حارث سليمان يكتب ل«جنوبية»: الحقائق العنيدة من بحر صيدا الى رائدة الفضاء السعودية

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته الإلكترونية.

تأبى الحقائقُ الا ان تكونَ عنيدة، وتتكشفُ أحيانا صادمة وصريحة، فيما تتلاقى الأحداثُ وتتقاطعُ الوقائع، في حيِّز مكاني وزماني متصل ومشترك، لتتناقض وتتقابل في مشهد واحد، ولتُظهِرَ مفارقةً فاضحةً ومعنى مفتوح على التضاد  والتنازع.

وعلى الرغم من إدراكنا ان الحقيقة نسبية وغير منجزة، لانها دائما في طور التشكل والاستكمال، نتيجة الزمن والتجربة والاختبار،  إلا ان ذلك لا ينالُ من  مصداقية ما أُنجِزَ منها، وبالتالي من صراحتها وعنادها.

 وقد شهد الاسبوع الماضي تقابل وتقاطع حدثين شغلا الفضاء العام، والهبا كتابات الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، والحدثان متصلان بنون النسوة وحرياتهن، كما يتعلقان بسلم قيم المجتمع وسلوكيات الأفراد فيه، إضافة لدور الدولة وسيادة قانونها في المجال العام، وكفاءة وفعالية أجهزتها وإداراتها للقيام بواجباتها.

الحدث الأول كان في صيدا حيث جرى ترهيب واضطهاد امرأة تلبس لباس البحر وتستمتع برفقة زوجها بشمس شاطئ صيدا ومياه بحرها

الحدث الأول كان في صيدا، حيث جرى ترهيب واضطهاد امرأة تلبس لباس البحر وتستمتع برفقة زوجها، بشمس شاطئ صيدا ومياه بحرها، من قبل مجموعة من رجال دين وبعض أتباعهم من الدهماء، يطلقون على أنفسهم اسم ” تجمع العلماء المسلمين”.

محاولات المشايخ لمنع المايوه على شط صيدا، ليست خلافا مسلما مسيحيا، فالنساء المسيحيات عمليا لن يذهبن ليسبحن في بحر صيدا على الارجح… 

محاولات المشايخ لمنع المايوه على شط صيدا، ليست خلافا مسلما مسيحيا، فالنساء المسيحيات عمليا لن يذهبن ليسبحن في بحر صيدا على الارجح…

قمع ارتداء المايوه موجه ضد النساء المسلمات السافرات؛ ولذلك مشكلة المايوه هي مشكلة بين المسلمين وغالبية مشايخهم، وليست بين المسلمين والمسيحيين، يحاول المشايخ السنة المرتبطين بالاسلام السياسي وتحديدا بحزب الله، تطبيق الشريعة الاسلامية، على المسلمات خلافا  لقانون الدولة اللبنانية، ويحسبون ان من حقهم وواجباتهم أن يتولوا بأنفسهم مهمة ضبط سلوك الناس وإلزامهم بالشريعة الإسلامية، التي لا تشكل لا جزءا ولا مرجعا للقانون اللبناني، و منتهكين على السواء، سيادة القانون اللبناني من جهة اولى، ومتجاوزين صلاحيات أجهزة الدولة الأمنية و القضائية، لانفاذ القانون وضبط سلوك المواطنين في الأماكن العامة.

قمع ارتداء المايوه موجه ضد النساء المسلمات السافرات ولذلك مشكلة المايوه هي مشكلة بين المسلمين وغالبية مشايخهم وليست بين المسلمين والمسيحيين

وهم بذلك يحاولون بناء وإرساء “نظام مطاوعة” كان واحدا منها، سائدا في المملكة العربية السعودية، تحت اسم ” هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، أما الآخر فهو جهاز “شرطة الأخلاق” الذي اعتمده  نظام الولي الفقيه في ايران،  وفي كلا الدولتين جرى التخلي عن  هاتين الهيئتين بشكل رسمي واصبحتا من الماضي، فيما تبقى من اثرهما وعند منتسبي المؤسسات الدينية ومرجعياتها واتباعها، تمسكاً وإصراراً، على الجانب العقائدي والثقافي، لأفعال المطاوعة، و ميلا قويا لاستمرار رجال الدين في ضبط سلوك الناس، والتحكم بنمط لباسهم ومأكلهم وشرابهم ورياضاتهم، ومناحي نشاطاتهم الترفيهية او السياحية او الفنية، اضافة لمعاملات زواجهم وطلاقهم وارث عائلاتهم، وطقوس عباداتهم الخ…

وهم بذلك يحاولون بناء وإرساء “نظام مطاوعة” كان واحدا منها سائدا في المملكة العربية السعودية تحت اسم ” هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”

أما الحدث الثاني فهو مشاركة رائدي فضاء سعوديين، امرأة ورجل في بعثة ابحاث علمية الى المحطة الفضائية الدولية… من امرأة البحر التي ترتدي المايوه على شط صيدا، إلى امرأة الفضاء السعودية التي استقلت المركبة “فالكون”، لتصعد الى الفضاء وتجري أبحاثا علمية، حول الخلايا الجذعية والهندسة الوراثية في ظروف جاذبية منخفضة، تتبدى حقائق ومفارقات وأسئلة فاضحة صادمة!!.

من امرأة البحر التي ترتدي المايوه على شط صيدا إلى امرأة الفضاء السعودية التي استقلت المركبة “فالكون” لتصعد الى الفضاء وتجري أبحاثا علمية


من لبنان العصرنة والحداثة ودور الأزياء ومصمميها ذو الشهرة العالمية، و من فضاء الإبداع الثقافي في المسرح والرواية والشعر والرقص والغناء والموسيقى،  من وطن التمدن بالعمارة والادارة والتجارة والنقل والخدمات والإعلام، الذي ساد وطننا على مدى مائة سنة من عمر لبنان، و من واقع الحريات التي تكرست في الحياة العامة اللبنانية، ومن ضمنها وفي مقدمتها حرية المراة في كل المجالات الاجتماعية والثقافية والسياسية، وحقها المصان في الترشيح والاقتراع في الانتخابات العامة منذ خمسينات القرن الماضي.

من هذا اللبنان يخرج علينا تجمع للعلماء!! يستهدف خيارات النساء، فاي علماء وفي أي علم..

 فهل من الممكن ان نتعرف على أسماء هؤلاء العلماء؟! فإن كانوا من مشايخ اهل السنة! فهل يسترشدون بدار الفتوى؟ ومن اية جهة يقبضون رواتبهم؟ 

وما هي مصادر تمويلهم؟ وما هي اثمان سياراتهم؟ وملكية الشقق التي يسكنوها، وهل من الممكن ان نعرف عدد نساء كل واحد منهم؟  ومن آية حوزة علمية دينية معترف بها تخرجوا؟!  وما هو مستوى معارفهم الدينية او شهاداتهم؟وماهي الشروط الواجبة لإطلاق صفة علماء عليهم؟!  فالدين ليس علما، وعلم الكلام وعلم الرجال ليست علوما بل معارف انسانية، فاي العلوم درسوها واصبحوا مراجع بها؟

من هذا اللبنان يخرج علينا تجمع للعلماء!! يستهدف خيارات النساء، فاي علماء وفي أي علم..


 في الجهة المقابلة تخرج من المملكة العربية السعودية، بلاد الحرم المكي الشريف وموطن الرسول الأكرم، ومهبط  الوحي الإلهي والإسلام المحمدي، تخرج امرأة سعودية الى المحطة الفضائية فتسافر دون محرم يرافقها، وتختلط وتنام في مقصورات المحطة الفضائية خارج منزلها، برفقة ووجود ٧ رجال آخرين من جنسيات مختلفة، تجاورهم وتختلط بهم ليلا ونهارا في فريق عمل واحد، تمارس أبحاثها بشكل مشترك وتتابع حياتها ووظائف جسدها البيولوجية… لا ترتدي حجابها ولا تتعامل مع صوتها أوجسدها كعورة،  تسبح في فضاء أرحب من بحر صيدا، وترى الأرض واحدة وكروية، أوسع مدى من عتمة عقول مازالت تشكك بدورانها حول الشمس..

تخرج من المملكة العربية السعودية بلاد الحرم المكي الشريف وموطن الرسول الأكرم ومهبط الوحي الإلهي والإسلام المحمدي تخرج امرأة سعودية الى المحطة الفضائية فتسافر دون محرم يرافقها

ولعله من علائم مرضاة الله على خلقه، ان “تجمع هؤلاء العلماء” لا يجدون طريقا للفضاء!.. و الا لذهبوا إلى رائدة الفضاء يرهبونها كما أرهبوا مرتادة البحر..   
المفارقة متشعبة، فهي تبدا من التسميات والتعابير؛ فأعداء الشمس والبحر والمايوه علماء، ونساء الفضاء والبحث العلمي والخلايا الجذعية والهندسة الوراثية، فتنة ام عورة ام ناقصات عقول!!!

والمفارقة تستمر حين يتولى هؤلاء الأدعياء، ارشاد هذي النساء والتحكم بسلوكهن وخباراتهن!! 

والمفارقة تتضخم وتتفاقم حين تزعم المطاوعة، حيازتها تكليفا من الله تمارس به سطوتها على خلقه، والمفارقة تنحدر الى مستوى الفضيحة، حين يتوهم احدٌ انه قادر ان يفرض في لبنان تطبيق نظام قيود، لم يستمر ويتحقق تطبيقه لا في السعودية ولا في إيران.

يبقى ختاما ان الحقيقة التي يجب ان نعاند في ابرازها؛ ان قانون الدولة اللبنانية واجهزتها الامنية والقضائية، هي المرجع الصالح لممارسة كل لبناني لحقوقه وحرياته وواجباته، والدولة بقانونها الوضعي هي الحل، و هي حل وحدها، دون وصي عليها او شريك لها. 

السابق
«اللقاء العلماني» في مواجهة النظام الطائفي: تحدٍ جديد لتنظيم قوة ضاغطة فعالة في لبنان
التالي
من فرنجية الى أزعور.. فراغ رئاسي «مابعده فراغ»!