رسوخ الشيعة في لبنان.. قبل وجود الكيان

الشيعة

لا بد لنا عندما نتناول الشيعة وتاريخهم في لبنان، أن نشير إلى موقعهم الجغرافي وأدائهم السياسي، وذلك مع مساهمة عوامل القهرية اجبرتهم على اتخاذ خيارات صعبة جعلتهم ينحسروا ويسكنوا في جبل عامل والبقاع، وهذا ما سنتناوله بالتفصيل حين عرضنا لهذا التاريخ.

جاء في كتاب “تاريخ لبنان الحديث” لمؤلفه كمال الصليبي:” عاش المسلمون السنة والشيعة أكثر ما عاشوا خارج المنطقة المعروفة بجبل لبنان. وتكتظ اليوم منطقتا بعلبك وجبل عامل بالشيعة الاثني عشرية. وهم يعرفون محلياً بالمتاولة. وكانت جماعات من الشيعة تسيطر قبل العهد العثماني بمدة طويلة على لبنان كله، ما عدا مناطق بشري والبترون وجبيل في الشمال وهي التي كانت منذ البدء تحت سيطرة الموارنة أما منطقة كسروان وأكثر سكانها اليوم من الموارنة فقد ظلت حتى القرن الرابع عشر آهلة بالشيعة وما زال جبل الضنية إلى الشمال من بشري يحمل الى اليوم اسم الجماعة التي استقرت هناك قبيل الحروب الصليبية”.

اقرأ أيضاً: الشيعة ولبنان الكبير «علاقة ملتبسة» الشيخ سليمان ظاهر: فيلسوف وعالم إصلاحي عاملي

اضافة الى ما كتبه المؤرخ صليبي، فان هنالك عدة إثباتات وأدلة على أن العلاقات الفقهية بين المؤمنين في مناطق صيدا وصور طرابلس وطبريا وقدس ونابلس وعمان كانت بينهم وبين الأئمة الفقهاء الشيعة الموجودين في بغداد كالشريف المرتضى وأبي حمزة الجعفري  خلال القرن العاشر الميلادي.

كما نستدل عن طريق رثاء الشاعر محسن الصوري (المتوفى عام 1028م) للمرجع الديني الإمامي الجعفري المعروف بالشيخ المفيد (والمتوفى في العراق عام 1022م)، إضافة إلى حضور الفقهاء العراقيين إلى جبل عامل ومنهم أبو الفتح الكراجكي (المتوفى عام 1058م) وهبة الله الطرابلسي (المتوفى عام 1067م) وهذا الأخير كان تلميذ الإمام الطوسي (المتوفى عام 1067م في العراق) وقد حضر هذان الفقيهان إلى صور وصيدا وطرابلس، مما يشير إلى انتشار الوجود الإمامي الشيعي الإثني عشري في أكثر من منطقة لبنانية بعد القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي).

شيعة جبل عامل هم أقدم شيعة بعد شيعة المدينة المنورة

كما كانت رحلة ناصر خسرو سنة (1046م) إلى بلاد الشام دليلاً جديداً  يشير إلى الواقع السكاني في الساحل اللبناني ابتداءً من طرابلس إلى صيدا وصور حيث كان غالب السكان في هذه المدن شيعة إماميين .

ويتوسع الوجود الشيعي في الساحل اللبناني، وتقوم طرابلس من خلال فقهائها، ومنهم قاضيها إبن البراج (المتوفى عام 1088م) بتأليف رسالة فقهية وعقائدية لأهالي جبل عامل، ويفرد الشاعر عبد المحسن الصوري أكثر من عشر قصائد في ديوانه لمدح رجال السياسة ووجوه الفكر والقضاء في طرابلس من آل حيدر وأبي كامل .

وقد تكرس هذا الواقع الاجتماعي خلال حكم الدولة الفاطمية خاصة في طرابلس التي سُلمت إلى القاضي الجعفري فيها أبي طالب الحسن بن عمار (الملقب بأمين الدولة) وتأسست بذلك إمارة بني عمار التي ظلت تحكم طرابلس والشمال حتى بدء الاحتلال الصليبي والتي بدأت حملاتهم باتجاه الشرق منذ عام 1069م فسقطت تلك الإمارة مع ما سقط من مدن الساحل اللبناني واحتلوا جبل عامل وألحقوه بإمارة الجليل التابعة لمملكتهم في أورشليم .

جبل عامل والتشيّع

يعود الوجود الشيعي في بلاد الشام إلى القرن التاسع الميلادي، أما في جبل عامل تحديداً فقبل ذلك بكثير، حيث يقول المؤرخ والأديب العاملي الشيخ أحمد رضا وتحت عنوان المتاولة أو الشيعة في جبل عامل “إن التشيع في بلاد الشام هو أقدم منه في البلاد غير الحجاز وهذا في العجب أن يقوم أول ركن وتنشر أول دعوة للشيعة في بلاد محكومة لأعدى الناس لهم  “.

فبعد أن تولى عثمان بن عفان الخليفة الثالث مقاليد الحكم في الإسلام، ونتيجة لبعض ممارسات مناصريه التي لم يكن مرضياً عنها من جانب قسم من الصحابة ومن بينهم أبو ذر الغفاري، قام عثمان باتخاذ مواقف متعددة، وأدى إصرار أبي ذر الغفاري على مواجهته وفضح سياسته القائمة على تخصيص البيت الأموي بالميزات المادية والمعنوية دون غيرهم، وذلك من أجل إرضائهم واستمالتهم، إلى أن يأمر الخليفة بنفيه إلى بلاد الشام وكان ذلك حوالي 655م، أي بعد فتح بلاد الشام بخمسة عشر عاماً، فأقام في دمشق مدة من الزمن، يبث دعوته لا يرهبه شيء ولا يخشى من أحد.

كانت دعوة أبي ذر تقوم كما إمامة علي (ع) على مناصرة الفقراء ورعايتهم والقيام بأي عمل من أجل رفع الظلم والحرمان عنهم، حتى لقب أبو ذر من قبل بعض الباحثين المعاصرين بصاحب “النظرية الاشتراكية” والتي تقوم على عدم استئثار الأغنياء بالمال على حساب الفقراء، وهو أطلق مقولته المشهورة “عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه”. لقد كان أبو ذر صادقاً في دعوته مخلصاً لا يبغي وراء ذلك شيئاً كيف يعجب من ذلك وهو الذي يقول عنه رسول الله (ص):”ما أقلت الغبراء، أصدق لهجة من أبي ذر”.

 لقد وقف أبو ذر موقفاً جريئاً في مواجهة الطغاة والسلاطين، في سبيل إحقاق الحق ونشر عدالة تعاليم الإسلام السامية، التي يريدها الله ورسوله، وقنّنها السلاطين بعد ذلك للحفاظ على سلطتهم وإمتيازاتهم أياً كانت الوسيلة والثمن.

ومضى أبو ذر في نشر قيم الإٍسلام ورسالته يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر غير آبه بغير الحق، وهمه الوحيد هو الإسلام ورسالته، إلى أن وصل به المطاف إلى الصرفند حدود جبل عامل الشمالية حيث أقام زمناً فيها ينشر الإسلام ويرشد أهلها ويزرع فيهم حب عليّ وأهل بيته، ويظهر لهم مكانتهم وما حصل لهم بعد وفاة الرسول. ومن الصرفند توجه إلى ميس الجبل بلدتي ووطن أجدادي وطالما افتخر قاطنوها بهذه المأثرة فأصبحت “ميس” تُعرف ببلدة أبي ذر، فاستقر هناك وأقام حلقات لتدريس العلوم الدينية، وقد تخرج من حوزتها بعد قرون كبار الفقهاء الجعفريين والأئمة الدينيين وكان من أبرزهم الفقيه المجتهد الأستاذ علي عبد العال الميسي، العلم المضيء الذي أنار جبل عامل بالعلم والأدب يوم كان ظلام القرون الوسطى ينطق جهلاً وإنحطاطاً وأمية، هذا ولم ينعدم خط العلم فيها حتى يومنا هذا .

وتجدر الإشارة إلى أن أبا ذر له مقام في “ميس الجبل” مقام معروف وتحول فيما بعد إلى مسجد مشهور يعرف الآن بمسجد أبي ذر الغفاري.

ومما بيناه أعلاه بُتنا نعلم أن شيعة جبل عامل هم أقدم شيعة قاطبة وأول من تشيع لعلي بن أبي طالب بعد شيعة المدينة المنورة.

الأًصل العربي للشيعة اللبنانيين

وبالعودة إلى حدود جبل عامل التاريخية فيقول السيد حسن الأمين في كتابه “خطط جبل عامل” أن الحدود الجغرافية الشمالية تضم البقاع الغربي وحاصبيا، ولما ثبت لدينا من خلال السيرة التاريخية أن شيعة جبل عامل عموماً وهم “شيعة أبي ذر، كما يحبون أن يوصفوا، أقدم رسوخاً زمناً ومكاناً، وأول شيعة قد ظهرت في بلاد الشام، فيطيب لنا أيضاً أن نثبت بأنهم أول عرب أيضاً قد وطأوا أرض الشام تاريخياً، وذلك بالعودة إلى كتب التاريخ كذلك.

– جاء في مجلة العرفان نقلاً عن” Revue Beuilil ”  في بحث عن الاسكندر في سوريا وفلسطين بقلم الأب ف.م.ابل: “خلال حصار الإسكندر لمدينة صور وفيما كان يسلح أسطوله ويضع آلات القذف والهجوم وإذا به يعلم أن ثلاثين من رجاله قتلهم عرب من لبنان بغتة “.

وفي مقال في مجلة العرفان  للسيد حسن الأمين “رحمه الله” يستعرض السيد هذه الحادثة السالفة الذكر ويزيد عليها أيضاً أن المؤرخ الروماني “لونتوس كورينوس” الذي كتب في عهد الإمبراطور كلاودويوس تاريخ الإسكندر “41-45- ب.م” في عشرة كتب أورد الحادثة ذاتها وأضاف معلومات مفيدة عليها أيضاً عندما زاد “حدث أن هاجم المكدونيون بعض الفلاحين العرب على جبل لبنان فقتلوا حوالي ثلاثين منهم وأسروا بعضهم”. ثم يقول:” وعهد الإسكندر بالإشراف على الأعمال إلى اثنين من قواده وزحف بقسم من الجيش إلى بلاد العرب”. وهذه العبارة وردت في الفقرة إحدى عشر من الكتاب الرابع.

وقال الدكتور أسد رستم في مقال له” الاسكندر الكبير تحدته صور وصمدت في وجهه واضطر ان يحاصرها حصاراً طويلاً، أحب في يوم من أيام الحصار أن يروح عن النفس برحلة صيد قصيرة فقام في ضواحي صور ممتطياً جواده واتجه شرقاً متسلقاً “جويا وتبنين”، فوجد نفسه فجأة بين قوم من العرب هكذا يقول “أريانوس” أقدم من أرخ للإسكندر وأقربهم إليه زمناً.

لذلك يتبين لنا أن وجود العرب في هذه المنطقة بحسب ما جاء في كتب التاريخ يعود إلى ما قبل غزو الاسكندر إلى بلادهم وحصاره لمدينة صور وفتحها عام 332 ق.م.

منطقة كسروان ظلت حتى القرن الرابع عشر آهلة بالشيعة

وإذا أضفنا الروايات التاريخية عن أصل العامليين، فجبل عامل بغض النظر عن التسميات التي كانت تطلق عليه سابقاً “وهي جبال بني عاملة” أو “جبال عاملة” أو “جبل عامل” التسمية الحالية”، فإن أهل هذه المنطقة ينسبون إلى عاملة بن سبأ وهي القبيلة العربية اليمنية القحطانية التي هاجرت عقب السيل العارم الناتج عن خراب سد مأرب ونزلت هذا الجبل، فإن حادثة سد مأرب حصلت بعد حوالي ألمائتي عام من غزوة الاسكندر، مع العلم أنه بيّنا مسبقاً أن وجودهم في تلك المنطقة يعود الى ما قبل غزو الاسكندر بزمن بعيد، ففي كتاب “الغساسنة حضارة وتراث ” لعبد العزيز صعب يقول:” إن الغساسنة عرب قحطانيون وردوا بر الشام واستوطنوا جنوب سوريا قرب مرتفعات الجولان، ثم جلق (أي دمشق) عقب إنهيار سد مأرب في أواخر 120 ق.م.

لذلك يمكن القول حين الأخذ برواية إنتسابهم بقبيلة عاملة أن العرب كانوا موجودين، وربما أن حادثة انهيار السدّ المذكورة قد ساهمت في المزيد من مجيء العرب الى بلادنا التي تتالت هجرتها بعد الهجرة الأولى سبب وجودهم، والتي لا نعلم عنها شيئاً وعن تاريخها سوى أنها حصلت قبل تاريخ حصار الاسكندر لمدينة صور عام 322 ق.م، والتي كان البدو العرب موجودين في تلال جبل عامل وقتها حسب الرواية الآنفة الذكر.

اقرأ أيضاً: المفتي الثائر السيد محمد الأمين.. بايع الجزائري فنفاه الأتراك إلى طرابلس!

إذن نستنتج وبالأدلة التاريخية المبينة أن العامليين بحق هم العرب الأكثر قدماً ورسوخاً في بلاد الشام ولم يجارِهم حتى أبناء عمومتهم الغساسنة في العراقة والقدم.

والجدير بالذكر أن التاريخ في تلك الحقبة الزمنية (أي قبل ميلاد السيد المسيح) ينبئنا أنه كان يقطن الساحل السوري اللبناني الكنعانيون الفينيقيون، وفي سوريا الداخلية المجوفة والأردن الأموريون والآراميون والحثيون، أما في فلسطين فقاطنوها كانوا الفلسطينين واليهود الذين شردوا لاحقاً بفعل مرسوم إمبراطور الروم، ولم يكن العنصر الفلسطيني قد خالطه العرب الذين فتحوا البلاد الإسلامية لاحقاً عام 630 م، وهاجروا إليها كقبائل تنوخية وتميمية وغيرها إلى فلسطين وبلاد الشام عموماً.

وبهذا يمكن القول صراحة ونقول أن العامليين هم أول عرب قدموا الى لبنان وأول شيعة والوا أهل البيت في برّ الشام عامة.

(هذا المقال نُشر في مجلة “شؤون جنوبية” العدد 180 صيف 2021)

السابق
أوكرانيا والمشاهد المسافرة إلى التاريخ
التالي
«عرض متواصل»..المنخفض الجوي ينحسر اليوم ويتجدد الثلاثاء!