حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: سرقة المعاني

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته الإلكترونية.

في حوار ثقافي فلسفي، تحاور اصدقائي حول دور العقل والقلب، واختلفوا حول مصدر الكتابة الابداعية او الابداع الفكري، في مجال الادب والرواية والشعر، واختصموا فيما بينهم حول هايدغر ونيتشه، كانت الفلسفة تنبري لكي تبين ان غائية البشر ليس الوجود لذاته، بل اختيار واختبار معنى الوجود.

فالقلق الوجودي في فلسفة هايدغر، مؤشر واضح على أن الحياة لا معنى لها، خاصة اذا اقتصرت على الوجود الزائف والخضوع للآخر والخارج، لأن الإنسان صاحب الحضور المركزي في هذا العالَم، هو الذي يُعطي الحياةَ معناها، ويَمنح الشرعية والمعقولية للوجود، وبالتالي، فالإنسان يصنع نفْسه بنفْسه ويصنع عالَمه المحيط به، ولا يمكن للإنسان أن يجد نفْسَه إلا إذا كان حراً… غير تابع والا كان وجوده زائفًا..

الروبوطية ادت الى زوال مهن كثيرة وجدت منذ مئات السنين وتنادر اختصاصات مهنية مختلفة كالمحاماة واعمال الديكور والرسم الهندسي والمحاسبة والسكريتارية وتحرير الرسائل

اما نيتشه فقد أراد بشكلٍ ما، أن يُدخِل الشعر أو يضمّنه أعمالَه الفلسفية، وأن يجعل من كتابه “زرادشت” قصيدة مطوّلة. لذلك استعمل نيتشه، في كثير من المرات، في كتاباته عبارة “الشعراء والفلاسفة” في سياق واحد، كما قام باستبعاد كليهما في سياق آخر. لقد كتب في ديوانه “ديثيرامبيات ديونيسوس”: “الفيلسوف مجرّد شاعر”، وفي موضع آخر،”الشاعر مجرّد مهرّج”. لهذا، هل يمكن تصوّر وجود شعر فلسفي خالص أو فلسفة شعرية خالصة؟

والجواب في ثنايا قصائد نيتشه، هو: “حاوِل إذن أن “تأخذني”، أن تفسِّرني مرّةً وإلى الأبد!”.بين الفيلسوف والشاعر والمهرج، مضى نيتشه الى عالم الجنون… او كأنه انتابه قلق هايدكر من العدم! فاستسلم له!

لماذا العودة الى الفلسفة والشعر ومعنى الوجود، في غمرة سيادة ” الذكاء الصناعي”، الذي يفتح افاقا لا حدود لها لتطور الانسان ونمط عيشه، ويقلب الكون والمعمورة بكل ثوابتها وعاداتها وتقاليدها واخلاقها وقيمها؟!لأن الذكاء الاصطناعي هو ذلك الآخر، الذي قلق من محاكاته هايدكر، ولأن هذا الآخر الجديد، المبتكرة طبيعته، بين الانسان وكينونة المعلومة المعرفية،  لا يكتفي بصناعة نفسه بنفسه، كما كل انسان حر، بل يساهم في خدمة الانسان الحر وفي بناء معاني وجوده، وتوسيع افاق هذا الوجود، الى مجالات لم تكن متاحة، وخلال وقت ضئيل وبايقاع سريع…

من الصعب تعداد واحصاء التغييرات والانقلابات التي سيحدثها الذكاء الاصطناعي في انماط عيش البشر و مدى التجديد في بيئة اعمالهم ووظائفهم ومهنهم

من الصعب تعداد واحصاء التغييرات والانقلابات، التي سيحدثها الذكاء الاصطناعي في انماط عيش البشر، و مدى التجديد في بيئة اعمالهم ووظائفهم ومهنهم، واشكال التغيير في انظمة التعليم وطرق اكتساب المعرفة، و الوسائل الجديدة لتحديث خطوط الانتاج الصناعي، وذلك من اجل رفع جودة منتوجاتها، وزيادة انتاجيتها، وتخفيض كلفتها وزيادة ربحيتها، ورغم ان “الاتمتة” واستعمال الروبوتات، التي حدثت على مدى اربعة عقود ماضية، قد اسهمت بتهميش فئات عمالية واسعة، وفرضت اعادة تأهيلها وتدريبها على مهارات جديدة، او الوقوع في لجة البطالة والفقر، كما اعادت توزيع مراكز الانتاج الصناعي العالمي، الى دول خارج دول الغرب الصناعية، فان الطور الجديد من نمط الانتاج، الذي سيجمع على السواء الاتمتة بالروبوطية، سيحدث انقلابا عاما يطال كل شيء وكل انسان في كل مكان من الكوكب.

اول احداث هذا الطور من التقدم، هو زوال مهن كثيرة وجدت منذ مئات السنين، واختفاء او تنادر اختصاصات مهنية مختلفة ؛ كالمحاماة واعمال الديكور، والرسم الهندسي، والمحاسبة، والسكريتارية، وتحرير الرسائل، والمراسلات والاعمال الادارية ومصادقاتها، وسجلاتها واعمال الارشفة والمحفوظات. الخ..

إقرأ ايضاً: حارث سليمان يكتب ل«جنوبية»: الحقائق العنيدة من بحر صيدا الى رائدة الفضاء السعودية

لكن الاهم والاخطر والاوسع تأثيرا، سيكون بالاستغناء عن اعداد هائلة من العمال والموظفين والاجراء، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فان البطالة ستطال العاملين في خطوط الانتاج الصناعي، وفي قطاعات النقل وسيارات الاجرة وقيادة الطيران والبواخر، وفي خياطة الملابس والمنسوجات ومعامل توضيب الاغذية واللحوم والاسماك، وعمال المناجم واعمال المنازل وصيانتها بكل اشكالها، والبستنة والزراعة وتجارة التجزئة، واعمال البناء وانتاج الطاقة والري وتوزيع المياه الخ…؛ واذا كان لا بد لبعض البشر ان يتعاطوا بتسيير هذه الاعمال، فان نسبتهم مقابل من سيفقدون فرص عملهم ووظائفهم، قد تصل الى واحد يعمل مقابل ٥٠ شخصا لاعمل لهم، ولا ضرورة لاستخدامهم.

الاهم والاخطر والاوسع تأثيرا سيكون بالاستغناء عن اعداد هائلة من العمال والموظفين والاجراء وعلى سبيل المثال لا الحصر فان البطالة ستطال العاملين في خطوط الانتاج الصناعي

 حتى الجيوش العسكرية واجهزة حفظ الامن، وقطاعات الاطفاء والاسعاف والدفاع المدني، سيجري تخفيض عديدها، وسيصبح العنصر البشري في الحروب او الكوارث او الحرائق او اعمال الاغاثة، قليل الحضور يقتصر دوره على تدخل عند الحاجة او فقط للمراقبة…لطالما شكلت القوة الديموغرافية ونسبة الولادات المرتفعة، علامة قوة للدول والامم، الامم الكبرى والشعوب الفتية، كانت قادرة دوما على التوسع وخوض الحروب وجني المكاسب منها، على العمل وزيادة الانتاج وتحقيق الارباح من تصديرها والتجارة بها، على خلق سوق استهلاك داخلي، يوطن صناعاتها ويحميها من المنافسة الاجنبية، الديموغرافية في عالم الامس كانت ميزة الاقوياء، فهل تبقى مع الذكاء الصناعي دليل قوة، ام تتحول عبئا لا تقوى امم ومجتمعات كثيرة على مداراته والتصرف حياله؟!

الاهم والاخطر والاوسع تأثيرا سيكون بالاستغناء عن اعداد هائلة من العمال والموظفين والاجراء

الذكاء الاصطناعي يذهب ببطء بالبشرية، الى اصطفاء النوع والحفاظ عليه، وتهميش الكم والتخلص منه… المهرة والنخب والرياديون في عالم الابتكار والإختراع والمبدعين والاذكياء، والمتكيفون مع كل جديد قادم يبقون ويستمرون، اما العامة من البشر الذين لا يجيدون سوى بيع جهود سواعدهم او تكرار مهارات او مهن الماضي، فيبقون على رصيف التاريخ والزمن، فاي عالم ينتظرنا؟

لا يجيد الذكاء الاصطناعي حبكة الشعر ولا كتابة القصائد، و لا التماس مع العواطف والامزجة ومحاكاتها،  ولا يتقن البحث في اشكاليات الفلسفة ومعنى الوجود، لذلك  سيبقى متاحا للشعراء والفلاسفة ان يستمروا في عالم غد قادم، يتسع رحبا لاسئلة فلسفية تتجدد، ولصور شعرية تلامس  الوجدان والانفس والعواطف، ولمناجاة اخيلة تداري سرقة المعاني.

السابق
المطران الحاج يفضح «مجنون ليلى»!
التالي
مقدمات نشرات الأخبار المسائية ليوم السبت 10 حزيران 2023