زينب فواز: الأديبة والشاعرة العاملية المنسية

زينب فواز

عام 1909 وصلت رسالة من مصر الى صاحب مجلة العرفان الشيخ احمد عارف الزين، تحمل هذه الرسالة قصيدة من شاعرة لبنانية جنوبية غير معروفة في بلادنا تدعى زينب فواز، تطلب منه نشرها في مجلته التي ذاعت شهرتها في ذاك الزمان وكانت سفيرة الادب والفكر والشعر العاملي الى العالم، فنشرها الشيخ بحماسة وهو فرح بهذا الاكتشاف الأدبي الباهر، وليبدأ بعدها البحث والعثور على أصول هذه الجوهرة العاملية النادرةالتي هجرت بلدها الى مصر وكانت رائدة من رواد النهضة الأدبية في القرن التاسع عشر.

اقرأ أيضاً: علماء جبل عامل: من حوزات البقاع إلى إفتاء إيران الصفوية!

زينب فواز، حسب الدكتور حسن صالح الذي نشر ديوانها الشعري قبل سنوات، غادرت تبنين إلى الاسكندرية وهي في عزّ صباها ولها من العمر عشرون سنة متجهة إلى عكا فعسقلان فعريش مصر فالاسكندرية، ولم يعد يعرف سكان قصور القلعة وأهل تبنين عنها شيئاً بعد هذا السفر، وانقطعت أخبارها عنهم حتى أطلت من خلال مجلة العرفان من جديد على الساحة الأدبية اللبنانية. وتعني هذه المداخلة أن ولادة زينب فواز هي سنة 1845م. وهو الأقرب إلى الظن والعقل والتصديق، لأنه عندما اختارها علي بك الأسعد لتكون من أتراب ابنته زينب التي ولدت سنة 1846م. أما وفاتها، فقد أشارت مجلة المشرق ومجلة العرفان وصحف مصر ومجلاتها، أنها توفيت في 19 كانون الثاني سنة 1914م.

في قلعة آل الأسعد

ويروي المعمرون من تبنين أن زينب بنت علي بك الأسعد كانت البنت الوحيدة في القلعة، ليس لها رفيقة أو صديقة من عمرها. وكانت تذهب إلى مدرسة القلعة باكية ناحبة شاكية، فاقترحت والدتها فاطمة الأسعد على والدها استقدام صديقة ورفيقة لها تكون من عمرها، فوقع الاختيار على زينب فواز، فكانت زينب فواز تذهب إلى المدرسة مع زينب الأسعد وتتقاسم معها الشراب والطعام واللباس والمنامة حتى وتتخاصمان بشد الشعر.

وهكذا نشأت في قصور القلعة بمثابة وصيفة وكاتمة أسرار للأميرة زينب الأسعد. وكلتا الزينبتين كانت شاعرة. وتجدر الإشارة إلى أن علي بك الأسعد، تزوج فتاة ثانية من الفلاحين، وأسكنها في القصر المطل على درج القلعة، وقد أولد منها ثلاثة أولاد ذكور هم: شبيب باشا وناصيف باشا ونجيب بك. وما زال أهالي تبنين حتى الآن يطلقون على القصر تسمية قصر الفلاحة.

وهذا يعني أن زينب فواز كان لها أم ثانية هي فاطمة بك الأٍسعد، وعندما نقرأ ترجمتها لها نجد العاطفة الجياشة والحب الكبير من زينب فواز لها، وحرصت السيدة فاطمة على تعليمها في مدرسة القلعة في تبنين على يد الشيخ جعفر مغنية، مع رفيقيها زينب الأسعد وأخيها شبيب باشا.

زينب فواز رائدة من رواد النهضة الادبية في القرن التاسع عشر

من تبنين الى مصر

لم تكن زينب فواز معروفة كأديبة أو شاعرة على الساحة اللبنانية أو حتى في بلدتها تبنين، تلك البلدة التي كانت طوال عصور الإنحطاط من أول القرن الثامن عشر وحتى أوائل القرن العشرين محطة من محطات الأدب والشعر في بر الشام، فقد كانت الصالونات الأدبية والمناظرات الشعرية قائمة قاعدة في قصور قلعتها. تلك المناظرات التي كان يشترك بها أكثر من أربعين شاعراً من كافة أصقاع برّ الشام، خلقت من زينب فواز طاقة إبداعية لم يعرفها العرب منذ قرون. وسبب عدم معرفة أبناء تبنين، وحتى الأدباء والشعراء منهم بزينب فواز، هو هجرها تبنين وهي في العشرين من عمرها وانقطاع أخبارها انقطاعاً تاماً عنهم وعن بلدتهم، ولصعوبة الاتصال والتواصل، مما أدخلها في مجاهل النسيان. فهي عندما تركت تبنين، كانت تحمل خميرة محترمة من الثقافة والأدب والتاريخ والشعر والنقد الأدبي، أكتسبتها كلها على يد الشيخ جعفر مغنية ومن خلال الاشتراك في المناظرات الشعرية التي كانت تعقد في قصور القلعة ولو من وراء حجاب.

لقد هجرت تبنين وهي تملك الخميرة ولكن هذه الخميرة لم تظهر إبداعاتها إلا في مصر.

وكانت أول إطلالة لها على الساحة الأدبية اللبنانية عبر قصيدة أرسلتها إلى الشيخ أحمد عارف الزين في التاسع عشر من حزيران سنة 1909 وقد نشرها في باب القسم الأدبي دون أي تعليق وهي بعنوان: “رجال الشرق” وقد أثبتناها في الديوان.

وعندما تعرف الشيخ أحمد عارف الزين عليها وعلم أنها عاملية من تبنين، تبنّاها أدبياً وأخذ يتحدث عنها وعن أدبها وشعرها ومؤلفاتها كلما سنحت له الفرصة. ولم ينسَها ما دام في جسمه رمق  وفي روحه نفس، حتى توفاه الله سنة 1960.

قصيدة قلعة تبنين

في التحقيق ان اول قصيدة كما اسلفنا، نُشرت في مجلة العرفان بعنوان  “رجال الشرق”، نشرها الشيخ عارف الزين دون أن يعرف أن زينب فواز عاملية لبنانية. وفي التاسع من حزيران من سنة  1910. وصلت منها رسالة وقصيدة بعنوان “قلعة تبنين” تقول له في مطلعها:

ذكّرتني يا صاحب العرفان ما لا أنساه من معالم أوطاني فنطق لساني مخاطباً لقلعة تبنين التي أفنت الأجيال ولم يؤثر على أسوارها الدهر فقلت:

يا أيها الصرح أن الدمع منهمل

فهل تعيد لنا يا دهر من رحلوا

وهل بقي فيك من ينعى معي فئة

هم المقاديم في يوم الوغى الأول

قد كنت للدهر نوراً يستضاء به

أخنى عليك البلى يا أيها الطَلَلُ

كم زيّنتك قدود الغيد رافلةً

بالعزّ تسمو ووجه الدهر مقتبل

أبكيك يا صرح كالورقاء نادبةً

شوقاً إليهم إلى أن ينتهي الأجَلُ

قد كنت مسقط رأسي في ربى وطني

إنّ الدموع على الأوطان تنهمل

تبنينُ إن كنت في بعدي على حزن

فاليوم يوم رجوعي القلب يشتعل

وقفت وقفة مشتاق به شغف

عليّ أرى أثراً يُحْيَ به الأمل

إذ الأحبّة قد سارت رحالهم

فزاد شوقي كما قلت بي الحِيَلُ

فالنفس شاكيةٌ والعين باكيةٌ

والكبد داميةٌ والقلب مشتعل

أعلى هُيُو سنْتُ أبراجاً لها عجبٌ

تصارع الدهر لا ضعفٌ ولا ملل

وفي السنة نفسها والعدد نفسه أي الجزء السادس من المجلد الثاني لسنة 1910، بدأ حماس الشيخ أحمد عارف الزين لها وتبنّيها فنشر لها دعاية ونقداً لكتبها مرفقاً برسالة منها له، ومما جاء في نقد كتاب “الدرّ المنثور في طبقات ربات الخدور”:

أهدتنا هذا الكتاب المفيد مؤلفته السيدة زينب فواز وقد حوى ترجمة 456 امرأة من فضليات النساء ما بين شرقية وغربية  ومتقدمة ومتأخرة ولا نحتاج إلى إطرائه لأن آثار هذه الفاضلة أصبحت أشهر من أن تعرّف، فلها منا الشكر الصميم والثناء العميم.

وقد جاء في كتابها لنا ما يلي:

«إني مرسلة لكم نسخة من كتاب الدر المنثور الذي لم يبق منه إلا ما ندر فأرجو قبولها ولكم الفضل.

أما ما ذكرتموه من الانتقاد على طلبي رد حقوق المرأة فإنّي جعلته طلباً عمومياً وليس مختصاً بنساء الشرق ولم أتعدَّ حقوق الشريعة أيها العزيز. فأرجو أن تمروا النظرة مرة ثانية على الرسائل حتى يتبين لكم الغثّ من السمين.

أما ما جال في فكر سيادتكم من أن المرأة لا تقدر على إيداء وظيفة الرجل فهذا غلط أيها الفاضل، لأن نساء الغرب فقن الرجال بمراحل. وأما نحن فلا يمنعنا الحجاب عن الاشتغال بأعمال الرجال!

وقد ذكرته في إحدى رسائلي ولولا أن الأطباء منعوني عن إشغال فكري بالكتابة لسبب ما ألمّ بعصب عيني اليسرى من التعب، لكنت أظهرت لكم أفكاري من هذا القبيل.

وأما اختصار رواية قورش فلكم فيها الحق، لأني أُجبرت على ذلك من ملتزمها فاختصرتها وحذفت الأشعار منها ولكن ندمت بعد طبعها من حيث لا ينفع الندم».

نعت أنباء مصر فواز كأول امرأة شهيرة في الأدب والكتابة في الصحف

حياتها الثقافية في مصر

بعنوان: “زينب فواز.. الرائدة المجهولة” قدّم المصري حلمي النمنم للطبعة الثانية لرواية  زينب فواز “غادة الزاهرة” أو” حسن العواقب” فقال: «سوف يفاجأ كثير من القراء بإسم الكاتبة زينب فواز، فلم يذكر كثيراً في أدبيات الحركة النسائية ولا في الدراسات النقدية، وذلك أن ذاكرتنا التاريخية والثقافية مثقوبة، تسقط منها أسماء ووقائع مهمة، ومن بين الأسماء التي سقطت الكاتبة والشاعرة والمؤرخة والروائية زينب فواز، التي شغلت الحياة الثقافية والأدبية في مصر خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر والسنوات الأولى من القرن العشرين.

ولدت زينب فواز في منطقة جبل عامل بجنوب لبنان بقرية تبنين، حيث ألحقت بالسيدة فاطمة الأسعد زوجة الأمير علي بك الأسعد، وتعلمت هناك القراءة والكتابة، فقد أدركت سيدة القصر ذكاء ونباهة الطفلة، ويقال أنها حفظت القرآن الكريم أيضاً وتزوجت زينب بأحد العاملين بالقصر، كبير السواس، وبسرعة وقع الطلاق، كانت طباع كل منهما متنافرة، ولا نعرف على وجه التحديد متى كان الزواج ومتى جرى الطلاق..؟

وسوف تمر في حياتها بتجربة زواج أخرى من أديب دمشقي ولن تجد السعادة في تلك الزيجة أيضاً، لذا يقع الطلاق، ولم تنجب وتتفرغ تماماً للكتابة وللقضايا العامة.

بعد طلاقها الأول تمر حياتها ببعض خطوات عاصفة تنتهي بأن تغادر لبنان مع والدها إلى الاسكندرية، كانت الاسكندرية آنذاك تعيش حالة من الحيوية الثقافية والأدبية وتشهد انفتاحاً على عالم البحر المتوسط، مدينة الجاليات الأوروبية وأولاد البلد أيضاً، فيها صدرت كبريات الصحف والمجلات وشهدت منتديات فكرية وسياسية..

درست زينب وتعلمت بالاسكندرية فقد التحقت بجامع إبراهيم – في ميدان الرمل ودرست على الشيخ محمد الشبلي ثم تعلمت “الصرف والبيان والعروض والتاريخ على حسن حسني الطويراني (1850 – 1897) صاحب مجلة “النيل” والذي انتبه إلى موهبتها وسوف ينشر لها فيما بعد الكثير من مقالاتها، ودرست أيضاً على الشيخ محيي الدين النبهاني الإنشاء والنحو”.

بهذا التكوين الثقافي والأدبي بدأت زينب فواز تنشر مقالاتها في مختلف الصحف والمجلات المصرية مثل “النيل” و”الأستاذ” التي كان يصدرها عبد الله النديم و”المؤيد”، الصحيفة الأكثر انتشاراً وتأثيراً في مصر، ونشرت أيضاً في “أنيس الجليس”، و”لسان الحال” و”فرصة الأوقات” وغيرها.

ولم تكن المقالات إلا جانباً من جوانب نشاط ودور زينب فواز، فقد أصدرت عدة مؤلفات تتكامل مع المقالات، ولعل أبرز أعمالها والذي حقق لها شهرة كبيرة في عصرها، كتاب “الدر المنثور في طبقات ربات الخدور” وصدر في سنة 1893 عن مطبعة بولاق، وهو أشبه بموسوعة لتراجم السيدات العربيات وغير العربيات اللائي لعبن أدواراً بارزة في مجتمعاتهن عبر مراحل التاريخ، يضم الكتاب ترجمات لأكثر من 450 سيدة، بينهن النساء اللائي عاصرتهن ولعبن دوراً بارزاً في الصحافة والثقافة، وربما كنا نجهلهنّ الآن لو لم تترجم هي لهن ومن بين من ترجمت لهن الكاتبة عائشة تيمور، وعلى تلك الترجمة اعتمدت “مي زيادة” اعتماداً شبه كامل في كتابها الذي وضعته عن عائشة، كانت زينب وعائشة صديقتين حميمتين، لذا ضمّت ترجمتها الكثير عن أدق جوانب حياة عائشة.. ومن بين مؤلفاتها رواية “حسن العواقب” أو “غادة الزاهرة”. ولها رواية “الهوى والوفاء” التي أصدرتها في 1893 ورواية ثالثة حول ملك الفرس “قورش”.

اقرأ أيضاً: العامليون لم يستسلموا للجزّار: حرب العصابات أجبرت العثمانيين على الانسحاب

كانت زينب فواز على علاقة قوية بقضايا عصرها ومجتمعها حين توفي الزعيم مصطفى كامل عقد الحزب الوطني حفل تأبين في مرور أربعين يوماً على الوفاة، كان ذلك يوم 20 مارس 1908 وألقت زينب في ذلك الحفل خطبة عن السيدات.. وفي التعليق على ذلك الحدث اعتبرتها درية شفيق “إحدى معجزات المرأة المصرية”.

وفي يناير سنة 1914 توفيت في منزلها رقم 14 بشارع الكومي في حي السيدة زينب بالقاهرة، وقالت “المؤيد” في نعيها إنها كانت “عنواناً شريفاً ومثالاً حسناً للأدبيات الشرقيات”. وقالت أيضاً إنها “تركت عالمنا الفاني تودعها قلوب الأمة المصرية بل والأمم العربية”.

وعندما وصل خبر وفاتها إلى بيروت، نشر الشيخ عارف الزين خبر موتها، بعد ان نعتها أخبار مصر  فقال:

«نعت أنباء مصر المرحومة زينب فواز الكاتبة الشاعرة المؤلّفة وأول امرأة اشتهر اسمها في عالم الأدب والكتابة في الصحف،وقد نالت شهرة بعيدة في حياتها. ونالت حظوة كبيرة عند كبراء مصر وأدبائها  وهل يعلم العامليون أن التي ننعاها اليوم، بل التي نعتها أشهر صحف مصر وسوريا هي عاملية؟!».

(مجلة شؤون جنوبية – العدد 181 – خريف 2021)

السابق
فضيحة أمنية مدوية.. جهات لبنانية «تبيع» دماء شبان طرابلسيين للعراق!
التالي
«سيدة الجبل» يُحذّر من عدم ملاقاة المبادرة الخليجية.. وينبّه «حزب الله» من مغامرة عسكرية