ام خالد وكثيرات مثلها.. وجدن اولادهن ضباطاً في جيش العدو الإسرائيلي !!

هو صوت خافت ينبعث من داخل صندوق صغير"لاب توب"، وفي المقابل هي امرأة في العقد التاسع… صوتها الخافت وحجابها الأسود زادا من تعقيد الرؤية وسوء سماعها جيّداً، لكن نتيجة إصرارها على إكمال روايتها بهدف إسماعها للعالم كلّه، إستمهلتُها للحظات وأحضرتُ مسجّلاً حفظت به صوتها، وكانت هذه الرواية:

إنّه الثامن عشر من كانون الثاني الجاري، الطقس عاصف وماطر، والسهرة عائليّة ما كانت لتحلو بِلا الشاي والكستناء المشويّة. وبينما كنّا نتنقّل في الحديث من موضوع إلى آخر، اقترحَ أحدنا الاتّصال بكندا عبر الـ"سكايب" للتحدّث إلى شقيق زوجتي، وكانت المفاجأة ظهور مازن وإلى جانبه ابنته وزوجته وامرأة متقدّمة في السنّ لا أحد منّا يعرفها، إنّها "أم خالد" حسبما عرّفت عن نفسها، وبلا مقدّمات تكلّمت بلهجة عربيّة لم أستطع تحديدها، قبل أن يتبيّن لي أنّها فلسطينيّة. وإذ علمت أنّني صحافي راحت تروي قصّتها راجية كتابتها ونشرها.

روَت "أم خالد": "عندما حصلت نكبة فلسطين كنت في الثامنة عشرة من عمري، وقبلها بسبعة أشهر وضعت طفلي الأوّل خالد. وعندما وقعت الحرب التي سمّيت نكبة 1948، كنّا نسكن في حيفا، يومها كان زوجي خارج المنزل ويعمل في البناء، في حيّ مجاور. خرجت لأتفقّده عند البوّابة الخارجيّة لمنزلنا تاركة طفلي نائماً في سريره، وفجأة وجدت أمامي ما لا يقلّ عن خمسين شخصاً ينهالون عليّ بالضرب ويطردونني من منزلي، فرحت أصرخ وأبكي وأقبّل أقدامهم ليسمحوا لي بأخذ طفلي النائم في الداخل، لكنّهم لم يرحموا بكائي وتوسّلي. بعد النحيب والبكاء، وبعد أن قُتِل مَن قُتِل وهرب من هرب، أوقفوا جميع الأهالي في ساحة البلدة. النسوة يصرخن، هذه تريد اولادها وتلك تبكي مقتل زوجها أو أحد أبنائها، لكنّ السكون عمّ المكان عندما هددونا بالقتل إنْ لم نصمُت. ثمّ تقدّم منّا رجال برُتَب عسكريّة عالية طالبين منّا مغادرة البلدة، تحت طائلة القتل. وعندما طالبنا بأبنائنا وأزواجنا الذين لا نعرف مصيرهم، قالوا لنا: "سيعودون إليكم بعد يومين عبر المؤسّسات الرسميّة". وفي هذه اللحظات توسّلت أحدهم قائلة: "أرجوك، طفلي عمره أشهر. فما كان منه إلّا أن ركلني على رأسي فشجّه، ودخلت في غيبوبة لم أستفق منها إلّا بعد ساعة، ووجدت نفسي خارج البلدة مع كثير من الأهالي.

توجّهنا الى الضفّة الغربية حيث التقيت زوجي هناك بعد شهر من وصولي، فأخبرته بما جرى لي، لتبدأ معاناتنا. لم نترك مؤسّسة إنسانيّة أو رسميّة إلّا وطرقنا بابها بحثاً عن طفلنا، لكن بلا جدوى. ظللنا على هذه الحال حتى عام 1971، عندما سمحت السلطات الاسرائيليّة للفلسطينيّين أن يعبروا البوّابات الحدودية لزيارة الأرض المحتلة. فذهبنا لنتفقّد منزلنا الذي تركنا فيه طفلنا خالد الذي صار له اليوم 3 إخوة وأخت أنجبناهم في الضفّة الغربية حيث هجرنا وأقمنا. ذهبنا الى حيفا التي كنّا نسكنها قبل النكبة ومن ثمّ الى منزلنا الذي رأيناه على حاله. وما إن لمحت المنزل من بعيد حتى بدأت أرتجف ووقعت أرضاً خوفاً من المجهول، لكنّ زوجي أعانني الى أن وقفنا عند باب المنزل، وقرأت سورة "ياسين" من القرآن الكريم.

طرقت الباب مرّات عدّة قبل أن تفتحه عجوز بيضاء لا أزال أتذكّر شكلها حتى اليوم. وقبل أن أسألها عن ابني، أمسكتني بيدي، وبلهجة ناعمة دعتني الى الدخول. دخلتُ منزلي خائفة مرتجفة، لا أعرف ماذا ينتظرني، فيما زوجي يسألها: أين ابني؟! لكنّها راحت توحي له أن يتمهّل، فبادرت أُكلّمها بالإيماءات والإشارات التي لم تفهم معناها، لكنّني فهمت أنّها عرفتني منذ دخولي من خلال الصور الخاصة بنا التي كانت معلقة في أرجاء المنزل منذ سكنته. والغريب أنّ منزلنا كان لا يزال على حاله تقريباً: الأبواب نفسها، والشمعدان الذي كنت قد وضعته في غرفة الجلوس كان كما تركناه قبل 25 عاماً. وتركتنا المرأة أنا وزوجي وحدنا في المنزل وخرجت لدقائق معدودة، فشعرنا بخوف شديد، لأنّنا ظننّا أنّها ستُحضر الشرطة الإسرائيلية لتطردنا، لكنّها عادت ومعها امرأة عربيّة الملامح، هي جارتها المغربية اليهودية التي ستتولّى الترجمة بيننا.

روت المرأة المغربية أنّ جارتها وزوجها جاءا من أوروبّا بعد نكبة 1948. ولدى وصولهما إلى هذا المنزل (منزلنا) وجدا أنّ ضابطاً في الجيش الإسرائيلي وزوجته يسكنانه، ثمّ عرضا على الزوجين اليهوديّين القادمين حديثاً من أوروبّا، أن يسكناه، شرط أن يتعهّدا تربية طفل كان الضابط قد وجده في المنزل لحظة دخوله إليه عام 1948.

وافق الزوجان اليهوديّان الجديدان، وسجّلا الطفل على اسميهما واستخرجا له أوراقاً ثبوتيّة بصفته طفلاً مُتَبنّى. ولم يُخفِ الزوجان غير المنجبين عن الإبن المُتبنّى، أيّ طفلي، القصة الكاملة".

وتضيف "أم خالد": "وسط ذهولي وزوجي، قالت المرأة اليهودية، أم إبني بالتبنّي، إنّها ستتّصل به هاتفيّاً لكي يأتي للقائنا. فجأة إنتابتني نوبة من البكاء وتسارَع نبض قلبي، لم أصدّق ما يحدث، ولم أستطع تحمُّل الانتظار، فرُحتُ أدور في المنزل، منزلي القديم، أتفقّده من غرف النوم إلى المطبخ إلى الحمّامات، وكأنّني في منام. وبينما أنا على هذه الحال من التوتّر، رنّ جرس الباب، فارتبكت ولم أعد أدري ماذا أفعل، لكنّ المفاجأة كانت عندما فُتِح الباب ودخل منه شاب في ثياب ضابط في الجيش الإسرائيلي برتبة ملازم أوّل. شاب عربيّ الملامح، أنيق، يقترب منّي في هدوء، فألقيت بنفسي عليه أبكي وأصرخ وأشمّ رائحته، لكنّه لم يحرّك ساكناً، بل نظرَ إليّ مستغرباً وكأنّه يقول: "ما الذي تفعله هذه المجنونة!"، أمّا زوجي ولشدّة ذهوله لم يتلفّظ بكلمة واحدة. فكيف يعقل أن يكون ابننا ضابطاً في الجيش الإسرائيلي؟!.

رجوت المرأة المغربية أن تترجم لنا كلّ شيء. لكن ماذا تترجم؟! فحين قلت لإبني إنّ اسمه خالد، ورجوته أن يذهب معنا، قال: "لن أذهب إلى أيّ مكان. أنا هنا وسأبقى هنا". وحين قلت له: "كيف ترضى على نفسك أن تكون في هذا الجيش، فيما إخوتك وأقاربك على الجهة المقابلة، ويُقتَل بعضهم على يد الجيش الذي تخدم فيه؟! ردَّ عليّ قائلاً إنّه لا يأبه لمثل هذا الكلام، وإنّه يهوديّ وينتمي إلى دولة إسرائيل، وإنّه ضابط في جيشها. ثمّ سرعان ما قال إنّ علينا نحن، أبويه اللذين ولِدَ من صلبنا، أن نرحل فوراً، وقد عبَّر عن ذلك قائلاً: "عليكِ أن ترحلي أنتِ والرجل الذي معكِ ولا تعودي ثانية". ثمّ خرج من المنزل. هل أقول إنّه خرج كما خرج من قلبي وقلب والده؟!

والده مات بعد فترة وجيزة متحسّراً على ما جرى لنا. واليوم نحن نسكن هنا في كندا، أنا وأولادي الأربعة، خالد الثاني وأحمد وجهاد وابنتي مريم. كنت أتمنّى لو كان خالد الأوّل معنا، لكن هذا هو قدرنا، فأكتب قصّتي لعلّها تصل إلى العالم كلّه، علّه يُدرك مدى قهرنا وعذابنا".

إنتهت قصّة أم خالد.  

السابق
دروع تقديرية لاعلامي صيدا من حركة فتح
التالي
موسكو تؤيّد تنحّي الأسد