تقلبات واشنطن وتحولات الخليج!

الخليج

تأخرت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في اكتشاف خطيئتها في التعامل المشوّش مع المملكة العربية السعودية. كشفت تلك الإدارة المتورطة بخطاب شعبوي يدفع أثماناً للجناح اليساري للحزب الديموقراطي عن خفة في مقاربة علاقة تاريخية بين واشنطن والرياض لا يمكن إخضاعها لنزق أيديولوجي أو مزاج انتخابي عرضي زائل.

من ذلك التخبّط الأميركي اضطرت واشنطن الى أن تتعرف الى “لحظة الخليج” (تيمناً بكتاب الباحث الإماراتي عبدالخالق عبدالله)، بحيث ارتبكت الدبلوماسية الأميركية وإطلالات شيوخ الكونغرس في كيفية التعامل مع السعودية وحلفائها داخل البيت الخليجي. وإذ ينزلق الأداء الأميركي إلى مستوى الفضيحة، فإن أداء الخليجيين، السعودية والإمارات بالأخص، يرقى إلى مستويات الكفاءة والرشاقة والبراغماتية التي ربما لم يعهدها العالم في عقود ماضية.

اقرأ أيضاً: لبنان «الحائر» يستعدّ لعودة الوسيط الأميركي في الترسيم مع إسرائيل

والحال أن دول الخليج باتت أكثر دراية ومعرفة بالموقع والدور والتأثير التي يمتلكها مجلس التعاون الخليجي في المنطقة والعالم. ولئن تجاوزت المنطقة “أزمة قطر” واستعادت وحدتها وانسجامها، وخصوصاً إدراكها المصير والمسار المشتركين، فإن ما صدر عن الرياض وأبو ظبي من مواقف اعتبُرت “معاندة” للمزاج الأميركي استند أساساً الى عوامل تلك القوة ولم يأتِ ارتجالياً انفعالياً.
والباحث الراصد للمواقف الخليجية “الرسمية” بعامة من مسألة الصراع في أوكرانيا، لم يلحظ أي انزياح عن خطّ التوازن والاعتدال والحياد والتمسك بصداقة الجميع والداعي إلى حلّ النزاع بالحوار والسبل الدبلوماسية. والباحث أيضاً عن أسبابٍ “حذِقة” لرفض السعودية والإمارات رفع مستويات انتاج النفط استجابة للطلب الأميركي، لم يجد في المتون “الرسمية” إلا حيثيات قانونية تتعلق بالتزام العهود والاتفاقات المبرمة داخل “مجموعة أوبك+” ولا شيء غير ذلك. حتى أن القرار الأخير برفع الانتاج النفطي اتُّخذ بالتوافق مع الشريك الروسي داخل هذه المجموعة.

أسست إدارة بايدن الموقف المتدهور من الرياض على معايير ترتبط بملف حقوق الإنسان. وأي ساذج في علم العلاقات الدولية يعرف أن الملف كيفي مغرض يبرئ هذا ويتهم ذاك وفق مصالح واشنطن وأجنداتها. في المقابل تتوق الإدارة لإبرام اتفاق مع إيران (مثالاً) وهي “مدرسة وأمثولة في حقوق الإنسان”. وفوق ذلك فإن طهران هي من يتدلل ويرفض ذاك الاتفاق. 
استيقظت واشنطن ببلادة بعد مراحل مبكرة عالجت خلالها السعودية والإمارات ملفات ساخنة. 
بادرت أبو ظبي على نحو واثق إلى الشروع في طيّ صفحات وفتح صفحات أخرى مع تركيا وإيران. ولئن بدا تفاوتٌ في السرعات بين الإمارات والسعودية في هذا الميدان، فإن ما تسرّب من الرياض يفيد بأن للإمارات والسعودية لسانَ حال واحداً أفرج عنه التطوّر اللاحق لعلاقة أنقرة بالدولتين، وكشفه ما يُحكى عن تقدم نوعي على طاولة الحوار بين السعودية وإيران، وبدت مفاعيله واضحة في المعالجة الكبرى لملف اليمن سواء في الوصول إلى الهدنة (المُمدّدة) أم بتغيير واجهة السلطة الشرعية اليمنية.

بمعنى آخر باتت المنطقة تمتلك دينامياتها الخاصة في عقد الأمور وحلّها بمعزل عن أجندة الحليف في الولايات المتحدة وحساباته البيتية في الداخل والجيوستراتيجية مع الخارج. والأدقّ أن واشنطن تأخذ علماً بمستجدٍّ مستقل عن حراكها فتهرول للتموضع وفقه واحترام قواعده. 
اضطر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن لافتعال زيارة للمغرب في آخر آذار (مارس) للالتحاق بالشيخ محمد بن زايد لشرح “السلوك” الأميركي الملتبس بشأن الموقف من اعتداءات “الحوثيين” على الإمارات وتبريره. أرسلت واشنطن منتصف أيار (مايو) وفداً كبيراً عالي المستوى، ترأسته نائبة الرئيس كمالا هاريس (لتقديم واجب العزاء بوفاة الشيخ خليفة)، في سعي كان واضحاً أنه يعبّر في رمزياته عن اعتراف بخطيئة وتوسّل لـ”توبة”.
والواضح أن الانعطافة الأميركية حيال السعودية التي تتوجها زيارة بايدن للمملكة (أياً كان توقيتها) تمثّل تفككاً لكامل النهج الذي سلكه الرئيس الأميركي منذ أن كان مرشحاً للمنصب. والمشهد يوحي بأن “التحولات” التي أجراها العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد أملت على بايدن دفع ضريبة “التقلّب” في سياسة واشنطن وإدارتها حيال السعودية. استنتجت الوفود الأميركية المتدافعة إلى الرياض خلال الأشهر الأخيرة أن شيئاً كبيراً قد تغيرّ هناك وأن على بايدن وصحبه استيعابه جيداً واستنتاج دروسه والمسارعة إلى التخفيف من الأضرار التي منيت بها علاقة البلدين.

والأرجح أن العلاقات الأميركية بالخليج، وخصوصاً بالسعودية والإمارات، تعرّضت إلى انتكاسة ولن تعود إلى سابق عهدها. وليس صحيحاً أن منطق التصدّع مرتبط بحكم ديموقراطي أو جمهوري، بل إن مؤسسات “الدولة العميقة” في الولايات المتحدة تخلّفت عن تفعيل آلياتها لردع البيت الأبيض عن العبث بالثوابت في علاقة واشنطن بالخليج، وبالرياض وأبو ظبي بالذات. يكفي تأمل تعامل العاصمتين مع التحولات الأميركية الإيجابية الأخيرة لاستنتاج “العقل البارد” الذي تقارب به الحدث من دون أي احتفالية وانفعال.
تستدرك واشنطن كما أنقرة وطهران الحقيقة الجديدة في الخليج. واللافت أن انعطافة تلك الدول لا تلتحق بتحوّل سعودي إماراتي، بل بسكينة وثبات، بحيث بقيت الدولتان على مواقفهما في فتح الأبواب نحو الشرق والتمسك بها مشرعة باتجاه الغرب، وفي شقّ طرق التواصل والحوار مع الجوار القريب والبعيد، وفي إظهار القوة، الناعمة والخشنة، مع الخصوم والأصدقاء، دفاعاً عن أمن المنطقة واستقرارها ورخائها.
قد يستنتج بايدن لاحقاً في الرياض ما الذي تغير هناك، لكنه لا شك وصحبه سيستنتجون أيضاً ما الذي يجب أن يتغير في واشنطن.

السابق
نصرالله «يُدوزن» صواريخه في كاريش على «إيقاع فيينا»..والعهد «يناور» حكومياً!
التالي
عبد الحسين شعبان: الشيخ حسن شحادة.. حيرة وأسباب