من «السترات الصفر» إلى أوكرانيا: ماكرون رئيساً!

ماكرون

يحلو للصحفيين من أصحاب الدعابة في فرنسا أن يتهكموا على حدث الانتخابات الرئاسية المقبلة ويعتبرون أنه ببساطة موعد إعادة انتخاب إيمانويل ماكرون لولاية ثانية. في هذا أن لا مفاجآت في نهاية المطاف، وأن الحملات الانتخابية التي يخوضها المنافسون هي مجرد ثرثرة مسلية، لكنها لن تغير من حتمية تؤكدها استطلاعات رأي تجد ماكرون متقدما بأشواط عن أي وجوه أخرى منافسة.

تأخر ماكرون حتى الحدود القصوى في إعلان ترشحه. رأى منافسوه في ذلك تهربا من خوض النقاش مع منافسيه، وأخذوا عليه الاستفادة من موقعه الرئاسي، ومن كونه أيضا رئيسا للاتحاد الأوروبي بحكم مصادفة أن تشغل فرنسا هذا الدور. بقي ماكرون صامتاً ينهل الكلام من نشاطه الرئاسي وأيضا من الأدوار الجديدة التي يفرضها الصراع الأوكراني ليؤكد بالمناسبة هيمنة قامته على قامات بقية المرشحين.

اقرأ أيضاً: هل تمول أوروبا الجهد الحربي الروسي في أوكرانيا؟

بالكاد عرف الفرنسيون ماكرون قبل 6 سنوات حين لاح اسمه مرشحا محتملاً لانتخابات عام 2017 الرئاسية. ظهرا الرجل حين استعان الرئيس الاشتراكي فرانسوا هولند بكفاءاته الاقتصادية وعينه ضمن فريقه في رئاسة الجمهورية عام 2012 ثم وزيرا للاقتصاد في حكومة مانويل فالس عام 2014. لكن ذلك التكنوقراط المغمور قلب الطاولة عام 2016 فاستقال وارتجل حزبا (الجمهورية إلى الأمام) وخاض الانتخابات الرئاسية ضد أحزاب اليسار واليمين والكبرى وفاز بها متفوقا على زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبن.

مفاجأة كبرى أحدثها انهيار الحزب الاشتراكي والديغولي وانهيار أحزاب أخرى وازنة أمام صعود ماكرون حديث العهد بالسياسة. أتى ماكرون من خلفية اشتراكية ركيكة وربما انتهازية، وبشّر كمرشح بوسطية تنهل من يمين ويسار. حمل خطابا يقوم على وعود لا تقف على بنيان سياسي عريق أصيل، وراح يستخدم مواهبه الشخصية في الخطابة والحجّة مستنداً إلى يأس عام من طبقة سياسية باتت متقادمة في القول والعمل وفقدت ثقة الفرنسيين، لا سيما أجيال ما بعد الايديولوجيا.

حظي ماكرون بنسبة تصويت تجاوزت الـ 66.1 بالمئة. لا يحظى رؤساء فرنسا عادة بنسب بهذا المستوى. لكن خصومه من ناخبي اليسار واليمين التقليديين اضطروا للتصويت له لدفع منافسته اليمينية القومية مارين لوبن عن أبواب الاليزيه. والأرجح أن لا يتغير الوضع في الانتخابات المقبلة إذا ما صدقت استطلاعات الرأي في أن لوبن ستكون من جديد منافسة ماكرون في الدورة الثانية من الانتخابات في أيار (مايو).

بالكاد تعرّف عليه الفرنسيون لكن العالم أجمع بات يعرف ماكرون جيداً. وعد الرئيس الجديد بالاصلاح الذي بات عاجلا فواجهته مقاومة مجتمعية شرسة، فصارت ثورة “السترات الصفر” حديث العالم شرقا وغربا. قيل لاحقا لفرانسوا هولند هل توافق أن ماكرون هو رئيس الأغنياء؟ أجاب بخبث شديد: “لا أبداً.. إنه رئيس الأغنياء جداً”. ومع ذلك تمكّن ماكرون بنفسه من القيام بحملات داخل مناطق فرنسا مناقشا محاججا مناورا دافعا بمليارات من اليورو حتى باتت ظاهرة “السترات الصفر” من الذكريات.

قام ماكرون على أنقاض هياكل سياسية كبرى تقوضت وتعثرت وفقدت رشاقتها وهيبة زعاماتها. لم يحصل شيء لها خلال السنوات الخمس من ولايته الأولى. ما زال حال هذه الهياكل، يسارا ويمينا، على حالة من التخبط والتناقض البيتي وقحط الأفكار وانعدام القادة على النحو الذي يتيح لماكرون، بشخصه لا بهمّة حزبه، أن يحافظ على التميّز والتفوّق الذي يجعله “الرئيس الطبيعي” لولاية ثانية.

لا يمكن دائما الخضوع لعامل الحظ في صناعة التاريخ. صحيح أن الأزمات والكوارث تحوّل القادة إلى عظماء، لكن كوارث الإرهاب التي تعرضت لها فرنسا لم تصنع شيئا في شخض هولند وقبله نيقولا ساركوزي اللذين كانا من القلائل من الرؤساء الذين لم يستطيعوا نيل ولاية ثانية. ومع ذلك فإنه يسجل لماكرون أنه أجاد التعامل مع أزمة “السترات الصفر” التي كادت تُحدث زلزال ما أحدثته ثورة عام 1968 في عهد الجنرال ديغول، وأجاد التعامل مع أزمة جائحة كوفيد بحيث أظهر مواهب فذّة في أن يقدم نفسه “قائدا للأمة”، وها هو يُسخّر مواهبه في الدور الذي يلعبه فرنسيا وأوروبيا داخل أزمة أوكرانيا، وهي الأخطر منذ الحرب العالمية الثانية.

ولئن سارع ساسة فرنسا إلى تسجيل موقف يكاد واحدا ضد روسيا في حربها ضد أوكرانيا، فإن مرشح اليسار الراديكالي جان لوك ميلينشون تأخر في التعبير بوضوح عن إدانته للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وحين فعل فإنه ألحق الأمر بإدانة نزوع الغرب إلى تسليح الأوكرانيين لما في ذلك من إدامة للحرب وبتجديد المطالبة بخروج فرنسا من الحلف الاطلسي تحت عنوان صون استقلال قرارها. بالمقابل تعثّر المرشح الشعبوي إيريك زمور في التعبير عن موقف واضح على الرغم من انتهائه إلى إدانة بوتين، فيما تبرأت مرشحة اليمين المتطرف لوبن من لقاء سابق جمعها مع سيد الكرملين متعلله بأن رجل روسيا القوي قد تغير مذاك.

وعلى هذا تبدو تلك الجلبة هامشية مقارنة بمكانة المرشح ماكرون داخل هذا الصراع. صحيح أن كافة المرشحين يصوبون على ملفات الداخل مستدرجين ماكرون لخوض غمارها، إلا أن ظروف حرب أوكرانيا وما تفرضه من واقع في الأمن والطاقة ومستقبل البلد والقارة والعالم، سحب ممن كان يمنّ النفس بمنازلة في ملفات بيتية أطاحت بها رياح ما وراء الحدود.

لفقت الماكرونية خلطة وجد فيها الشاردون من اليسار واليمين بوصلة. يراه اليمنيون يمينيا لا تستطيع فاليري بيكريس المرشحة الديغولية أن تضاهيه ديغوليةً. ويراه الاشتراكي السابق وزير الخارجية جان إيف لودريان مرشح اليسار بامتياز. سيكون ماكرون الرئيس الفائز بعد شهرين. وليس صحيحا أن حدث أوكرانيا هو العامل الأول، ذلك أن كل استطلاعات الرأي قبل انفجار الحرب بقيت تضعه في مصاف متفوق عن بقية المرشحين. لكن صراع أوكرانيا الخالي من صراع الايديولوجيات وتصارع اليسار واليمين أبقى السباق في فرنسا نحو الاليزيه صراع وجوه وطباع. تماما كما هو حال صراع أوكرانيا. يكفي تأمل ذلك العراك الشخصي المفاجئ بين فلاديمير بوتين وفلوديمير زيلنسكي.

السابق
٣٩ سنة على غياب إبن الجنوب نصري شمس الدين..«شيخ الأغنية اللبنانية»!
التالي
بالصور: مصرف سادس في «مهبّ» قرارات غادة عون