحماية.   

 ما يحصل في إيران الآن، هو أن النظام يُواجه تحدياً في أساس القيمة التي اعتمدها  لتعويم شرعيته وتعميم قبوله. استدعى هذا النظامُ الإسلامَ بصيَغ تأويلية جديدة، ليواجه مسعى نظام الشاه لتغريب المجتمع الإيراني

 

 ما يحصل في إيران الآن، هو أن النظام يُواجه تحدياً في أساس القيمة التي اعتمدها  لتعويم شرعيته وتعميم قبوله. استدعى هذا النظامُ الإسلامَ بصيَغ تأويلية جديدة، ليواجه مسعى نظام الشاه لتغريب المجتمع الإيراني. استحضر الشادور شكلاً رمزياً مكثفاً لمواجهة التفلت بالعفاف، ونادى بتطبيق الشريعة كرمز للإرث المهدّد، واتخذ الولاية الدينية ركيزة ضامنة لشرعية النظام وبقائه.كانت باختصار قضية شرق مقابل غرب، قضية هوية مقابل تحديث، قضية تراث أو ماض ضاقت مساحة وجوده داخل حاضر مستورد، قضية أصالة مقابل معاصرة، قضية ذات مستضعَفَة أو مستغَلَّة مقابل آخر مستكبِر ومستغِل،  بالتالي كانت ثورة الإختيار بين حزمة رموز مقابل رموز مضادة.

شكل الخلط الملتبس بين نظام الشاه والحداثة، فرصة ناجحة لروح الله الخميني، في صب جام لعناته وبغضه وقدحه على الحداثة والتحديث، وفي إقامة ثنائية وهمية بين مستكبر متمثل بالغرب، ومستضعف متمثل بالمسلمين وشعوب العالم الثالث

  لهذا لم يكن للعقلانية أو الصياغة العقلانية دوراً في تقديم الحياة الجديدة البديلة، ولم يكن هنالك أي تصور حول قيمة الحياة الإنسانية ومعناها،  أي لم يكن صراع البحث عن الأجدى والأنفع، بل صراع بين العناوين الكلية مع قطع النظر عن مضمونها، صراع الفسطاطين اللذين لا يلتقيان ولا يقبلا المساومة، صراع ينكمش في داخله النقاش العلمي والحجج العقلية، وتتقدم الشعارات الأكثر شيطنة لقيّم الواقع المضاد، والرايات الأكثر تعبئة وتحريضاً، والأعمال الأكثر تحطيماً للطرف المقابل. 

نجحت الثورة في تعبئة قيّم الأصالة والهوية، وفشل الشاه في الاستفادة من قيم الحداثة لمقاومة التمرد الكاسح، لأنه استحضرها فارغة من أي مضمون وخالية من أي واقع محلي معقلن، وحولها إلى كائن مسخ تخدم كسرويته وشاهنشاهيته. بالتالي شكل الخلط الملتبس بين نظام الشاه والحداثة، فرصة ناجحة لروح الله الخميني، في صب جام لعناته وبغضه وقدحه على الحداثة والتحديث، وفي إقامة ثنائية وهمية بين مستكبر متمثل بالغرب، ومستضعف متمثل بالمسلمين وشعوب العالم الثالث، بالتالي حوّل الإسلام في مقولاته الحديثة المتداولة إلى قوة مواجهة، وأداة صراع وذهنية فرز وتنميط وخزان تعبئة ومورد سلطة وموجب طاعة مطلقة، أي إسلام حرب وجهاد ومرابطة، بدل أن يكون إسلام تأويل وتواصل وابتكار وحوار وعقلنة وتكامل وتجاوز.

هو افتتاح لساحة مواجهة جوانية يبدو فيها النظام الإيراني الطرف الأضعف فيها، بحكم أن استعراضات القوة والانتشار المسلح ووسائل الترهيب وأدوات التخوين وسرديات المؤامرة لم تعد تنفع فيها. 

غاب الإنسان في نظام الشاه، لأن حداثته اقتصرت على تحديث الصناعة وتضخيم الآلة العسكرية، وغاب الإنسان أيضاً في نظام ما بعد الشاه لحصول اشتباه بأن القضاء على نظام الشاه وتأكيد الذات، مقابل الآخر كفيلان بتحرير الإنسان وإطلاق أماله وتطلعاته.  لكن هذا ما كان ليحدث مع رسوخ سلطة مكثفة وشاملة، وضعت المقدس على الضدّ من الإرادة الحرّة، وحوّلت الولاية إلى منظومة طاعة صارمة أغلقت منافذ التفكر الطليق وأطبقت على كل مساحات الإختيار الحر.  كان الشادور وسيلة فاعلة لمواجهة الشاه وبمثابة رمز كثيف الدلالة لتأكيد الذات وتفوّق الهوية، وبات خلع الحجاب والرقص حول رماده المحترق ترميزاً خارجياً ليقظة عنيفة من سبات عميق، استجابة لدافع تحرر باطني مقتحم ومدمّر. 

هو افتتاح لساحة مواجهة جوانية يبدو فيها النظام الإيراني الطرف الأضعف فيها، بحكم أن استعراضات القوة والانتشار المسلح ووسائل الترهيب وأدوات التخوين وسرديات المؤامرة لم تعد تنفع فيها.  إنها نقلة إلى منطقة تحدّ جديدة لم يتوقعها النظام ولم يكن جاهزاً لها، صراع رمزي: لا على السلطة بل على حقيقتها ومصادر إلزامها، لا على الشريعة والمقدس بل على معناهما وأدوات تشخيصهما ووسيلة تفعيلهما في زماننا، لا على القيم السائدة والمعممة بل على قيمة هذه القيّم نفسها.

إقرأ أيضاً : وجيه قانصو يكتب لـ «جنوبية»: عُرف سياسي بديل عن الدستور

السابق
مدير شركة توتال في بيروت.. وهذا موعد توقيع الإتفاق!
التالي
الطلاب يتصدرون الاحتجاجات في ايران ويهتفون: الموت للدكتاتور!