حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: صباح الخير.. دولة فلسطين

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

صباح الخير ياغزة… صباح لأطفالك اليتامى والجرحى، المقطعة اوصالهم والمنكوبة احلامهم…

صباح من الأمل والرجاء لنساء غزة … للمسنات منهن المنزرعات في دمارها ونكبتها وخراب عمرانها… لصبايا غزة اللواتي يتحملن آلام الجراح ورزايا التهجير والمرض، وما تنوء به الجبال وتنهار من وطأته اعتى القامات واصلب الهامات…
صباح الخير للأمهات، اللواتي يواظبن دون كلل او ملل على الحياة والكرامة والأمومة، كانهم نذورا أبدية للتضحية والوفاء والتجدد والولادة…

صباح الخير لرجال غزة، لمقاوميها ولفدائييها ورجالها البواسل، لاي فئة انتموا ولاي سياسة اختاروا، ولاي مهنة او اختصاص نذروا حيواتهم وعرق جباههم…

صباح الخير لاطباء غزة ومهندسيها واساتذة جامعاتها ومدارسها، لعمال افرانها وصانعي طعامها وغذائها…
صباح الخير لطواقم الدفاع المدني والجهاز الصحي والطبي والإغاثي…

صباح وتحية لكل مدينة وحي ومخيم من مخيمات غزة ومدنها… صباح الخير لأسقف البيوت المدمرة ولحجارة جدرانها المتناثرة، صباح الخير للنوافذ والابواب التي خلعتها من مستقراتها قنابل العدو الغادرة… صباح الخير لذكريات الطفولة، وبقايا ألعاب الاطفال وصور الاعياد والاعراس المتناثرة…

صباح الخير اخيرا… بعد أن لاح صبح جديد، علَّه ينهي ليل الحرب والتوحش والهمجية، التي أصرت حكومة اسرائيل على استدامتها سبعة أشهر كاملة… صباح الخير لأمل في بداية جديدة وافق جديد وامل واعد يتحقق…
صباح الخير لنهوض جديد، رغم المأساة والكارثة، ورغم الجراح النازفة والارواح الراعفة، والمهج الخائفة والأحلام التالفة…

السلام لكم وعليكم تنهضون من الابادة الجماعية، لتكتبوا على جباه سكان هذه الارض قصة الحرية، ولترسموا قيم العدالة والانسانية وتعلموها لكل ابناء البشرية…
غزة اليوم ترسم ملامح عالم جديد، هي عنوان اخلاق العالم، وإمتحان القيم الانسانية، من انتصر لها وانحاز لنصرتها استحق ان يكون انسانا بشريا، ومن سكت عن مأساتها أو تضامن مع قاتليها، كان وحشا سفاحا يتبنى الجريمة…

غزة الجريحة تقيم امتحانا عالميا لمصداقية الضمائر، تنخلها تصنفها فئة فئة وتنقيها من الخداع والمواربة والمكابرة

غزة الجريحة، تقيم امتحانا عالميا لمصداقية الضمائر، تنخلها، تصنفها فئة فئة، وتنقيها من الخداع والمواربة والمكابرة، لذلك يبدو اليمين الاسرائيلي بقيادة نتنياهو معزولا محاصرا، هو معزول عربيا ومعزول دوليا، ومعزول غربيا وأميركيا، وهو أيضا معزول في الداخل الاسرائيلي، أراد محاصرة غزة عبر اجتياح معبر رفح، فوجد نفسه محاصرا لذاته بشكل كامل… ولذلك فقد أعلن نتنياهو ان اسرائيل ستقاتل وحيدة، حتى لو تخلى عنها اصدقاؤها!

غزة وفلسطين تحاصره، من ميادين جامعات كولومبيا وهارفرد وييل وماك جيل، وتشد وثاقه في المحكمة الجنائية الدولية كمجرم حرب، وتطبق على دولته بإجراءات محكمة العدل الدولية، وشبهة ممارسة الإبادة الجماعية…

غزة وفلسطين هما الأكثر حضورا في ساحات حقوق الإنسان الدولية، وحكومة يمين إسرائيل في قفص الإتهام، بجرائم موصوفة حسب القانون الدولي…

كل هذا صحيح، لكن ما ينطبق على غزة وفلسطين، لا ينطبق على “حركة حماس” وبقية التنظيمات المقاتلة، فالانحياز لفلسطين والدعوة لنصرتها، لا يعني انحيازا لحماس ولا لعقيدتها، وادانة نتنياهو والدعوة الى وقف حربه الاجرامية، لا يعني قبول زعزعة امن إسرائيل وتهديد وجودها!..

لم تعد فلسطين التي تمسكت بها تمتد من النهر الى البحر، والى خيارات طالما ما خونت أصحابها

تعود “حماس” من الحرب تحمل قتلاها وجرحاها، دون نصر يتحقق او يلوح بالأفق، بعد ان تخلت عن أدبيات وشعارات وثوابت سياسية، اصرت عليها، طيلة مدار ثلاثة عقود من الزمن، تعود الى ثوابت، طالما ادانتها، فلم تعد فلسطين التي تمسكت بها تمتد من النهر الى البحر، والى خيارات طالما ما خونت أصحابها، فالتسوية السلمية أصبحت ممكنة، و أصبحت تحدد أهدافا، طالما اعتبرتها مهادنة مستسلمة تفرط بالقضية، كإقامة دولة فلسطينية على خطوط الرابع من حزيران… وهي ثوابت وخيارات وأهداف كانت تبنتها منظمة التحرير الفلسطينية، وهي اليوم تعلن نيتها بضبط إيقاع خطواتها ومجمل أهدافها، ضمن خطاب المنظمة التاريخي والتزاماتها وخياراتها…

تبقى ايران بعيدة منفصلة، عن صفقة تضمن تبادل الاسرى واعلان وقف اطلاق نار مستدام

في الوقت عينه، تدير مفاوضات “حماس” جمهورية مصر ودولة قطر وأميركا، وفي احيان قليلة تلعب تركيا أردوغان بعض الأدوار، فيما تبقى ايران بعيدة منفصلة، عن صفقة تضمن تبادل الاسرى واعلان وقف اطلاق نار مستدام، يجري اخراج نسختها الاخيرة، بإشراف مدير وكالة الاستخبارات الاميركية ال C.I.A، والتساؤل الذي يتبدى أمام حماس وقيادتها هو: لماذا لم يكن ذلك ممكنا قبل خراب غزة ودمارها؟!

وعلى الرغم من إعلان جيش الاحتلال الاسرائيلي “ان غزة هي اصعب ساحة قتال في العالم”، وان الأداء العسكري لكتائب القسام كان مثار إعجاب ودهشة جنرالات الجيوش، وكلياتها الحربية في العالم، الا ان خسارة “حماس” تجلت في مكان سياسي آخر، وهو الإقدام على إنكارها وتخليها عن كل خطاباتها السياسية وخياراتها، وفي إعادة التموضع والتخندق على حافة محور الممانعة بقيادة طهران وليس داخله، بل تتجلى في تنصل طهران ذاتها من معركة “طوفان الاقصى” التي أطلقتها “حركة حماس”، وعن رفض سوريا ان تكون أراضيها منطلقا لعمليات عسكرية، تساند غزة، وفي سقوط مدو لإستراتيجية “وحدة ساحات المقاومة”، التي طالما تحدث عنها وتباهى بها السيد حسن نصرالله.

لا تقتصر خسائر “حماس” على كل ما سلف، بل تمتد الى مجمل اجراءات والتزامات، عليها تنفيذها من اجل تسهيل إعادة إعمار غزة أولا، وضمان بقاء شعبها فيها ثانيا، ولتضمن ثالثا استمرار وجود “حركة حماس” ودورها مستقبلا داخل السلطة الفلسطينية المتجددة، وداخل منظمة التحرير الفلسطينية وداخل الحركة الوطنية الفلسطينية…

نعم هزمت “حركة حماس” كفصيل عسكري وخيارات سياسية واجندة اهداف تمسكت بالالتزام بها خلال ثلاثة عقود من الزمن، لكن فلسطين القضية والشعب تقدمت وربحت وأصبحت عنوانا لقضية العدالة والحرية، في كل حواضر العالم ومدنه وجامعاته…

قضية فلسطين أكبر من غزة، وشعبها أكبر من الفصائل السياسية والعسكرية

قضية فلسطين أكبر من غزة، وشعبها أكبر من الفصائل السياسية والعسكرية، اكبر من “فتح” وأكبر من “حماس”، واهم من خلافاتهما وسلطاتهما، ومسيرة إعادة النهوض الفلسطيني قضية واستقلالا وحقا لتقرير المصير، تبدأ من تفاهم الفصائل لكن لا تنتهي بها، وان كانت اعادة بناء منظمة التحرير وتأهيلها، لتسلم الدولة الفلسطينية الموعودة، حسب قرار منتظر في الجمعية العامة للأمم المتحدة، تحتوي تفاهما فصائليا بداية، لكنها يجب ان تتضمن إطارا يجمع و يؤطر الكفاءات والنخب الفلسطينية، المنتشرة في كل اصقاع الارض من خارج الفصائل، ويؤمن وحدة وطنية فلسطينية، يضعها في خدمة الشعب الفلسطيني وقضيته…

يتعمق مأزق معسكر اليمين الاسرائيلي، ويقف اليوم نتنياهو كمجرم حرب يواجه العالم، يواجه اصدقاء اسرائيل ومحبيها، كما يواجه اعداءها ومنتقديها

على الضفة الأخرى يتعمق مأزق معسكر اليمين الاسرائيلي، ويقف اليوم نتنياهو كمجرم حرب يواجه العالم، يواجه اصدقاء اسرائيل ومحبيها، كما يواجه اعداءها ومنتقديها، فعلى ارض فلسطين التاريخية يعيش شعبان، تلك حقيقة راهنة لا يمكن تجاوزها، العالم يعترف بها، ويحاول إيجاد طريقة للتعامل معها وإدارة تعقيداتها، وحقوق الإنسان الفلسطيني في أرضه ووطنه تم التسليم بها في كل العالم، بسبب جراحات غزة وآلامها ونكبتها…

يستند اليمين الاسرائيلي في مواجهاته، لتنفيذ سياسة اقتلاع الفلسطينيين من الضفة الغربية والقطاع لتهويدها، الى تيار “المسيحانية الصهيونية” في أميركا والذي يناهز تعداده المائة مليون نسمة، ويعتقد هذا التيار أن استيلاء اليهود على كل فلسطين، هو الشرط الضروري لعودة السيد المسيح، وعليه يستطيع نتنياهو ان يواجه ادارة بايدن، انطلاقا من قوى يستند إليها داخل إسرائيل وداخل امريكا ايضا، ولذلك فان هزيمة اليمين الإسرائيلي القومي والديني، مهمة فلسطينية ويهودية وأمريكية وإنسانية، لا بد ان تنخرط بها قوى ودولا، تمتد من شواطئ غزة الى دول أوروبا الى ولايات اميركا وجامعاتها، وان اعادة السلام والاستقرار الى المنطقة، لا تمر باعادة تأهيل السلطة الفلسطينية فقط، ولا بنزع راية الدفاع عن فلسطين من يد ايران، وعودة هذه الراية الى ايادي العرب ودولهم، بل تمر ايضا وحتما بمهمة هزيمة اليمين الاسرائيلي، وتفكيك خطابه ومنع سلوكياته العنصرية وجرائمه، من خلق وقائع تخدم مخططاته.

ان مهمة اعادة تأهيل اسرائيل، لتقبل سلاما يتضمن حل الدولتين، هي اولوية دولية راهنة، واذا ما تم اهمال هذه المهمة او تأجيلها، فإن سيل الدماء في الشرق الاوسط، سيستمر نازفا كما كان، وربما يتوسع أكثر…

السابق
تطور مُفاجىء.. الجمعية العامة تعتمد قرارا يوصي بإعادة النظر بعضوية فلسطين
التالي
غارات اسرائيلية تُلهِب ليل الجنوب.. اليكم ما يحصل