لبنان ينفجر في عكار

انفجار عكار

يفوق اختلال الدولة والنظم واستشراس الفساد في لبنان كل التصورات. كلما جرى تقييم للأوضاع، بناءً على المعطيات القائمة، جاءت المستجدات بما لم يكن بالحسبان، لإنتاج واقع أكثر إيلاماً وأكثر مرارة.

المناسبة الأخيرة كانت الانفجار الذي شهدته عكار، هذه المنطقة المحرومة، والتي تزخر بالثروة الطبيعية والبشرية القادرة على مساهمة فعّالة على مستوى الوطن، فيما هي تقع خارج الهمّ السياسي للطبقة الحاكمة بالتأكيد، ولكن أيضاً وللأسف بالنسبة للعديد من اللبنانيين.

الأسبوع السابق للانفجار كان ثقيلاً في لبنان. إزاء انشغال السياسيين بمناكفاتهم وتناطحاتهم والتي لا تتوقف إلا لضمان حماية طبقتهم جمعاء من المساءلة، كانت مسؤوليات المصرف المركزي قد تضخّمت لتشمل الترقيع الكفيل بتأخير الانهيار الاقتصادي المتحقق، وذلك وفق صيغة فيها ما يرضي كافة المعنيين.

اقرأ أيضاً: قوة الاشقاء العرب في لبنان.. «العين الثالثة»!

بغطاء من الطبقة السياسية، تصريحاً بأحيان قليلة وصمتاً في معظم الأحيان، يقدم حاكم المصرف على خطوات يستفيد منها في العلن المواطنون، وتستبيح فوائدها هذه الشريحة الطفيلية من التجار المتجرّئين على المصالح العامة، بحكم علاقاتهم المتشعبة مع الطبقة السياسية، والتي يبادلونها الخدمات.

مع انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية إلى أقل من عشر ما كانت عليه، أمسى دعم السلع الغذائية الأساسية والمحروقات الوسيلة الأولى للأمن المعيشي لعموم المواطنين والمقيمين. المعضلة هي أن هذا الدعم يجري من خلال استباحة ما تبقى من أموال المودعين، بعد استنفاد المصرف المركزي لما عداها من الأرصدة.

النتيجة بالتالي هي أن أموال اللبنانيين (وغيرهم) تصرف دون تصوّر لإعادة تحصيل مقابلها وإيفائها لأصحابها، وذلك على أساس تقدم الأولويات المعيشية على حقوق المودعين. غير أن المواد المدعومة، ولا سيما منها المحروقات إذ يسهل نقلها، لا يصل جلّ الفائدة من دعمها إلى المقصود منها في الداخل، بل يجري تهريب جزء كبير إلى خارج الحدود حيث يستفيد المتاجِر بها من كامل الدعم وفارق العملة.

واقع الحال، في صيف لبنان الحار اللهّاب، كان الانتظار لساعات طويلة في طوابير السيارات المصطفة عند محطات الوقود، والتي تقدم قدراً من الوقود المدعوم الذي تحصل عليه بما يكفي لرفع الشبهة عنها، فيما يجري تحويل ما تبقّى إلى السوق السوداء، للتهريب أو للتوفير الأفضل بأسعار مضاعفة.

لم يكن خافياً على أحد أن هذا الترتيب، الهشّ ابتداءً، غير قابل للديمومة. فحتى القليل ممّا تبقى من أموال المودعين بعهدة المصرف المركزي سائر إلى النفاد الكامل، والحصول على دعم خارجي هو رهن شروط ليست الطبقة السياسية على استعداد البتّة للسير بها.

أي أن دور المصرف المركزي في هذه المرحلة يقتصر على تلطيف الانهيار القادم لا محالة. وفي إطار هذا الدور، وبناءً على اعتبارات موضوعية حسابياً، وإن جاءت مفتقدة للصيغة التي تخفف من وطأتها، صدر قرار حاكم المصرف برفع الدعم عن المحروقات، ما يرفع ثمن شرائها خمسة أضعاف، ويطيح بالتالي لا بقدرة المواطن على التنقل وحسب، بل بما تبقى من الاقتصاد المنكمش ككل، لاستحالة الموازنة بين الدخل المتلاشي والأسعار المرتقبة لأية مواد يجري توزيعها على أساس الأسعار الجديدة للمحروقات.

وخطورة الوضع لا تقتصر على عموم المجتمع، ولكنها تطال، وبشكل مضاعف الخطورة، القوات المسلحة، حيث أن رواتب العسكريين من ضباط وجنود لم تعد كافية في العديد من الحالات لتغطية كلفة تنقلاتهم بين نقاط مهامهم وثكناتهم ومنازلهم. وعكار تحديداً التي تقع عند أقصى الشمال اللبناني، هي خزّان تاريخي للجيش، يكثر في قراها المنضوون تحت لوائه.

ما أن أعلن حاكم المصرف رفع الدعم عن المحروقات حتى أشهرت كافة المحطات نفاد المشتقات النفطية فيها. وكلام العاملين فيها هي أن العودة إلى البيع، ووصول الصهاريج الجديدة وفق زعمهم، لن يكون إلا إلى أن تصدر التسعيرة الجديدة لأسعار المحروقات. واقع الحال أن قيمة المخزون الذي بحوزة أصحاب المحطات كانت مهيأة أن ترتفع خمسة أضعاف، من الربح الصافي، إن تمكنت هذه المحطات من حبس ما لديها إلى حين صدور التسعيرة.

عندها عمد الجيش اللبناني إلى بعض المداهمات التي كشفت التخزين الاستغلالي، وهدد بمضاعفة المداهمات، وتقديم الكميات المخفية إلى الأفران والمستشفيات، والتي تعني من شحة والكثير منها قد أغلق أبوابه. وفجأة بسحر ساحر، ودون اكتظاظ شوارع المدن والبلدات بالصهاريج، عادت المحطات إلى الضخ بالسعر المدعوم، أو ما يقاربه، بانتظار جلاء الصورة. وعاد طبعاً المهرّبون وتجار السوق السوداء إلى نشاطهم الاستنزافي.

ما جرى في عكار يندرج في هذا السياق. الجيش اللبناني داهم مستودع للمحروقات في طريقها إلى التهريب لصالح أحد المقربين من الطبقة السياسية. صادر معظمها، وترك بعضاً منها للأهالي، عساهم يستفيدون منها، ولا سيما أن المنطقة تكتظ بالعسكريين الذين يحتاجون إلى حصة وقود للالتحاق بمراكزهم. هل كانت الكارثة نتيجة ولاعة أشعلها أحد الغافلين، أم هل جاءت عقب إطلاق نار استهدف الصهريج الذي تركه الجيش اللبناني للمواطنين؟ لا فرق. النتيجة هي انفجار مميت آخر وأشلاء متفحمة لعشرات الضحايا، والمئات من الجرحى المحروقين والمولّعين، والآلاف من المنكوبين.

جرح عكار النازف هذا ليس المأساة الأولى التي تطال هذا الجزء المهمل من الوطن. تنموياً وبيئياً واقتصادياً وصحياً واجتماعياً، عكار عانت ولا تزال من شحة في الدعم والتجهيز، بما يشكل المأساة الصامتة التي انفضحت أمام الحاجات التي لم تجد السبيل إلى الإيفاء مع الانفجار.

رئيس الجمهورية، وكل من الرئيس والجمهورية يجسّد الاختلال المركّب، أضاف إلى سجّله الطاعن بمقومات الوطن كلاماً مغرضاً جديداً في إشاراته الوقحة إلى استفحال المجموعات المتشددة في عكار، بما لا يتناسب مع الواقع وبما يحوّل الانظار عن مسؤوليته في إيصال الوطن إلى “جهنم” التي وعده بها.

رئيس الحكومة السابق والذي فشل في التأليف حاول تجيير الكارثة لإدانة العهد، وهي إدانة جديرة بأن تصدر ولكن ليس من شريك هذا العهد وممكّنه الأول. وغير هذا وذاك من جهابذة الطبقة السياسية أضافوا إلى السجل العام مقادير من الكلام المرصوف الأجوف.

واقع الحال أنه ليس لدى أي منهم أي تصور مطروح لتجنيب لبنان ما يبدو قادماً عليه من ضياع كامل لأسس العيش المتواضع الكريم. لبنان يتجه إلى واقع غير مسبوق حيث لا محروقات ولا كهرباء ولا أفران ولا مستشفيات ولا مؤسسات عامة وخاصة قادرة على العمل، ولا غذاء ولا ماء، وحتى لا أشجار، بعد أن يقطع ما تبقى من الأحراج أهالي الأرياف الباردة في موسم الشتاء المقبل. لبنان فقد للتوّ إلى غير رجعة الكثير من أوجه تقدمه وازدهاره، وهو اليوم سائر إلى انهيار غير مسبوق في التاريخ المعاصر.

من رؤسائه المزعومين كلهم إلى كامل الطبقة السياسية وما يتبعها من طفيليات، ليس في لبنان من يمكن الركون إلى قدرته لإخراج الوطن من الكارثة.

آن الأوان للإقرار بما هو جلي، لا خلاص للبنان إلا بقرار دولي بقوة الفصل السابع من مجلس الأمن، يضع لبنان بعهدة دولية، ويفوّض الجيش التنفيذ، ويقصي كامل الطبقة السياسية بانتظار عدالة انتقالية تطالها ومعها الشرائح الطفيلية الحالية والسابقة.

غير أن هذا “الحل” يصطدم أولاً بلامبالاة على مستوى العالم والمنطقة نتيجة ظروف بعضها يتعلق بلبنان وبعضها الآخر منفصل عنه. ولكنه أيضاً متعذّر، لأن الغطاء الممكّن للطبقة السياسية اللبنانية، أي القوة الضاربة المؤتمرة بأمر الولي الفقيه في طهران، تعارضه بالكامل، بحجة سيادة تنتهكها هي نفسها بفعل وجودها، وبناءً على قناعة تجد ما يدعمها، بأنها قادرة على تجيير ما يحدث لمضاعفة نفوذها وتأثيرها.

يكاد أن يكون واقع الحال أن ما انفجر في عكار ليس مستودعاً للوقود المهرّب وحسب، بل لبنان نفسه.

السابق
«قنبلة» رفع الدعم أرجئت.. الخلاف على تسعيرة دولار البنزين يعد بتفاقم الأزمة!
التالي
من يملأ الفراغ الأميركي…