بحث في شرعية السلطة ومرجعيات القضاء

في 11 أيلول 2014، تقدمت مجموعة من المواطنين اللبنانيين، بمراجعة لدى مجلس شورى الدولة تطالبه فيها بإبطال قرار مجلس الوزراء القاضي باستخدام احتياطي موازنة 2005، منتهية الصلاحية، لدفع الرواتب والأجور، لمخالفته الصريحة للقانون والدستور، وباتخاذ إجراء احترازي يتمثل بفرض رقابة هيئة قضائية وإشرافها على تصرف مجلس الوزراء بالمال العام بالنظر إلى فقدان أي سند قانوني للجباية والإنفاق والاستدانة، من خلال حصره ضمن الحدود التي تسمح بتأمين استمرار تأدية الوظائف الحيوية للدولة، وإلى حين عودة الدولة إلى إتباع الأصول الدستورية والقانونية في هذا المجال
الحجج الجدية، أي غير الشكلية أو الاصطناعية، التي قد يستند إليها مجلس الشورى لرد المراجعة، أقله في شقها الإجرائي، لكون إعلان المخالفة واجب واضح، هي حجج معروفة: عدم جواز مس القضاء بالأعمال الحكومية، أي العلاقات بين السلطتين الإجرائية والتشريعية والعلاقات مع الدول الأجنبية، واحترامه مبدأ فصل السلطات، أي بكلام أبسط، أن يعتبر المراجعة سياسية ليقول إن القضاء لا يتعاطى السياسة.
ما يستوقف أولا أن هذا البحث يدور، في حين أن المجلس الدستوري قد رد مؤخرا طعنا بتمديد مجلس النواب لولايته، لأنه وضع الاعتبارات التي ساقها بعض الأطراف السياسيين لناحية رفضهم إجراء الانتخابات وتهديدهم بزعزعة السلم الأهلي في حال حصولها، في مرتبة أسمى من المرجعية الدستورية التي أقر المجلس الدستوري بمخالفة التمديد لها.
ما معنى قيام القضاء الإداري برسم حاجز بين مقامه ونطاق عمله ومجال آخر يسميه سياسة، في حين أن كل عمل ذي طابع عام تجريه السلطة يصح اعتباره سياسيا، وفي حين أن صفة الطرف القائل بالفصل وعدم الاختصاص لا تأتيه أصلا لإطلاق حكمه إلا من خلال موقعه ضمن الانتظام العام.
يجدر التمييز طبعا بين المراجعات ذات الطابع الخاص التي تطالب بتحصيل حق فردي وفق مرجعية الانتظام العام والمراجعات ذات الطابع العام التي تطالب بصد الاعتداءات على الانتظام العام ذاته، وهي اعتداءات يصح طبعا، لمن أراد، نعتها بالسياسية، وليس النعت مشيناً. في الحالة الثانية، يصبح ادعاء الفصل بين القضائي والسياسي انغماسا في السياسة إنما في طرف المعتدي، تغاضيا أو تواطؤا، وهو يؤول إلى إفقاد القائل به حجة قضائية صفة القول بالحجة.
القول إن المسألة سياسية يفترض في الحقيقة عدة أمور: يفترض أولا الاعتراف بأن المخالفات المصنفة سياسية، تشكل تعديلا في الانتظام العام واعتداء عليه، وإنما أيضا أن هذين التعديل والاعتداء قد تم القبول بهما من قبل القاضي المكلف بصدهما، لأن الاعتراض عليهما لا يحصل في الانتخابات، ولا هو، في حال أجلت الانتخابات، حصل بالتمرد. هذا يعني أيضا أن القاضي يرى أن الشعب، هو وحده المسؤول عن الدفاع عن الانتظام بينما هو، القاضي، يعتبر صمت الشعب، وإن كان ناتجا عن اليأس والقهر، دليلا على رضاه، وينفي عن نفسه أية مسؤولية في استنهاض همة الناس للممانعة والعصيان على الأمور التي يقر بعدم شرعيتها، بينما يستمر مستفيدا من موقعه والمنافع المتصلة به. فينقلب ادعاء الابتعاد عن السياسة ليس فقط انغماسا فيها بل رضوخا لحالات الفشل والظلم فيها وتغطية لها. وفي هذا تغاض طبعا عن مستلزمات المقام والحصانة والمرتبة التي ينطلق منها القاضي كشخص. فكيف للقاضي الإداري أن يدعي النأي بنفسه عن المسألة المطروحة وهو يتقاضى تعويضات تصرف عن غير وجه حق ويدفع ضرائب لا يحق للدولة جبايتها؟ كيف يكون القاضي منخرطا في العمل غير القانوني بصفته الشخصية ونائيا عنه بصفته الوظيفية؟
أما إن لم نسر في اعتبار هكذا مواقف ناجمة عن تغاض وتواطؤ وخذلان فإلى ماذا ننسبها؟ لا بد من نسبتها وفق التقاليد القضائية إلى سند مرجعي يكون أسمى مرتبة من ضبابية النصوص المتصلة بمعالجة الضرر الحاصل، وهذا ما رأيناه تماما في رد الطعن أمام المجلس الدستوري. أمام فداحة الاعتداء ووقاحته تنتفي إمكانية الاختباء وراء النصوص التفصيلية ويتوجب على القاضي استحضار مراتب الإسناد المرجعية والبت بها. وهل من مبرر لوجود القضاة أصلا لو كانت الأحكام نتائج تلقائية لنصوص واجتهادات ثابتة، أما كان ممكنا استبدالهم ببرنامج معلوماتي أو بموقع إنترنت تفاعلي؟ فما هي مراتب الإسناد هذه وبالتحديد مراتب إسناد المسؤولية والصلاحية في سلم الشرعية؟
قد يقول قائل إنه التسليم المطلق بالأمر الواقع، أو الحرص على السلم الأهلي بأي ثمن، أو الرضوخ للصفة الماورائية للمعتدي، إلى ما هنالك. هل يجوز للقضاء اعتبار أي من هذه المرجعيات مرجعيات أخيرة أو مطلقة؟ ما هي شروط تطبيق كل منها وتبعاته وما الذي يبرر مرجعيتها؟ تقدير التجربة التاريخية؟ اعتبار أن التاريخ انتهى إلى شكل الغلبة القائم حاضرا؟ حقوق مطلقة للإنسان الفرد؟ وحي إلهي؟ النأي بالنفس الفردية والجماعية؟ ألسنا مضطرين للإقرار بأن كل هذه المرجعيات، متى أمعنا النظر فيها، وسيطة وظرفية ونسبية؟
وعليه، سواء انطلقنا من الشكل السطحي للحجة: «الطابع السياسي للمراجعة»، أو من صيغتها الأعمق: «الطابع الملزم للشكل الظرفي للممارسة الواقعية، أي التاريخية، للسلطة»، فإن المسألة ذاتها تبقى مطروحة، وهي مسألة شرعية ممارسة السلطة، والسلطة القضائية من ضمنها. فالتاريخ مسار لا تنفع مقاربته عمليا إلا ارتقابا، وميزته الأساسية المخاطرة وعدم اليقين. كل قرار عام مخاطرة وموقف. التعامل مع السلطة بوصفها نظاما اجتماعيا وممارستها عمليا لا ينفصلان عن المخاطرة. وعليه فإن تحسس منسوب المخاطر هو الذي يحدد السلوك تجاه سبل خوضها وأشكاله. وهو الذي يرتب سلم المرجعيات. فيصبح الإسناد المطلق أو الأخير إسنادا نسبيا بدوره.
انقلاب الأنظمة حدث غير إرادي، وإن انخرط فيه أفراد بإرادتهم، فهم حكما أقلية، وإلا لما كان النظام نظاما ولما كانت له الشرعية التي تحول قواعده إلى مرجعيات سلوكية معممة. والقضاة في هذا السياق مثقفون مهنيون يؤدون دورا وظيفيا في النظام ويستفيدون من تحصينه لهم. فكيف يتصرفون عندما يزحل النظام إلى شيء آخر ويستغيث بهم الناس القلقون؟
نشهد في لبنان تحللا للدولة الشكلية من خلال سقوط وظائفها: لا موازنات، لا حسابات، لا انتخابات، لا قدرات عسكرية، لا إمساك بالواقع المجتمعي ولا بالنزوح من سوريا.. ونشهد بالتالي سقوطا مريعا لشرعية الصيغة المؤسسية التي ورثناها من المستعمر أو المنتدب، والتي أمعنا فيها تحريفا وتأويلا، وانهيارا لثقة الناس بجدواها، يترجم بلجوئهم إلى صيغ سياسية بديلة منها، داخليا وخارجيا، أو إلى الهروب، إفراديا وجماعيا. وإننا نشهد أيضا، في لبنان وعلى كامل مساحة المنطقة، وبشكل مأساوي، سقوطا موازيا لشرعية الصيغ الدينية القديمة والمستحدثة لتأطير المجتمع وقيادته، من مشهد الفرق التكفيرية، إلى تخبط الأحزاب المسماة دينية في ممارستها للسلطة حيثما أمسكت بها، إلى التهديد الجدي بإضاعة مسألة شعب فلسطين وأرضها من خلال تحويلها إلى مسألة رمزية محورها طقوسيات تجري في حي من أحياء القدس، في مقابل إعلان يهودية الكيان الصهيوني والقبول به.
سقوط شرعيتي الدولة الموروثة والصيغ الدينية المستولدة يدفع إلى العنف والقمع والتحلل المجتمعي. المواجهة ليست مجرد موقف بل ضرورة وظيفية، وهي واجبة على كل فرد ومقام، وعنوانها الدولة والمواطنة.
يخطئ من يظن أن هذا العنوان سطحي أو مستهلك أو طوباوي، فهو يعبر عن إقرار ضروري وإن كان مريرا بأن تجارب قرابة قرن كامل، منذ إعلان نشوء دولنا العربية، لاستيعاب صدمات الحداثة والتمكن من التحكم ولو بالحد الأدنى المقبول من آلياتها قد فشلت. هذا الفشل في إرساء مؤسسات الدولة المتمكنة من تأطير مقدرات مجتمعاتها تتحمل مسؤوليته النخب على اختلاف مرتكزاتها الطبقية والفكرية والخطابية، وقد دفع التخبط بالبعض إلى صيغ قمعية، وبالبعض الآخر إلى شعبويات عرقية أو دينية، وبالبعض الأخير إلى استجلاب حمايات أجنبية، حتى استفقنا جميعا خلال العقد المنصرم على سقوط هذه المراهنات تباعا. بناء الدولة والمواطنة ضرورة وظيفية ملحة ومتأخرة عن ركب تشكل الدول في العالم وفي منطقتنا، من تركيا إلى إيران إلى الدولة الصهيونية.
ويخطئ من يدخل نفسه في جدل شكلي حول العمل من داخل النظام أو من خارجه، وكأن النظام جزيرة، يحتار الفرد وضع قدمه عليها أو يحجم. فالمواجهة لا بد أن تبدأ من الداخل ترميما للانتظام الموروث وانطلاقا مما بقي من معالمه، وتحديدا من القضاء، على أمل ألا تكون «الغرغرينا» قد أكلت الجسم كله فيمكن ببتر عضو تخليص الباقي إن تبين أنه ما زال سليما، وهذا هو الامتحان الذي نواجهه معاً، نحن والقضاء الإداري، في هذه المراجعة. وتكون هذه المواجهة ثانيا، وبشكل متواز وضروري، من خارج المؤسسات، أي من خلال استنهاض القوى المجتمعية.
في هذا السياق نعمل على تحديد أشكال إجرائية للتعامل في عدم شرعية سلطات الأمر الواقع، ومنها إطلاق حملة لدعوة اللبنانيين، ولا سيما المهنيين، ومنهم المحامون، إلى دفع الضرائب المتوجبة عليهم، لا إلى الدولة التي لا يحق لها جبايتها في غياب موازنات، بل لدى كتاب العدل وحجزها لصالح الدولة حتى نهاية شهر كانون الثاني من السنة التالية بحيث تحول إلى الخزينة إذا أقرت الموازنة أو تعاد إليهم. فلا يكون سقوط الشرعية مجرد كلمة تقال، ويتحقق الانقلاب ويستمر التفتت ويسير قدما.

السابق
صيدا: ورد الذاكرة وشوك الفراق
التالي
قزي: زيارة الجميل الجنوب ليست اختراقا بل فعل إيجابي وأمل جديد للوحدة الوطنية