قرن من «الثنائيات المدمرة» من لبنان إلى السودان!

ياسين شبلي

ما يحدث هذه الأيام من قتال وحرب شرسة في السودان المنكوب، ما هو للأسف سوى نسخة مكرَّرة من تجارب عربية سابقة – بصورة أو بأخرى، إعتمدت الثنائية الشخصية في الحكم والسلطة على الأرض، بعيداً عن رأي الشعب بل بإسمه في بعض الأحيان، سواء عن “صداقة” شخصية، أو رفقة سلاح أو موازين قوى، داخل الجيوش ومؤسسات الحكم العربية.

وبرغم إختلاف التجارب والشخصيات – بغض النظر هنا عن تقييم كل شخصية منها – إلا أن النتائج للأسف كانت واحدة، وهي تدمير الأوطان والمجتمعات العربية بشكل أو بآخر، ما جعل من هذه الأمة العربية، التي كان يرمز إليها بأنها أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة ، لتصبح في غالبيتها أمة ممزقة مشتتة، حتى في نسيجها الإجتماعي وداخل كل دولة من دولها، وفاقدة للمبادرة، عاجزة عن المساهمة في تطور البشرية وصناعة المستقبل لها.

بدأت المأساة في مصر بثنائية ناصر – عامر، التي تلحفت رداء الصداقة والأخوة، والتي كان يجب أن يوضع لها حد بعد حرب 1956، التي شاب أداء الجيش المصري فيها بقيادة عبد الحكيم عامر – على صغر عمر الثورة – عيوب كثيرة، لكنها إستمرت تحت ضجيج “النصر” السياسي، الذي تحقق، ثم كانت الوحدة مع سوريا، التي شابها هي الأخرى مآسٍ كثيرة على مستوى الأداء، ما أضعف الشعور القومي لدى الكثير من السوريين، الذين تضرروا من سياسات عبد الحكيم عامر وجلاوزته، أمثال عبد الحميد السراج وغيره، ثم كانت حرب اليمن بمآسيها وما تركته من آثار مدمرة على الجيش المصري، حتى كانت الضربة القاضية للحكم الناصري ولفكرة العروبة نفسها، مع هزيمة 1967 التي أسموها “نكسة”، فكانت نكسة أين منها النكبة، بحيث لا يزال العالم العربي يعاني نتائجها حتى اليوم.

اليوم يعاني السودان آثار هذه الثنائية وقد تكون آخر الثنائيات لأن الحاكم العربي اليوم بات أكثر تمكناً وحنكة وأنانية ولم يعد يقبل أن يشاركه حكمه أحد

في سوريا كان هناك ثنائية صلاح جديد – حافظ الأسد التي أضاعت الجولان، فكانت كمثيلتها في مصر، وبالتالي أضاعت سوريا بأكملها، عبر نصف قرن من الحكم الديكتاتوري، الذي تخلله ثنائية عائلية أخرى تمثلت بحافظ – رفعت، كادت أن تشعل سوريا في ثمانينات القرن الماضي، قبل أن يحسمها حافظ لصالحه، وعلى حساب ثروات السوريين عبر “رشوة” شقيقه، للخروج من الحكم والبلد، ليستقر بعدها الأمر على ثنائية جديدة عبر بشار – ماهر، تخفي وراءها ثنائية روسية – إيرانية في حكم نظام قضى على أكثر من مليون سوري وملايين الجرحى والمعاقين واللاجئين، كما لم تسلم منه بلدان عربية عدة، من ضمنها لبنان كذلك القضية الفلسطينية وشعبها.

في العراق كان هناك ثنائية البكر – صدام، التي وإن كانت قد أحرزت بعض الإنجازات المهمة داخلياً وقومياً، إلا أنها في النهاية، وبعد أن حُسمت لصدام نتيجة عامل السن والتوازنات الحزبية، إنتهت بكارثة ضياع العراق وتسليمه ل “أوباش” الغزو الأميركي – الإيراني، الذين نهبوا ما تبقى من ثروات الشعب العراقي. وهنا لا بد أيضاً من الإشارة، على المستوى البعثي الخاص إلى ثنائية الأسد – صدام، وصراعهما الذي كلف الأمة العربية الكثير .

في اليمن الجنوبي، كان هناك ثنائية سالم ربيع علي وعبد الفتاح إسماعيل، التي إنتهت في المرة الأولى بتصفية سالم ربيع علي، ليحل محلها ثنائية علي ناصر محمد وعبد الفتاح إسماعيل نفسه، هذه الثنائية التي إنتهت بحرب “القبائل الماركسية” عام 1986، ثم بتصفية دولة اليمن الجنوبي، وقيام دولة الوحدة – وهذه كانت ميزة عن غير قصد .

إقرأ ايضاً: حزب الله «يُغري» باسيل لتأمين النصاب لفرنجية..ولبنان «دولة مارقة» سياسياً واقتصادياً؟

وإن ننسى لن ننسى، ثنائية أحمد بن بيلا وهواري بو مدين في الجزائر، التي كانت سبباً في تسليم هذا البلد العزيز، لحكم الجنرالات الذي لا ينتهي ولو من وراء ستار . حتى في السودان قبل ثنائية البرهان – حميدتي الحالية، كان هناك ثنائية البشير – الترابي، التي حسمها البشير لاحقاً لصالحه.

ثنائية أحمد بن بيلا وهواري بو مدين في الجزائر التي كانت سبباً في تسليم هذا البلد العزيز لحكم الجنرالات الذي لا ينتهي ولو من وراء ستار

في لبنان عانينا الكثير إبان الحرب الأهلية، وبعد إنهيار سلطة وهيبة الدولة، من ثنائيات في كل المناطق اللبنانية، من ثنائية بشير – طوني، إلى ثنائية بشير – داني، ثم ثنائية جعجع – حبيقة في المنطقة الشرقية المسيحية، من بيروت منتصف الثمانينات، إلى ثنائية أمل – حزب الله في ضاحية بيروت الجنوبية والجنوب اللبناني، إلى ثنائية جعجع – عون مجدداً بداية التسعينيات من القرن الماضي، إلى ثنائية منظمة التحرير – النظام السوري في المناطق الإسلامية، خصوصاً السنية في طرابلس وبيروت وغيرها، وصولاً إلى “ثنائية” اليوم على مستوى السلطة، التي تتلطى بثلاثية الجيش والشعب والمقاومة. كلها ثنائيات إنتهت بمجازر دفع ثمنها الوطن والناس ، حتى في حال الوئام بين الثنائيات اللبنانية يكون الثمن محاصصة وتقاسم على حساب المواطنين .

ثنائيات لبنان إنتهت بمجازر دفع ثمنها الوطن والناس حتى في حال الوئام بينها يكون الثمن محاصصة وتقاسم على حساب المواطنين

هذه الثنائيات التي إختزلت الأوطان والشعوب في مرحلة من أشد مراحل التاريخ العربي الحديث حساسية ، وهي مرحلة ما بعد الإستقلال وبداية تأسيس الدولة العربية الحديثة ، أصابت هذه الأوطان والشعوب في مقتل عبر صراعاتها وتنابذها بإسم التحرر من الإستعمار تارةً ، والعدالة الإجتماعية تارةً أخرى ، وقضية فلسطين دائماً وأبداً ، فكانت النتيجة أن صودرت الحريات وقُمعت معها روح المبادرة الفردية لدى الإنسان العربي ، الذي جعلت منه هذه الأنظمة وثنائياتها الحاكمة مجرد كائن يأكل ويشرب وينام ، لأنها سرقت منه الحلم وقتلت فيه روح التحدي والمغامرة ، حتى إذا ما إنتفض في وقت أراده ربيعاً عربياً يعلن أوان الورد في حياته في السنوات العشر الأخيرة ، تكالبت عليه قوى الشر مجتمعة فكانت ” الثورة المضادة ” التي جمعت في بعض الأحيان الأضداد ، من جنرالات وقادة وأمراء وملوك ورؤساء ليعيدوه إلى بيت الطاعة أو ” السجن العربي الكبير ” ، كما كان يقول الزعيم الوطني اللبناني الكبير كمال جنبلاط الذي كان أحد ضحايا هذا ” السيستم ” العربي الدموي المجرم ، عندما رفض وأعلنها مدوية أنه يرفض أن يدخل ولبنان إلى هذا السجن .

العقل السياسي والسلطوي العربي واحد بغض النظر عن مدارس الحكم المتعددة يشي بأن طريق الحرية للشعوب العربية لم يزل طويلاً وصعباً ومزروعاً بالأشواك

اليوم يعاني السودان آثار هذه الثنائية وقد تكون آخر الثنائيات ، لأن الحاكم العربي اليوم بات أكثر تمكناً وحنكة وأنانية ، ولم يعد يقبل أن يشاركه حكمه أحد ، وبعد أن شهدنا في السابق ثنائيات قيادية عسكرية وحزبية أيام المد القومي والثوري ، نرى اليوم ولادة قيادات شابة تعتمد الفردية في دول كانت ولا زالت تعتمد النظام الملكي المحافظ أو نظام البيعة ، وهي تأتي على أنقاض من سبقوها ولو كانوا من العائلة الحاكمة نفسها ، في دلالة على أن العقل السياسي والسلطوي العربي واحد بغض النظر عن مدارس الحكم المتعددة ، وهو ما يشي بأن طريق الحرية للشعوب العربية لم يزل طويلاً وصعباً ، ومحفوفاً بالمخاطر ومزروعاً بالأشواك.

وهي نقيض دروب الورد والزهر والياسمين التي يصبو ويسعى إليها أي كائن بشري سوي ، فهل نحن – أو بعضنا على الأقل – من يزرع ويسقي هذه الأشواك ؟ أم هو القدر العربي في عالم يسوده الصراع بأدوات نعجز عن إمتلاكها وبالتالي إستعمالها لنكون بيادق وأحجار شطرنج في لعبة أكبر منا ؟ أسئلة لم نحسن الإجابة عنها منذ حوالي قرن من الزمان، ضاعت فيه أوطان ودمرت أخرى ونُهبت ثالثة ، أفما لهذا الليل من آخر؟

السابق
«المفاجآت الربيعية» مستمرة..الأمطار تعود بعد الظهر!
التالي
خاص «جنوبية»: «صيرفة» في مهب الإلغاء بعد «عاصفة» البنك الدولي وتباينات «المركزي»!