وضاح شرارة: أكتب ببطء وأتساءل دائماً: «هل ورطتني الكتابة»؟

وضاح شرارة

صدرت للكاتب والصحافي والمترجم اللبناني وضاح شرارة روايته الأولى «أمس اليوم» عن «دار نوفل/ هاشيت أنطوان»، وهي «الرواية الثانية» بعد رواية أولى من خمسمائة صفحة لم تسلك طريقها إلى النشر. ويبدو أن مهمّة شرارة واحدة في النوعين، البحثي والأدبي: التنقيب. في روايته الجديدة، ينقب، من خلال بطله «نزار»، وهو لسان الراوي نفسه، في أسباب شقاء الإنسان، عائداً إلى الأصل، طارحاً أسئلة عن الذات والآخر والانتزاع والانسلاخ والمصير.

نسأله: رواية «أمس اليوم»، أكانت عملاً مؤجلاً بقناعة، أم أنه «طُحن» في دوامة التفرّغ للهمّ الاجتماعي والسياسي؟

يوافقنا على ذلك، عازياً التأخّر في النشر الأدبي للانشغال المهني أيضاً، الالتزام بالتدريس والمتابعة الثقافية والفكرية.

اقرأ أيضاً: زينب فواز: الأديبة والشاعرة العاملية المنسية

لكن هذه ليست كل الأسباب، فـ«ما نلاحظه من الخارج، ومن الداخل بشكل أقرب»، كما يقول، هو أنّ «العمل الروائي يتطلب وقتاً طويلاً. أنا من الذين يكتبون ببطء شديد. روايتي المؤلفة من 245 صفحة تطلبت نحو عامين ونصف العام من العمل اليومي لساعتين أو ثلاث. تنطلي الوتيرة، مع بعض التسارع، على عملي البحثي. لم تكن فكرة (أمس اليوم) في متناولي كموضوع روائي. حضور بعض عناصرها لا يعني وضوح شكل الكتابة».

أهي الرغبة بالاكتمال، «حتى تسقط الثمرة»، كما يقول؟ ينفي ذلك، فرغبته ليست «الاكتمال» بقدر ما هي حاجة إلى «ولادة عالم مكتوب، بأجوائه وناسه ولهجاته وحوادثه الصغيرة». إنه يختبر فعل الكتابة بفضول، وبين المزاح والجد يتساءل: «ماذا سيحدث الآن؟ على أي تفصيل سيقع انتباهي؟ أي سرد سيتكوّن؟».

كما ينفي وضاح شرارة أن تكون الرواية أو فكرتها موجودة مسبقاً داخل الرأس. إنها بالنسبة له تتوالد تدريجياً من صياغتها وجملها. هذه مسألة أساسية. حين أعود إلى سؤالي الصباحي، ماذا سيحدث اليوم؟ فذلك مردّه إلى غيابي في اللحظة بذاتها عن كيفية اكتمال الجملة وانعطافها وتوقّفها، وأي الوقائع قد أمتنع عن روايتها وقد أعلّقها أو أمرّرها على شكل تلميح. إنه مجرى فعل الكتابة، ولا أدرك ككاتب شكل السرد قبل ارتطامي به».

نسأله عما يعتمل في داخله حين ينجز المهمّة؟ فيردّ ضاحكاً: «وصولي إلى العنوان بعدما جرّبت عناوين لم أستقر على أحدها! كان عبئاً أسقطته عن كاهلي. خالجني أيضاً تساؤل عن ورطة الكتابة، وإلى أي حد أستطيع سرد ما أعترف به لنفسي، وهل تورطتُ بكتابة ما لم أتجرأ قبل الرواية على الحديث عنه ومعاينته بهذا الوضوح؟ ماذا عن الأشياء المحذوفة، وتلك التي تُضاف، وغير المُشتَبهة كفاية وينبغي إضافة الاشتباه إليها؟ وتشغلني أيضاً مسألة حقيقيّة فعل الكتابة وهل يوافي شروط النوع الأدبي؟ هل ما أكتبه حبكة مترابطة الفصول؟ وهل يعني الآخرين؟».

يعود إلى هاجس العنوان يوم خطرت له تسميتها «رماد الوقت»، فلمح في التسمية ادّعاء. يتابع: «حين عدتُ إليها كقارئ، استوقفتني محاكاة الوقت الذي لم يمضِ. ما يشغلني في الكتابة والتقصي والبحث جوهر راسخ هو القرابة، أو فكرة الأصل. بالنسبة إليّ، الإنسان قائم بعد أصله والأصل موجود وثابت. فالعمّة التي أرادت عقاب ابن الأخ، الراوي، بحضور والده، على افتراضها أنه خارج العائلة والسياق والأصل، حين تنبّهتُ إلى فعلتها، وجدتُ أنّ انتباهي هو انتباه مزعوم وأنني أروي بشكل كاريكاتوري – ملحمي ادّعاءات الأهل. العودة إلى الجذور هي الأصل، وهذا الأصل بمثابة مغارة علي بابا واحتوائها على الخفايا. الوقت لم يمضِ… هو المراوحة أمام الأصل المجهول، وما يُفترض أنه الشهادة على الولادة».

يرسم وضاح شرارة لبطل روايته حياة ماضية انتهت إلى غير رجعة، فهل إراحة ذاكرته من عبء الأمس الثقيل بمثابة عبء آخر؟ يربط الإجابة بالعنوان: «(أمس اليوم)، يُقرأ على وجهين: أمسِ اليوم، وبالتالي يتوهّم السرد ويُوهم بأنه يروي شيئاً متسلسلاً يحمل ركيزة سببية ومنطقية مترابطة. وقد يُقرأ (أمس اليوم غداً بعد غد…)، وبالتالي فإنّ التتابع ليس بالضرورة تعاقب الزمن. أظنّ، وهذا إلى حد ما مُدرَك، أنه في الوقت الذي أسرد فيه الموضوع، فإنّ ذلك يتم بواسطة طريق آمل في أن يكون بين هذين الوضعين الزمنيَيْن؛ الإضافة والتتابع الزمني المعلّق، الذي قد تكتفي حلقاته بذاتها أو تُلمح إلى الشيء اللاحق بشكل غير مفهوم لي. سؤالي الأساسي أثناء الكتابة: كيف تحصل الأشياء ولماذا؟ بالضرورة أم بالجواز؟ على الأرجح، لا جواب».

في الرواية، تحافظ الأم والمدينة على موقعهما في الخلفية. لا تتقدّم أم الراوي لتشارك الشخصيات وظيفتها في جريان الأحداث، ولا تتحرك المدينة خارج إطارها المكاني. وفي رأي شرارة، أن مهمّة السرد ليست بالضرورة ملء الخانات بشكل متتابع: «هناك الماقبل، لكنني لستُ أكيداً من وجود المابعد. وهناك أيضاً الجوانب بأشكالها المختلفة. أعود إلى مسألة الأصل للإشارة إلى ترابط الأم والمدينة. غياب الأم يترك سؤالاً معلقاً عن احتمال وجود أصل ثانٍ ومصدر آخر. بحثي في هذا الاحتمال سيأخذ طابعاً سيكولوجياً واقعياً، ما قد يحرف القص عن وجهته. ما ينطبق على الأم ينطبق على المدينة. الأصل ثابت».

السابق
بالصورة: الخبز مفقود في الأفران.. ومولود بين النفايات!
التالي
«أمس اليوم» لوضاح شرارة: تدفع استنقاع النسب..بتدافع الرغبات الغامضة