صيدا: ورد الذاكرة وشوك الفراق

صيدا، المدينة العالقة في الذاكرة من جنوب لبنان كالورد والغرق كشوكها. هي مدينة تركت أثرا كبيراً في سكانها في مختلف مراحل العمر: الطفولة والمراهقة والنضج. فلماذا حلم الهجرة؟

لمدينة صيدا مكانة خاصة في قلبي, صيدا جارة البحر التي تستمد منه وداعتها كما ثوراتها، وتختصر التاريخ بأزقتها الظليلة وجوامعها وكنائسها العريقة. وصيدا بوابة الجنوب، بوابة حنيني إلى أول منزل، أرتاح من تعب الطرق وتقاطعاتها ومفترقاتها حين أصل عتبتها، أخلع عندها همومي وشجوني، كأني وصلت إلى عتبة داري.

رغم تمدنها تظل صيدا تفاجئك ببساطتها، بعفوية لا هي مكلفة ولا متكلفة، بأهلها الظرفاء ولهجتهم الخاصة المحببة، وتنوعهم المتمسكين به رغم رياح التفريق العاتية التي تهب عليهم من كل صوب، كأنهم يدركون أنه خشبة خلاصهم.

في طفولتي كانت صيدا بوابتي إلى مساحات العالم الرحبة، فيها بدأت أولى مغامراتي الصبيانية، زيارات أسبوعية إلى سوق السمك الشعبي, على مينائها، ألهو بين بسطات الصيادين منتشيا برائحة الأسماك الطازجة, عبثا حاولت حفظ أسمائها لأتشبه بأهلها، لكن ذاكرتي غير البحرية لم تسعفني. وعلى متن قوارب النزهة التي كنا نستقلها في جولة بحرية، نهاية كل مغامرة استكشافية، كنا نتقمص وأختيّ شخصية عمال المرفأ في أعمال الرحابنة تارة, وتارة أخرى نتوزع أدوارا تمثيلية، أجلس أنا في مقدمة الفلوكا، راخيا يدي في الماء بحثا عن سمكة ابتعلت خاتما ثمينا، بينما تجلس أختاي في الطرف الآخر مثل حوريتين خرجتا من البحر للإستمتاع برذاذ الموج والشمس. يلفظنا البحر إلى الكورنيش، نغرق في زحمة الأطفال والرياضيين, وباعة غزل البنات والفول والذرة والعرانيس والقهوة والأراكيل.

وفي مراهقتي، كانت شاهدة على حبي الأول، امتزجت رائحة أحيائها وأزقتها بذاكرة الجسد. احتضنت أرضها وسماؤها أحلامي الفتية، دموعي، ووعود الحب الأول وآلام فراقه، هناك غنيت مع فيروز “حبوا بعضن تركوا بعضن”.

زرتها محازبا مؤدلجا، بعد سنوات، حين اتسعت خيمة الاعتصام التي نصبناها في إحدى ساحاتها، لتحتضن حلمنا الذي امتد على مساحات الوطن, حين قررنا أن نسقط النظام الطائفي، فسقطنا في طائفيتنا مجددا. لكني رأيت مرة أخرى فيها، وجهها الوطني الملامح، كنا نناقش، نعترض، نشاغب، نلتقي، نختلف, وأدركت أنه لا يوجد إلا صيدا تمنحك في آن معا، تجربة حرة، وذاكرة متشعبة، ونموذجا فريدا.

ذهبت أمس إلى صيدا مودّعا ذكرياتي ، وانا في صدد مغادرة الوطن للعمل في الخارج، فقصدت الشاطئ الشعبي، متحررا من صخب السيارات وفوضى البيع والشراء، وضغط المدنية المنهك. هنالك ازددت إطمئنانا أن صيدا وأهلها مازالوا على حالهم، على بساطتهم.

الطلاب الهاربون من المدرسة، ينتحون جانبا، يدخنون السجائر, الشاب “الجغل” صاحب سيارة البي إم، يتموضع أمام الكاميرا لالتقاط صورة، حريصا على إظهارعدم مبالاته، شابتان تتمشيان بكامل أناقتهما، تتحدثان، تضحكان عاليا، حين تقتربان من “الجغل” صاحب السيارة، أم وأطفالها يستمتعون بالشمس ونسيم البحر, وكهل يقضي حاجته خلف صخرة قريبة من الماء، يبدد سكينته جرذ بحجم هرة، يقفز هاربا من مجموعة أطفال يرشقونه بالزلط، بصارة تقطع خلوتي قائلة: “إنت شب محسود”، أنظر إليها نظرة غائمة، واقول في نفسي “لأصدقها، ربما أنا في حاجة إلى جرعة من الثقة, من امرأة غريبة، لا تعرف شيئا، عن ماضيّ ولا حاضري، ولربما كشفت لي في هذه اللحظة الساحرة وجه مستقبلي الذي أجهله”.

جلست قربي ممسكة يدي، قالت بداية: “يدك ناعمة يا بني”، ثم انهالت علي بتنبؤات وتوقعات أشبه بحلم ليلة صيف، كنت شهريار، وهي شهرزادي. أنا الذي عشت بداية شبابي مشككا بالمعتقدات والقيم، والله في بعض الأحيان، مقتنعا أن ما أعتنقه هو الحقيقة، وكل ما عداه أسطورة وخرافة، دون أن أعي أن الوصول إلى الحقيقة لا بد أن يترافق مع وجود الآخر المختلف وتقبله. اختارت لي البصارة اسم سعد بعدما تمنعت عن البوح لها باسمي، نقدتها ما طلبته من مال، فذهبت وهي تتمنى لي حياة سعيدة، ونجاحا والكثير من المال.

هي لا تعرف، كما هذه المدينة، كما هؤلاء الناس الذين أحب فيهم فرحهم العادي، أن هذا الوطن الذي امتزجت همومه بعروقي, وراكم في قلبي الخيبات والانكسارات، بات يضن عليي ولو بحلم عابر يبدّد قلقي، فهو لم يعد قادرا على تحقيق أمنيات أحد، وأن أمنيتي الوحيدة هي … هجره.

السابق
وسائل تواصل أو تفكك إجتماعي
التالي
بحث في شرعية السلطة ومرجعيات القضاء