“قتلى المياه” ضائعون بين الوزارات

إنساناً ابتلعتهم مياه البحر وأحواض السباحة منذ بداية الموسم. المشكلة ليست في العدد، بل في الموت المشتت بين صلاحيات وزارات اقتسمت البحر، لا لشيء، إلا لأنها «حصص طوائف» على هواها تتحدد العقوبات

حلّ الموت مبكراً هذا العام. 59 قتيلاً ابتلعتهم المياه في موسم لن يقفل على أقل من 100 ضحية… وربما أكثر. هكذا يقول العارفون. قبل أيام، مات الرقم 59. غرق الطفل رامي الهاشم، ابن السنوات الخمس، في أحد المسابح في منطقة المنصورية، على مرأى من عيون الكل، بعدما ابتلع ثلاثة ليترات من المياه. لا أحد كان بمقدوره إنقاذ الطفل من هذا الموت، فكلهم يشبهونه: أطفال صغار لا طاقة لهم إلا على الصراخ. أما المنقذ، فلم يحضر إلا عندما طفا رامي على سطح المياه وبالكاد يخفق قلبه الصغير.

فتحت التحقيقات في الحادث، وقبل أن تؤول إلى شيء قال وزير السياحة فادي عبود كلمته: «إذا تبين في التحقيقات العائدة إلى غرق الطفل وجود اختصاصي نجاة واحد بدلاً من اثنين، فإن المسبح الذي حصل فيه الحادث سيُقفَل». وماذا لو تبين فعلاً وجود منقذ واحد؟ هل سينفذ وعد الوزير ويقفل المسبح؟ وإن أُقفل، فهل سيكون ذلك نهائياً، أم كما درجت العادة «كم نهار» تحذيري ويعود إلى العمل كأن طفلاً لم يمت، أو حتى أطفالاً؟ التجربة لم تكن يوماً في مصلحة «الموتى»، وقد يكون كافياً قول رئيس مصلحة الضابطة السياحية أمين ذبيان «أن لا إقفال حقيقياً قد حصل إلى الآن». والدليل دعوى شليطة فضّول، والد الطفلة كريستا ماريا، التي ابتلعها شفاط المياه في أحد المسابح الفخمة، أمام عيني أمها. يومها، تقدمت العائلة بدعوى، فلم تحصد إلا نتيجة واحدة: فضّ القضية بسبب الضغوط السياسية.

رامي الهاشم، جورج بو شديد، وابنة الخمس سنوات التي غرقت في أحد المسابح في القاسمية. 3 من 59 ساقهم البحر، في غفلة من عين السلامة العامة. مرّت أخبارهم عابرة في شريط إخباري أو في محضر أمني وأقفلت حياتهم مع انتهاء الخبر. عدد غير نهائي، فلا أحد يعرف عن غرقى موسم البحر إلا أرقاماً تقريبية تنبئ بأن الموت كثير، لكن، حتى لو استقر الرقم عند نهاية الموسم، فقد لا يكون هو الرقم الدقيق، نظراً إلى عدم وجود داتا وطنية تحصي هؤلاء، وما يجري جمعه من أرقام نجمعه صدفة من «عمليات إسعاف الدفاع المدني والصليب الأحمر ومحاضر القوى الأمنية والتجميعات من وسائل الإعلام» يقول نائب رئيس الجمعيّة اللبنانيّة للوقاية من الإصابات الرياضيّة «لاسيب» زياد الحلبي، لكن، حتى محاضر القوى الأمنية في بعض الأحيان تسجل قتلى البحر على أنهم «أموات عاديون، والسبب أنهم إذا ماتوا خلال 24 ساعة تعدّ حالة وفاة بإصابة بحرية، وإن تخطت الأربع والعشرين بدقيقة تعدّ ميتة عادية»، يقول المستشار القانوني في «لاسيب» حسام الحاج. وعلى هذا الأساس «الـ59 حالة هي عملياً 100 أو أكثر».

هذه الأرقام، سواء كانت نهائية أو تقديرية، لم تنزل عن المئة إلا عام 2006، إذ كان البحر ممنوعاً بسبب الحرب الإسرائيلية على لبنان. كانت هذه هي السنة الوحيدة التي يموت فيها 38 شخصاً، أما البقية، فـ«مئة وطلوع»، يقول الحلبي. وآخر إحصاء أجرته «لاسيب» عن حوادث البحر كان عام 2009، إذ بلغ عدد قتلى البحر 142 قتيلاً في 120 يوماً (من أيار حتى أيلول) يتوزّعون ما بين قتلى المسابح الخاصة والأخرى المجانية، المرخص منها وغير المرخص، وحوادث الشك في البحر والحوادث النهرية.

والمرعب هنا ليس عدد القتلى، بل نسبتهم إلى موسم يدوم أربعة أشهر فقط. واللافت أن أسباب هذا «الكمّ» من الموت هو إما غياب المنقذ أو جهله بآليات الإسعاف، فيما السبب الأكبر غياب الترخيص. فهذا العام مثلاً، سجلت الضابطة السياحية في وزارة السياحة إلى الآن 57 مخالفة، منها 25 في جبل لبنان، و20 في الشمال، وواحدة في الجنوب، على أن «26 من 57 هي مخالفات ترخيص»، يقول ذبيان.

وقبل الدخول في مسؤولية وزارة السياحة، لا بد من الحديث عن «اللافت الثاني»، حسب قول ذبيان. فالمسؤولية عن الموت الذي يحصل كل عام خلال موسم البحر متفرّعة. وزارة السياحة ليست وحدها المسؤولة، فقد توزع الموت فروعاً: موت فرع السياحة، وموت فرع وزارة الأشغال العامة والنقل، وموت فرع وزارة الداخلية والبلديات وموت لا فرع له ضائع من دون حسيب ورقيب. هنا، عيّنة من هذه الفروع: رامي الهاشم الذي غرق في أحد المسابح الخاصة المفترض أنها مرخصة، وجورج بو شديد الذي هوى من «الجيت سكي» في بحر صور، والفقراء الذين تبتلعهم مياه البحر عند شاطئ الرملة البيضاء العام، و«الطائر» عند كورنيش عين المريسة.

أربعة قتلى في أربعة أماكن. هنا، يختلف الحسم في كل موت، كما العقوبة وفقاً للجهة التابعة لها. فرامي، ابن السنوات الخمس، الذي غرق في المسبح الخاص «يتبع موته إدارياً» لوزارة السياحة، استناداً إلى المرسوم المتعلق بتحديد «الشروط العامة لإنشاء المؤسسات السياحية واستثمارها»، الذي يضع على عاتق الوزارة مراقبة شروط السلامة في تلك المؤسسات، وخصوصاً أحواض السباحة، المرخص منها أو المخالف والمشرعنة مخالفته. أما جورج بو شديد، فمات. فقط لا غير. فلا سلطة لأحد على البحر.

والثالث مات ضمن نطاق الأملاك البحرية التابعة للمديرية العامة للنقل البري والبحري في وزارة الأشغال، وبما أن ملف الأملاك البحرية لم يحلّ بعد، فلا قانون يضبط إيقاع الموت ولا من يضبطون. وخصوصاً أن رأس الوزارة، الوزير غازي العريضي، المخوّل بتوضيح هذا الأمر، لم يكن في «الخدمة» يوماً طوال الفترة التي حاولنا خلالها الاتصال به، كما لم تصلنا موافقته على الرسالة التي أرسلناها مرتين بغية التحدّث مع أحد المعنيين بالملف في الوزارة.

هو بحر واسع لا يضبطه إلا منقذ واحد، وضّبته المديرية العامة بالتعاون مع جمعية بيروت للتنمية، وفي بعض الأوقات «بيحط الدفاع المدني منقذ، لكنه لا يقدر أن يغطي كل الشاطئ»، يقول ذبيان. أما الشواطئ الأخرى؟ فـ«إلها الله». وزارة السياحة المخولة حماية السلامة العامة، لا «صلاحية لها هنا، وحتى صلاحيات وزارة الأشغال العامة والنقل غائبة، ولا يوجد كشف على أي شيء»، يقول الوزير عبود، متقدّماً باقتراح «يقضي بأن تكون تلك المسابح المجانية على الشواطئ خاضعة من ناحية السلامة العامة لوزارة السياحة»، لكن حتى هذا الاقتراح «لا يكفي وحده، إذ يفترض أن يكون هناك قانون لتنظيم كل هذا ومسؤول، لأنه آخر النهار بدك حدا تقدري تحاسبيه». ولهذا السبب، قد يكون من المجدي «تسليم هذه الأماكن للإدارة المحلية، البلديات على سبيل المثال»، يتابع.

لكن، ماذا عمن يموت في «شكّة» عند عين المريسة؟ هنا من واجب القوى الأمنية الضبط. والجدير بالذكر أنه كان قد صدر قرار منذ عامين عن وزير الداخلية والبلديات زياد بارود يقضي بمنع الشك في الأماكن العامة وعلى الكورنيش في آب عام 2009، لكن حتى هذا المنع «استنسابي، فدورية القوى الأمنية صاير فيها مثل حملة حزام الأمان إذا حبت تضبط بتضبط»، يشير الحلبي.

منقذون لـ 15% من المسابح

لا تحظى المسابح اللبنانية بعدد كاف من المنقذين «الشرعيين»؛ إذ إن الدورات التدريبية التي تجريها وزارة السياحة لهم، بالتعاون مع إطفائية بيروت والصليب الأحمر اللبناني تقتصر على دورة واحدة سنوياً، لعدد طلاب لا يتعدى 20، وهو عدد غير كاف مقارنة بعدد المسابح التي تنبت كالفطر وتصل إلى نحو 270 مسبحاً، منها «نحو 20% غير مرخصة». ومن يحوزون شهاداتٍ رسمية بحسب القانون، يمكن «أن يغطوا حاجات 15% من المسابح». ولهذا السبب «نستعين بالمنقذين الحائزين شهادة من الصليب الأحمر أو الدفاع المدني»، يقول رئيس مصلحة الضابطة السياحية أمين ذبيان. إضافة إلى أن المنقذ، في بعض الأماكن، يعمل «دوبل مايجور»، أي «منقذاً في النهار ونادلاً ليلاً». أما الدورات التدريبية، فمنذ وجد القانون لا تزال على حالها: الوزارة «تستعير» منقذين في موسم البحر لتدريب منقذين. لكن، ماذا ستفعل هذه الدورات في ظل استعانة بعض أصحاب المسابح بمراقبين من دون شهادات؟ ثمة سؤال أكبر: من يحمي المغامرين على الشواطئ والمسابح الشعبية، وهي التي لم تكن يوماً مسؤولية أحد؟

السابق
بدأ اجنماع المجلس الاعلى للدفاع في قصر بعبدا
التالي
نقابة الغواصين تطالب بمحاسبة شفاطي الرمول