حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: دروس لبنانية من اجتياح بوتين لأوكرانيا

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

تتوالى اخبار المعارك العسكرية، التي يخوضها الجيش الروسي في الجغرافية الاوكرانية، وتتسع المأساة الانسانية لملايين الاوكرانيين، الذين يُسحقون تحت آلة الدمار الروسية الرهيبة، فيما تتزايد اعداد ملايين النازحين، الذين تجبرهم الحرب، على ترك مدنهم وبيوتهم، والرحيل الى دول الجوار الاوكراني، كلاجئين يتلقون مساعدات انسانية واغاثية، يشترك بتأمينها غالبية كبرى من دول العالم.

اقراأ أيضاً: حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: خارطة طريق لإعادة تكوين السلطة

ومهما تكن التطورات التي ستحدث في هذه الحرب، خلال الايام او الاسابيع المقبلة، فان أمورا عدة باتت شبه منجزة أو في طريقها الى الانجاز؛

  • اول هذه الامور هو تحطيم الدولة الاوكرانية واعادة النظر في حدودها ووحدة اراضيها، سيحدث ذلك للأسف، على الرغم من المقاومة البطولية، التي تبديها اوكرانيا حكومة وشعبا وجيشا، وعلى الرغم من الاداء الشجاع الذي يتقنه الرئيس الاوكراني فولوديمير زيلنسكي واعضاء حكومته، سواء على صعيد قيادة معركة الدفاع عن دولته، أم في نجاحه في تأمين تعاطف دولي واسع مع قضيته، على المستويات السياسية والقانونية و على مستوى الدعم الاغاثي والانساني، إضافة لنجاح الجيش الاوكراني، في ابطاء تقدم القوات الروسية، وتكبيدها خسائر غير متوقعه، وبالرغم من كل ذلك، فان مسار المعارك ومآلها، يفضي الى غلبة روسية ميدانية، حتى لو تم تفعيل آليات الدعم اللوجستي الغربي لاوكرانيا بزخم وقوة، وحتى لو نجحت اوكرانيا، في تحويل مذاق التفوق الروسي العسكري من حلاوة التفوق والقوة، الى انتصار بطعم المرارة وبكلفة باهظة على التحمل.
  • اما ثاني هذه الامور، فان الحرب في اوكرانيا ستكون بابا لترسيم نظام عالمي جديد، يعيد صياغة العلاقات الدولية، على أسس وبنى جديدة، فبعد ان ارست معركة احتلال افغانستان واستراتيجية محاربة الارهاب، ثم معركة عاصفة الصحراء لإسقاط نظام الرئيس صدام حسين، التي قادتها اميركا وادت الى احتلال العراق في ربيع ٢٠٠٣، نظاما دوليا يعتمد الاحادية القطبية ويظهر انفراد اميركا بقيادة عالم ينصاع لأغلب خياراتها، سترسم الحرب الجديدة نظاما جديدا، سيكون على عكس ما سبق منذ تسعينات القرن الماضي، موسوما بطبائع الحرب الباردة، التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية، وبصراع عالمي للانتقال الى نظام دولي متعدد القطبية.
  • اما ثالث المتغيرات الدولية الواضحة معالمها اليوم، فهو عودة الحياة لحلف شمالي الاطلسي، وتوسيع دوره وموازناته وتسليحه ونطاق مهماته وأدواره، وقد يترافق ذلك مع عسكرة دول اوروبية كبرى، وهو أمر سيؤدي الى رفع موازنات التسلح في المانيا وبريطانيا وفرنسا وبلجيكا وايطاليا، وبالتالي سيحقق المجمع الصناعي العسكري في اميركا، عوائد ربحية عالية من سباق التسلح في اوروبا الذي ستطلقه معركة روسيا في اوكرانيا، وهو امر كان مطلبا اميركيا واضحا عبر عنه الرئيس دونالد ترامب بشكل جلي تارة وبفجاجة تارة اخرى.


اما رابع المتغيرات، فهو على مستوى السياسة في القارة العجوز، بحيث ستصبح القارة الاوروبية اكثر تماسكا وتضامنا، وسيتم ترشيق آليات القرار الاوروبي، وطرق صناعة سياساته الخارجية، ليصبح اكثر فاعلية وسرعة في التنفيذ والمبادرة، وسيتم الدفاع عن الدول التي انضمت مؤخرا الى الاتحاد الاوروبي، كجورجيا ولوتفيا وفنلندا، بحرص وسرعة وذلك عبر نشر قوات اطلسية للدفاع عنها.


اما عن مصير روسيا، فسيخضع اقتصادها لتحديات جسيمة خطيره، بحيث تواجه ازمة اقتصادية عميقة، لا تستطيع الصمود في وجهها الا بدعم صيني واسع ومستمر، بحيث يتبدى ان هذا العملاق العسكري المدجج بأعتى أنواع الأسلحة المدمِّرة، ليس إلا قزما اقتصاديا، لا يستطيع تأمين قوت شعبه ومستلزمات الحياة اليومية لمواطنيه، وانه سيكون مرتهنا لاحتضان الصين ورعايتها، وبذلك سيتبدى الصراع الدولي ابتداء بمواجهة غربية روسية، ليتحول الى صراع غربي في مواجهة شرق تقوده الصين.

اوكرانيا محطمة ومقسمة أما اوروبا فمعسكرة اطلسية وملتصقة بتحالف وثيق مع سياسة اميركية


لذلك يبدو فلاديمير بوتين خاسرا مرتين، ومتسببا في صناعة مأزق حصاره الاقتصادي والسياسي، ذهابا في معركة مواجهة مع الغرب، حتى لو نجح بتحطيم اوكرانيا، ليعود في شوط الاياب، ليخسر مرة أخرى، حين تحتضنه الصين وتداوي جراحاته، وتستوعبه تحت فيء عباءتها.
لذلك تنجلي معركة اوكرانيا عن حقائق عديدة ؛هي ان اوكرانيا محطمة ومقسمة، أما اوروبا فمعسكرة اطلسية، وملتصقة بتحالف وثيق مع سياسة اميركية، تحدد ميادين ومواقيت المواجهة، وبروسيا عدائية محاصرة اقتصادها مأزوم ومداها الحيوي ضيق، ويخضع بشكل مستمر لتحديات جديدة.

يبدو بوتين خاسرا مرتين ومتسببا في صناعة مأزق حصاره الاقتصادي والسياسي ذهابا في معركة مواجهة مع الغرب حتى لو نجح بتحطيم اوكرانيا

  • اما خامس المتغيرات العالمية، فهو سوق الطاقة وخطوط نقلها، ففي الفترة الفاصلة بين احتدام المواجهات في المراحل الاولى من الصراع، وحتى مرحلة انهاك القوى المتقاتلة، وصولا الى استتباب المآلات التي ستصنع وترسي الوقائع الجديدة من جهة ثانية، ستكون سوق الطاقة كرة النار التي يتم تقاذفها من كل الافرقاء في العالم، لا تستطيع اوروبا الاستغناء عن الغاز الروسي، وتسعى الى بدائل في قطر والجزائر، أما اميركا فهي مضطرة للتعامل مع مادورو في فنزويلا، لتأمين قسم من احتياجاتها النفطية بسعر معقول، اما دول الخليج العربي حيث يمكن رفع طاقتها الانتاجية، بما يغرق السوق ويلجم ارتفاع اسعار برميل النفط الخام، فليست على عجلة من امرها، للاستجابة للمطلب الغربي بذلك، فالغرب لم يلب مطالبها الامنية، ولا بدد هواجسها الدفاعية في مواجهة ايران، ولا تضامن معها بشكل كامل في حرب اليمن، ولذلك فقد اتخذت موقفا هادئا وشبه محايد في الازمة الاوكرانية، وابدت حرصا على عدم اغضاب بوتين او استفزازه.

اهم العبر اللبنانية من الازمة الاوكرانية هي الخلاصات والاستنتاجات السياسية التي يمكن ان ترسم اشارات وارشادات سياسية وجيوسياسية لادارة ازمات لبنان

ولذلك سيستمر تقلب اسعار النفط شهورا عديدة، على مستويات مرتفعة، حتى تستوي تطورات الصراع الى وقائع ثابتة.
اما في لبنان فاول تداعيات الازمة الاوكرانية، هي ازمة في امداد القمح والزيوت النباتية، يضاف اليها ارتفاع اسعار الوقود، الذي ينعكس جنون اسعار في اغلب السلع والخدمات، من كلفة النقل الى كلفة الكهرباء وكلفة التدفئة وري المزروعات وغيرها. لكن اهم العبر اللبنانية من الازمة الاوكرانية، هي الخلاصات والاستنتاجات السياسية التي يمكن ان ترسم اشارات وارشادات سياسية وجيوسياسية لادارة ازمات لبنان ورسم مستقبله:

  • العبرة الاولى من الازمة الاوكرانية، هي ان البلد الاصغر حجما لا يصح ان يغامر في مراهنات خارجية تتعدى حجمه وقدراته، وان يدخل لعبة الكبار، فيذهب ضحية في صراع لا قدرة له على خوضه، فأوكرانيا توهمت انها اذا ما تسلحت بدعم غربي واسع، تستطيع مواجهة غطرسة بوتين واحراجه، وهو امر دفعت ثمنه غاليا، ولم يتمكن الغرب من حمايتها او يرغب في الدفاع عنها. ولذلك فان وهم اي طرف لبناني بأن يلعب دورا اقليميا اكبر من لبنان، نهايته ستفضي الى خسارة قد تتحول الى كارثة.
  • العبرة الثانية ان الغرب لا يدافع الا عن مصالحه، ولا يرسل جنوده ليقاتلوا الا دفاعا عن بلادهم، وان وهم الحماية الدولية للشعوب المضطهدة، او التي تتعرض للعدوان والاحتلال والاستبداد، ليس الا سياسة لفظية لا تتحول الى واقع محسوس، الا باقترانها بمصالح فعلية ومنافع اقتصادية، ولهذا فإن اللبنانيين الذين يحلمون بخلاص موعود، عبر تدخل دولي مباشر او عبر انعقاد مؤتمر دولي، يقلب الاوضاع السياسية، هو وهم زائف، سيكون ثمنه باهظا، لو جرى الاصرار عليه، تماما كالثمن الذي دفعته اوكرانيا، وثورة سورية، وهما ينتظران مناطق حظر جوي للطيران الروسي فوق بلديهما.
  • العبرة الثالثة، ان السكوت عن الاستبداد والتنازل امامه سعيا لمرضاته، او اشباعا لنهم اطماعه، لا فائدة منه، لان كل تنازل امام ديكتاتور مستبد، هو تمكين له للاستزادة من مطالبه وجنوحه، ولذلك فان بوتين اجتاح اوكرانيا، لان العالم صمت عن جريمته في غروزني، ودمر ماريوبول لان العالم اغمض عينية يوم تدمير حمص وحلب، ويستهدف المدنيين العزل في المدن الاوكرانية في كييف وخاركوف، لانه استفاد من صمت العالم على جرائم مضايا والزبداني وداريا وغوطة دمشق.
  • العبرة الرابعة، ان معايير هذا العالم وقيمه، ليست سامية وشاملة، وان مبدأ سيادة الدول واحترام حدودها هو مبدأ معمول به في اوكرانيا، ممنوع من التطبيق في فلسطين والجولان، وان الحق الانساني باللجوء مصان لأصحاب البشرة البيضاء والشعر الاشقر، اما اصحاب الوجوه السمراء والقامات الداكنة، فلا حقوق لهم ولا اغاثة ولا ملجأ.

السابق
الانتخابات والمسؤول العربي الكبير
التالي
عون يعدُ اللبنانيين: سأواصل العمل في ما تبقى من ولايتي لرفع الغبن والعدالة!