«شاهدت براميل النظام وسكاكين داعش ففضلت الموت في البحر»

كنت أحاور شاباً سورياً أمام المفوضية الاجتماعية لاستقبال اللاجئين في برلين حين علا الصراخ. شخصت أبصار المنتظرين الى حافة الطبقة العاشرة من المبنى. شاب غاضب يهدد بإلقاء نفسه اذا لم توافق السلطات على منحه حق اللجوء. ارتبك رجال الشرطة. سارعوا الى إحضار من يستطيع تهدئة الشاب. وبدأوا التفاوض معه. ضحك الشاب السوري وقال: «أنظر. السلطات الألمانية لا تستطيع احتمال انتحار لاجئ على أراضيها. النظام السوري قتل حتى الآن ثلاثمئة ألف شخص وشرّد الملايين ولم يرفّ له جفن. استدرَجَ الإرهاب الى سورية واليوم يحاول ادعاء محاربته».

جولة وسط الحشد تدفعك الى الاستنتاج: هذه ليست مجرد موجة لجوء سورية. انها أكثر من ذلك. إنها عاصفة لجوء تحمل الهاربين من الحروب والظلم والفقر وتحمل اليائسين من حكوماتهم وأوطانهم الفاشلة. يطالب اللاجئون ألمانيا بأن توفّر لهم ما كان يُفترض ان يحصلوا عليه في البلاد التي ولدوا على أرضها وتوهّموا أنهم سيبقون فيها. يطالبونها بالأمان والخبز والاحتضان والطبابة والتعليم والسكن. ربما لهذا السبب رفع السوريون في طريقهم إلى هذا المكان لافتات كتب عليها «ماما مركل» فهؤلاء الأيتام لم يجدوا غير الاستغاثة بالمستشارة انغيلا مركل. تَعثُر بين المحتشدين على سوريين كثيرين لا تزال وجوههم تحمل آثار الرحلة المضنية التي قادتهم الى هذه البلاد. يشعر من وصلوا بأنهم محظوظون، ذلك ان آخرين يقيمون الآن في قعر البحر فريسة للأسماك. تعثر أيضاً على هاربين من العراق وليسوا بالضرورة من الطائفة السنّية. تجد ايضاً أفغاناً نفضوا أيديهم من تلك البلاد الصعبة التي لا تجيد غير الحرب. وتعثُر على باكستانيين وإيرانيين ووافدين من تركمانستان ومولدافيا وصربيا وألبانيا وكوسوفو وبعض البلدان الافريقية. ويروي لاجئون سوريون أن شاباً سودانياً رافقهم في رحلة القارب وأصرّ على أنه سوري من دمشق. عدد السوريين الذين وصلوا إلى ألمانيا في السنوات الأربع الأخيرة لا يزيد عن 180 ألفاً.

استقبلت ألمانيا في السنة الحالية نحو نصف مليون طالب لجوء وتتوقّع ان يقترب العدد من المليون مع نهاية السنة. تبلُغ تكاليف استقبال اللاجئين وتأمين إقامتهم هذه السنة أكثر من ستة بلايين يورو. وتتوقّع الحكومة تكاليف مشابهة في السنة المقبلة. واضح أن الحكومة الألمانية سارعت إلى تقديم تسهيلات خصوصاً للسوريين. وفرت حكومات الولايات 40 ألف مكان إضافي للإقامة. وساهمت الدولة في تطويق المتخوّفين والمتعصّبين بالقول إن ألمانيا تحتاج الى شباب وعائلات وأيد عاملة وأن موجة اللجوء لن تؤدي إلى تقليص الخدمات أو زيادة الضرائب.

تُسارع السلطات الألمانية الى توفير مقر إقامة موقت للواصلين. تستقبلهم في مدارس أو صالات رياضية أو أبنية أخلتها الشرطة. بعدها تستمع محكمة الى طالب اللجوء وتسأله عن هويته وظروف مغادرته. تسأل السوريين حالياً عما تعرّضوا له في بلدانهم وما إذا كانوا شاهدوا جرائم وعملياتغسان شربل تعذيب. في الإقامة الموقتة يحصل اللاجئ على طعام مجاني ورعاية طبية و140 يورو شهرياً. ولدى حصوله على الإقامة يُعامَل وكأنه ألماني عاطل من العمل. تأمين صحي وبدل لاستئجار بيت وفق مواصفات معينة. ومصروف شهري قدره 360 يورو لمن هو فوق الرابعة والعشرين ولا يقل المبلغ عن مئتين لكل طفل. تُعطى للاجئ فرصة تعلُّم اللغة الألمانية على نفقة الدولة، فضلاً عن بطاقة مخفوضة لاستخدام وسائل النقل.

تعاملت الحكومة والأحزاب السياسية ووسائل الإعلام برحابة مع اللاجئين الواصلين. تنادى أطباء من برلين لمساعدتهم واستجاب لندائهم ألف طبيب بينهم عدد من أصل عربي. نجحت مركل في إيجاد جو إيجابي حاصر المتخوّفين من تسلُّل إرهابيين بين اللاجئين أو من «موجة إسلامية» ستُغيّر مع الوقت وجه ألمانيا بفعل عمليات لمّ الشمل. واضح ان مركل اتخذت قراراً تاريخياً وكبيراً هو أن تكون ألمانيا في السنوات المقبلة «مُتعددة ومُلوَّنة».

تكسر روايات اللاجئين السوريين قلب الصحافي السائل. اشترط بعضهم إخفاء اسمه أو صورته حرصاً على سلامة عائلته التي لا تزال عالقة في ما كانوا يسمّونه وطنهم. فضّلتُ نقل الحوارات كما جرت ببساطتها وألمها وأحياناً غضبها. وهنا نص الحلقة الأولى:

> ما هو اسمك؟

– اسمي (…) من مدينة قورية في دير الزور. قورية كانت من أوائل الذين انتفضوا ضد النظام الظالم.

> متى خرجتَ من سورية؟

– من حوالى الشهر.

> ممن تتألف عائلتك؟

– نحن 11 ابناً وإبنة ووالداي. خرجتُ أنا بمفردي. انا عصبي قليلاً ولا أستطيع ضبط لساني. ولأننا نعيش تحت سيطرة «داعش» حيث يمكن لزلّة لسان ان تتسبب بإعدامك، خرجت.

> كم لديك من العمر؟

– 25 عاماً.

> كيف تصف العيش في ظل «داعش»؟

– ظلم وقسوة إلى أبعد الحدود. قسوة لا يمكن للمرء أن يتصورها.

> ما هي طائفتك؟

– أنا مسلم والحمدلله. مسلم سنّي. مؤمن. لكن التشدُّد الرهيب لدى «داعش» يدفعك إلى الخروج عن طورك.

> أعطني مثالاً؟

– إذا مشيت في الشارع واكتشفوا أنك حدّدت ذقنك تتعرض للعقاب. البنطلون يجب أن يكون مرتفعاً. الفتاة لا يمكن أن تخرج إلا إذا كانت كتلة من السواد.

> متى جاء تنظيم «داعش» إلى قورية؟

– قبل سنة وثلاثة أشهر.

> الناس تكره «داعش»؟

– تتقبّل وجوده خوفاً منه. انتقامهم رهيب ممن يشكّون في ولائه.

> هل قتلوا أحداً في قورية؟

– نعم قتلوا. قورية حوصرت وأُجريت مفاوضات. قالوا إنهم يضمنون سلامة العائلات في مقابل تسليم السلاح. وهذا ما حصل. لكن أعمال القتل بدأت لاحقاً.

> من كان في قورية قبل ذلك؟

– «جيش القعقاع» وهو جزء من الجيش الحر. تأسّس في دير الزور.

> هل تعتبر العيش مستحيلاً في ظل «داعش»؟

– نعم بنسبة تسعين في المئة. يُرغمون الناس على العيش وفق أسلوبهم. يجب أن تكتم صوتك وأن تبتلع لسانك كي لا ترتكب أي هفوة. أي خطأ يعتبرونه كُفراً ومسّاً بالذات الإلهية وهذا عقوبته الإعدام.

> أعدموا أناساً في قورية؟

– يعاقبون الزنى بالرجم. أما المتهم باللواط فيُلقى من سطح إحدى البنايات. من يُتّهم بالكفر يُقطع رأسه بالسكين.

> هل هناك من السكان من يتعاطف مع «داعش»؟

– نسبة قليلة. السوريون ليسوا معتادين على مثل هذا التشدُّد. «داعش» مهتم بتجنيد من تُراوح أعمارهم بين 12 و18 سنة. يغسلون أدمغتهم. يعتبرون أن من هم أكبر من ذلك سيتنكّرون لـ «الدولة الإسلامية» إذا أُصيبت بضعف. يُخضعون الطفل لدورة فلا يبقى لديه إلا جملة وحيدة يفكر فيها وهي: «إريد الذهاب إلى الجنة». هناك أكثر من ألفي شاب من قورية والقرى المجاورة سجّلوا أنفسهم للقيام بعمليات انتحارية.

> ومن يدير «قورية»؟

– عيّنوا أميراً اسمه «أبو عائشة» وهناك الشرطة الإسلامية، وجهاز الأمن. وجهاز الحسبة الذي يهتم بالشريعة الإسلامية.

> والمدارس؟

– فوضى عارمة، وأجروا دورات للمعلمين ووضعوا منهاجاً جديداً. يدرّسون مثلاً تاريخ الإسلام. يدرّسون الرياضيات واللغة العربية. الأهم هو المنهج الإسلامي.

> هل شاهدت عملية إعدام؟

– شاهدت ثلاثة إعدامات. إذا كنت في السوق وتقرّرَ إعدام شخص يُرغمونك على الحضور لأنهم يحيطون بالمنطقة. واحد من عشيرة الشعيطات. يقرأون بياناً شرعياً يقول إن سبب القصاص هو قيام المتهم بمحاربة «الدولة الإسلامية» يتقدم واحد بسكين ويفصل رأس المتهم عن جسده.

> بماذا شعرت؟

– المشهد رهيب. وعليك ان تضبط مشاعرك. أي احتجاج يعني أنك تختار المصير نفسه. حضرت إعدام شخص آخر من قرية الصبيخان والثالث من الرقة. قالوا إن الأول سبّ الذات الإلهية والثاني حارب «داعش».

> تبدو أعصابك قوية؟

– نحن رأينا الأهوال من النظام ومن «داعش». ذات يوم قصف النظام سوقاً شعبية. كانت الأجساد مقطّعة وأشلاء الأطفال متناثرة. أشلاء النساء. مشاهد تثير الغضب إلى حد الجنون.

لا أريدك أن تستنتج ان «داعش» هو مشكلتنا الأولى أو الوحيدة. النظام ساهم في ولادة «داعش» ومعه دول في المنطقة. التدخُّل المذهبي إلى جانب النظام ساهم هو الآخر. أراد النظام ان يجعل من «داعش» البديل الوحيد له ليجبر العالم على التعايش معه.

وكي أكون واضحاً. ما يجري في سجون النظام أقسى من ممارسات «داعش». عشرات الآلاف قُتِلوا في أقبية الأمن. من كُتب لهم الخروج يمكن أن يحكوا لك عن الجثث وبقع الدم والصراخ. رفْضُنا لـ «داعش» لا يعني القبول بعودة النظام. نريد سورية لا تشبه الاثنين.

> قررتَ الخروج فماذا حصل؟

– كنا ستة قررنا الخروج. على بعد ستة كيلومترات أوقفنا حاجز لـ «داعش». لم نقل إننا ننوي التوجُّه إلى تركيا ومنها إلى أوروبا. قلنا إننا في الطريق إلى أعزاز لجلب أدوية وحاجات. أجابوا أنتم في الطريق إلى تركيا وأوروبا. حكوا لنا عن تفاصيل في حياتنا الشخصية، استغربنا. قال لي أحدهم أنت فلان ابن فلان وهذا عمل والدك. قال لي: «اذهب حيث شئت، لكن خذ في الاعتبار انك حين تخرج تُعتبر مرتداً وقصك (قطع عنقك) حلال. نحن نفضّل أن تذهبوا لنأخذ بيوتكم ومناطقكم».

> وبعدها؟

– أوقفتنا حواجز أخرى. سألنا العناصر لماذا لا نجاهد معهم. لاحقاً أوقفنا حاجز لـ «الجبهة الإسلامية». فتّشونا. شاب عمره 12 سنة قال لي أستطيع أن أرشك من فوق لتحت. حقق معي إن كنت من «داعش». شعرت في تلك اللحظة أن سورية لم تعد لنا.

> ماذا كنت تعمل قبل مغادرتك، ألم تكن أساساً في شبيبة البعث؟

– لا، أنا كنت طالب جامعة ولا أتعاطى العمل الحزبي أو السياسي. كنت أدرس في جامعة الفرات، قسم العلوم، فرع الرياضيات.

> هل شاركتَ في الاحتجاجات عندما بدأت؟

– نعم. كانت الصحوة السورية نظيفة وبلا نفاق. حلمنا بأن تنتقل سورية من الديكتاتورية الى نظام عادل.

> لنرجع إلى أعزاز؟

– نعم. عثرنا على مهرّب قال إنه يعرف مهرّباً تركياً وسيتولى إرشادنا هناك. كان الوضع متوتراً على الحدود بسبب الصدامات بين الجيش التركي والأكراد ورأينا الموت بعيوننا. استغرقت الرحلة يوماً. كنا في أول آب (أغسطس). دفعنا للمهّرب الأول 30 دولاراً على أن ندفع شيئاً مشابهاً للمهرّب التركي. ابتزّنا المهرّبون على الطريق فدفعنا أضعاف هذا المبلغ. رحنا نحاول الدخول ونتراجع ثم نحاول مجدداً. في النهاية عبرنا الأسلاك الشائكة فتمزقت ثيابنا. ذهبت الى كيليس ومنها ألى ازمير نحو تسع ساعات.

> ومتى صعدت الى القارب؟

– قالوا إن لا رحلة من أزمير فذهبت إلى بودروم. اتفقنا مع مهرّب وسيط مع البنغاليين. قالوا لا رحلة. شكّلنا مجموعة من سبعة أشخاص وذهبنا الى الهنود والبنغاليين وأصرّينا على المغادرة على رغم ان البحر سيّء.

حدد لنا أحد المهرّبين نقطة. سرنا إليها عبر الجبال. اشترى زورقاً مطاطياً. كنا سبعة شبان استأجرنا القارب بـ 6500 دولار. كان البحر سيئاً جداً.

> ألم تخف؟

– لا، كان البقاء في سورية يعني الموت. هنا على الأقل نحاول. اشتدّ الموج. بدأت الصلوات والأدعية. اقتربت منا بارجة حربية إيطالية وراحت ترسل إشارات ضوئية. لم نردّ. صرنا على مسافة كيلومترين من الشواطئ اليونانية. سمعنا سورياً يصرخ من البارجة الإيطالية ويقول إنها تنوي مساعدتنا. كان هو الآخر جاء في قارب وصعد إلى البارجة. رموا لنا حبلاً. صعدنا الى البارجة. عاملونا باهتمام واحترام. أعطونا أغطية، ثم نزلنا في اليونان في جزيرة اسمها كوس حيث واجهنا أسوأ معاملة. طبعاً البارجة جمعت قبل الوصول ركاب نحو 40 قارباً مطاطياً. توجّهنا إلى فندق ونزلنا في غرفتين ودفع كل واحد 30 يورو. الطعام كان غالياً.

في اليوم التالي سجّلنا أنفسنا، وقالوا هناك دور لا بد من انتظاره. أعطوا الأولوية لحَمَلَة الباسبورات. نحن كان لدينا هويات فقط. كذلك أعطوا الأولوية للعوائل. نريد ورقة تجوّل للتوجُّه إلى أثينا. كانت الشرطة سيئة تضرب وتصرخ وتسيء المعاملة. كنا ننتظر من الصباح حتى آخر الليل. استخدموا قنابل مسيلة للدموع. تجمّعنا في الميناء للصعود الى البارجة. سائق تاكسي دخل في صفوف المنتظرين وصدم شخصاً وكسر رجله. تجمّعنا حوله فأخذه الشرطي الذي سرعان ما قال عنا: أنتم شعوب همجية. هو هاجمكم كي لا تجلسوا في الساحة.

صعدنا إلى الباخرة وأمضينا فيها نحو 38 ساعة لأنها مرَّت على كل الجزر. مدة الرحلة اصلاً 12 ساعة. في كوس تأذّينا من العراقيين. كانوا يدّعون أنهم سوريون ويستولون على أدوارنا. بسببهم بقيت عشرة أيام في كوس.

> وبعد أثينا؟

– من أثينا إلى الحدود المقدونية. مشينا نحو ثلاثة كيلومترات. أمضينا نحو 36 ساعة ثم غادرنا الى مقدونيا ومنها إلى حدود صربيا. أدخلونا إلى صربيا وكانت التسهيلات ممتازة. ذهبنا الى بلغراد ومنها إلى حدود هنغاريا فوجدنا نحو أربعة آلاف شخص دخلوا الحدود. أنا خشيت من مرافقتهم، سلكتُ طريق الأحراج وحقول الذرة ومعي عائلة. وصلنا الى محطة وقود وعثرنا على مهرّبِيْن من سائقي التاكسي. حاولوا الاعتداء علينا. نكزت أحدهم بسكين كنتُ اشتريتُه من صربيا ليكون معي في رحلة الأحراج. من حسن الحظ هربا. تابعنا الطريق والتقينا ثلاثة من المهرّبين الهنغاريين لديهم تاكسيات واتفقنا معهم على أساس ان يدفع كل واحد 25 يورو. أنا كان معي ابن أختي.

أوصلنا سائق التاكسي إلى محطة القطار في بودابست. أحياناً كان التاكسي يتوقف بعيداً من المحطة لكي يضطر اللاجئ إلى أخذ تاكسي آخر.

في بودابست قالوا لنا ان التذاكر مجانية. غادرنا على ان نتوقف في فيينا لكن القطار تابع إلى ميونيخ ومنها إلى برلين.

> كيف عوملتم؟

– معاملة ممتازة. أعطونا ثياباً. وصلنا قبل أسبوع. ضاعت مني الأيام لأنها تداخلت ببعضها. أعتقد أننا وصلنا في التاسع من الشهر الحالي.

> هل يمكن أن تعود إلى سورية؟

– نعم أرجع. المهم ان تزول «داعش». أحتمل الحرب مع النظام.

> هل ترجع إذا سيطر النظام على قريتك؟

– مستحيل. النظام لن يدخل قريتنا إلاّ على جثث أهاليها. جرائم «داعش» لا تنسينا جرائم النظام. كان السوريون يتحدثون عن مذبحة حماة. العهد الحالي في سورية ارتكب 20 حماة على امتداد الخريطة السورية. سورية بأسرها صارت حماة. حتى مناطق النظام هناك عصابات وتشليح واضطهاد للسنّة.

> هل تعتقد أنك مضطهد لأنك معارض أم لأنك سنّي؟

– للسببين معاً. الميليشيات التي تُقاتل الى جانب النظام كلها شيعية. حوّل النظام المواجهة مع المعارضة إلى قتال طائفي ومذهبي. تماماً كما فعلوا في لبنان لتبرير دخول الجيش السوري إليه.

مؤسف ما يفعله بعض اللبنانيين في سورية حالياً. أنا كنت في الضاحية الجنوبية لبيروت في حرب 2006. كانت معاملتهم ممتازة وساعدونا في الخروج. لم أفهم أبداً لماذا يأتي حزب يرفع شعار المقاومة لقتل شعب يتمرّد على نظام ظالم. كنت أحب «حزب الله» حين كان يرفع شعاراً وطنياً وعربياً. ممارساته اليوم في سورية مذهبية. صرت أكرههم. أعتقد ان السوريين لن ينسوا ما يفعله «حزب الله».

أنا عربي ولا أطيق استعلاء الإيرانيين. أعتقد أنهم يكرهون السنّة لأنهم سنّة. فتح النظام الباب لاستباحة سورية وخسر قراره.

> لكن مقاتلين أجانب يقاتلون مع المعارضة أيضاً؟

– نحن لم نطلبهم. دخلوا لأن الحدود سائبة.

> أين عائلتك؟

– في سورية. الذل الذي تعرّضت له في الطريق يدفعني إلى التفكير بإبقائهم في سورية حتى ولو واجهوا الموت.

 

الضابط المنشق

> هل يمكن ان نتعرّف عليك؟

– أعتذر. أنا قصتي صعبة.

> ماذا تقصد؟

– لا أريد إظهار اسمي ولا صورتي.

> أنت في ألمانيا وتخاف إلى هذه الدرجة؟

– لا أخاف على نفسي لكنني لا أريد أن يدفع أحد الثمن بسبب ما أقوله.

> ضاعفتَ حشريتي فلماذا هذا الصمت؟

– أنا ضابط منشق.

> ماذا كانت رتبتك؟

– ملازم أول في المخابرات الجوية.

> ما هي قصتك؟

– في الشهر الرابع عام 2012 حاولتُ الانشقاق لكنهم أمسكوني على بعد مئات الأمتار فقط من المركز. طبعاً لم أقل ان غرضي الانشقاق لكنهم اشتبهوا بي بسبب مغادرتي من دون إبلاغ أحد. حصل ذلك في حلب. اعتقلوني ورموني في السجن وكان التعذيب رهيباً.

> كيف كان التعذيب؟

– جرّبوا فيّ كل أنواع التعذيب. سيخ النار، الشبح، الدولاب، بساط الريح. الكهرباء.

> من عذّبك؟

– زملائي وبعض من كانوا مرؤوسين لدي.

> كيف بقيتَ حياً؟

– أبلغوني أن حُكماً ميدانياً بالإعدام صدر في حقي وسيُنفّذ الاثنين المقبل. تحدثتُ سراً إلى ضابط أمن في المخابرات الجوية. أنا لم أقتل ولم أسرق. قال الضابط انه مستعد لتغيير الحُكم الصادر ضدي إذا قام والدي بتحويل مبلغ خمسة ملايين ليرة سورية باسم شخص يقيم في طرطوس. أعطاني اسم الشخص وحوّل والدي له المبلغ. طلب الضابط ما يُشبه إعادة المحاكمة واعتُبرتُ بريئاً بعد أربعة أشهر وعشرة أيام من التعذيب. المبلغ يوازي في حينه مئة ألف دولار.

> متى دخلتَ الجيش؟

– في 2009.

> وكم بلغ عمرك الآن؟

– 28 سنة.

> من أين أنت؟

– من دمشق نفسها.

> لماذا قررت الانشقاق؟

– من هول ما رأيت في أقبية التعذيب. أستطيع أن أحكي لك مجلّدات عن هذا الموضوع. شيء تقشعرّ له الأبدان. شيء مخيف ومُرعب ومقزز. تصوّر أنهم حين يأخذونك من غرفة السجن إلى غرفة التعذيب تضطر الى الدوس على جثث أناس ماتوا قبل وقت قصير. يكفي أن تشاهد بقع الدم المتجمّدة والجثث الممدّدة أو تسمع صراخ من تكسّرت أضلاعهم أو أطرافهم وغطى الدم وجوههم. في سجن حلب كان معدّل الوفيات اليومي يراوح بين عشرة قتلى وثلاثين قتيلاً. هذا في 2012.

> من هم الذين كانوا يخضعون للتعذيب؟

– شبان يعتقلونهم في التظاهرات. معارضون، متهمون بسبب وشايات. إننا نتحدث عن 2012. هذه ليست ذروة التعذيب ولا ذروة عمليات القتل. الأمور استفحلت بعد ذلك. حلب نفسها لم تكن مثل وضعها اللاحق. كانت الثورة ضعيفة في تلك السنة.

> حصلت على البراءة. لماذا عدت الى الانشقاق؟

– لأنني جرّبتُ شخصياً ما يتعرض له الناس من ظلم وقتل. أنا ضابط وأعرف أن الأجهزة تعاقب وربما بقسوة. العقاب يجب أن ينزل بمن ارتكب جُرماً وليس لأن الشخص معارض أو يريد الحرية.

اغتنمتُ أول فرصة وانشققت. ساعدني شبان من المعارضة فانتقلت الى الغوطة والتحقتُ بـ «الجيش الحر» نحو ثمانية أشهر كانت لي خلالها مشاركة محدودة في القتال. أُصبت وخرجت الى الأردن بغرض العلاج.

> أثناء وجودك في حلب هل لاحظت وجود أجانب إلى جانب قوات النظام؟

– كان هناك بعض الخبراء الإيرانيين. كي أكون صادقاً أنا لم أشاهد عناصر من «حزب الله» في تلك المرحلة. كان هناك ايضاً خبراء روس في مطار كويرس.

> هل تفكر في الرجوع إلى سورية؟

– لا، سورية التي أحبها انتهت. تمزّقت. حين يتوقف إطلاق النار سيكتشف العالم أن عدد القتلى أكثر من ثلاثمئة ألف. سورية دُمّرت. نسيجها تمزق. وقبل كل ذلك فَقَدَت قرارها. لم تعد الكلمة للسوري على أرض سورية. أنا لا أريد العيش على أرض سورية قرارها بيد الإيراني أو «حزب الله» أو تركيا أو غيرها. تقديري الشخصي أن سورية ستكون مستقبلاً تحت وصاية دولة كبرى. خسر السوريون أبناءهم وخسروا قرارهم وسيادتهم.

> من يتولى التعذيب؟

– عسكريون ومن طوائف مختلفة وشبيحة. تصوّر بعض الأجساد كانت تبدو زرقاء وسوداء من شدة التعذيب. أنا انشققت بسبب ما شاهدته.

> هل رأيت أناساً يلفظون أنفاسهم امامك؟

– بالتأكيد. لهذا حين انشققت في المرة الثانية تعمّدت فتح باب السجن ما أدى إلى خروج 80 معتقلاً.

> كيف وصلتَ الى هنا؟

– دفعتُ كل ما لديّ في عملية الوصول. أنا الآن لا أملك قرشاً. أجول هنا في القطارات من دون أن أدفع.

> أين تقيم الآن؟

– في مركز للاجئين.

> كيف تصف المعاملة؟

– جيدة عموماً، هناك أحياناً لؤم من بعض الأفراد، أوروبا ليست جنّة كما يتوهم الناس.

> كيف وصلتَ إلى ألمانيا؟

– غادرتُ الأردن الى تركيا ومنها الى اليونان في قارب مطاطي. دفعت 1200 يورو. من اليونان إلى مقدونيا ثم صربيا فهنغاريا وانتهت الرحلة في ألمانيا كما ترى.

> ماذا ستفعل الآن؟

– سأحاول البدء من جديد. العيش بعيداً من الحرب والجثث. لا بد من وقت لالتقاط الأنفاس. ذيول ما يحدث في سورية ستكون كبيرة وخطيرة.

> بماذا تشعر الآن؟

– بماذا تريدني أن أشعر. كان السوري يعيش في بلده، وها هو يقف ذليلاً عند حدود هذه الدولة أو تلك، يستجدي المهرّب ويستعطف الشرطي وينتظر الوجبات والبطانيات. عائلات كثيرة قُتِل بعض أفرادها. وعائلات تدفع شبانها الى الهجرة خوفاً عليهم من وحشية النظام أو وحشية «داعش». لا أعتقد أن شعباً تعذّب كما يتعذّب السوريون. هذه الأحقاد لن تنتهي سريعاً. أنظر، يعيش الإسرائيليون في أمن وأمان وسورية خسرت كل شيء.

(الحياة)

السابق
هكذا أحرج «أحمد كرامي» «هدى شديد» على الهواء مباشرة
التالي
معاً دفاعاً عن الأسد!؟