من «الإكسبو» إلى مدن «الملح والزجاج والنيترات».. أين لبنان من الخليج؟!

ياسين شبلي

إتجهت أنظار اللبنانيين والعالم الأسبوع الماضي، إلى إمارة دبي حيث حفل إفتتاح إكسبو 2020 ، وكان حفلا رائعا جميلا يسر الناظرين في مدينة، كان حاكمها يحلم في صباه أن تكون كبيروت ذلك الزمان، التي كانت محجة للنضال السياسي، والسياحة والتعليم والإستشفاء والثقافة العربية والعالمية، بحيث كانت الملجأ والفندق والشاطئ والكازينو والملهى، والجامعة والمستشفى والمسرح والسينما والمكتبة والمتحف، قبل أن تتحول إلى خندق بمداخل ومخارج كثيرة، بهمة حكامها وسياسييها وأبنائها الذين إختار بعضهم الجمود والتقوقع، والركون إلى الواقع المعاش حد الإفراط بالتمسك به، وهو الأمر الذي يتنافى مع الطبيعة القائمة على الحركة الدائمة، والتقدم والسير في ركب الحضارة، والبعض الآخر الذي إختار “الثورة” والإنقلاب على كل شيء، حالماً وساعياً لتغيير الكون من المحيط إلى الخليج قومياً، ومن فييتنام إلى نيكاراغوا أممياً حد التفريط بالهوية والذوبان في الآخر، وهو الخيار الذي ما زال معتمداً من البعض للأسف حتى اليوم، وإن تغيرت النظريات والوجوه والوجهة التي باتت من مراكش حتى جاكرتا ربما.

إقرأ أيضاً: هذا ما جناه.. ٧ أيار!


كعادتهم إختلف اللبنانيون على مواقع التواصل تجاه هذا الحدث، فمنهم من رأى فيه إنجازاً يحسب للإمارات وقيادتها، مقارنا بين ما وصلت إليه دبي وحال بيروت اليوم، متحسرا على عاصمته دون التقليل من شأنها وشأن الحياة فيها رغم الصعاب، معتبرا أن دبي على جمالها ورغد العيش فيها، إنما تفتقد لروح بيروت، كيف لا، وبيروت هي الروح كما يراها عشاقها ومحبوها. وهناك فريق آخر رأى فيه مجرد بهرجة إعلامية ونوع من التسويق، الذي برع فيه أهل الإمارات ودبي خاصة لبلدهم ومدينتهم، وبأن هذا الحفل ما هو سوى قشرة خارجية تخفي الكثير من الهشاشة، وهذا الفريق كان واضحا أنه من أنصار مقولة “مدن الزجاج”، التي سبق وأطلقها منذ فترة أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله في أحد خطاباته الكثيرة، بعد أن كانت تسمى إبان الفترة “الثورية” السابقة ب “مدن الملح” ، وعلى عادة هذا الفريق في “تقريش” كل شيء بالسياسة، لم يكتفِ بالتوصيف، بل راح يتهم كل من رأى في هذا العمل إنجازا ب”التبعية”، وبأنه يدعو للتطبيع مع العدو. بالمقابل برز فريق ثالث لا يقل تشنجاً عن الفريق الثاني، يعتبر بأن دبي والإمارات ما كانت لتصل إلى ما وصلت إليه، لولا إعتمادها “خيار السلام”، وهو هنا كلام حق يراد به باطل، عندما يكون المقصود هو التطبيع مع إسرائيل مع أن “إتفاقات أبراهام” لم تعقد سوى السنة الفائتة، بينما التنمية في الإمارات بدأت منذ زمن الشيخ المؤسس زايد بن سلطان آل نهيان، وبهذا يكون هذا الرأي فيه الكثير من الظلم للإمارات وقيادتها قبل غيرها، من حيث يدري أصحاب هذا الرأي أم لا.

كان حاكم دبي يحلم في صباه أن تكون كبيروت ذلك الزمان التي كانت محجة للنضال السياسي والسياحة والتعليم والإستشفاء والثقافة العربية والعالمية

بعد دبي راحت الأنظار صوب الرياض حيث رؤية 20/30، وإفتتاح المعرض الدولي للكتاب الذي يحتضن مليون كتاب وأكثر، من ألف دور نشر من أكثر من 28 دولة، وهي وظيفة من وظائف بيروت القديمة، حيث كان يقال بأن القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ، لا زالت القاهرة تكتب وبات لها الأقران في دول أخرى، أما بيروت وبغداد ف “الحال من بعضو” كما يقال، حيث ترفرف رايات الممانعة لكل ما هو جميل وبديع، رايات سود تستجلب التاريخ لتشويه الحاضر، ووأد المستقبل من قبل أن يولد، تحت شعارات طنانة لا تقرع إلا طبول الحرب والخراب، وكأنه لا يكفي العالم والمنطقة الخراب، الذي هو من صنع الطبيعة كما حصل في سلطنة عُمان، جراء الإعصار “شاهين” بحيث إعتادت مسقط هذا النوع من الأعاصير، وطريقة التعامل معها بمهارة وحرفية ومسؤولية تجاه شعبها، كمهارتها في تجنب أعاصير السياسة والحرب وما أكثرها في المنطقة، وهو جهد حميد ومشكور إذ إختارت السلطنة كما دائما أن تضمد جراحها، في كل مرة بمجهود وطني ذاتي صرف، دون الإضطرار إلى طلب المساعدات الدولية وهذا يحسب لقيادتها وحكمها الرشيد.

بعد دبي راحت الأنظار صوب الرياض حيث رؤية 20/30 وإفتتاح المعرض الدولي للكتاب الذي يحتضن مليون كتاب وأكثر من ألف دور نشر من أكثر من 28 دولة


وليس بعيدا عن مسقط، تتألق الدوحة عاصمة قطر، وتزهو بنجاحها بالوساطة بين أميركا وحركة طالبان، الذي أنتج إنسحاباً أميركيا سلساً من أفغانستان، وبداية حل لأزمات هذا البلد المسلم، الذي يعاني من أزمات عمرها من عمر أزماتنا اللبنانية، ما أكسبها مزيدا من الثقة بدورها وبمؤسساتها، خاصة بعدما إجتازت أزمة الحصار عليها، وعادت المياه إلى مجاريها مع شقيقاتها الخليجيات والشقيقة الكبرى مصر، جعلها تُقْدم بكل ثبات ولأول مرة في تاريخها، على إجراء إنتخابات لمجلس الشورى القطري، حيث كان للمرأة القطرية فيها دوراً بارزا إنتخابا وترشيحا، إذ ترشحت 28 سيدة على مقاعد المجلس ال 30، وعلى الرغم من أن الحظ لم يحالفهن بالفوز – وهو أمر مفهوم في مجتمع كالمجتمع القطري، يمارس هذا الحق للمرة الأولى – إلا أنه يعتبر خطوة رائدة لها ما بعدها، يجري كل هذا في قطر على أبواب إستضافتها السنة المقبلة، لبطولة كأس العالم في كرة القدم لأول مرة في دولة عربية وهي إستضافة تزيد من رصيد قطر المعنوي، وتعتبر إنجازا ونجاح مهم بالرغم من كل ما أحاط بهذا النجاح من كثرة الأقاويل والشائعات.

يجري كل هذا في قطر على أبواب إستضافتها السنة المقبلة لبطولة كأس العالم في كرة القدم لأول مرة في دولة عربية وهي إستضافة تزيد من رصيد قطر المعنوي

نقول هذا لا تطبيلا ولا تزكية لأي نظام أو بلد، فهذه الدول بطبيعة الحال تختزن الكثير من المشاكل السياسية والإجتماعية بالتأكيد، خاصة على صعيد الحريات العامة فهي ليست بلدانا مثالية وكذلك قادتها ليسوا بمعصومين، ولكنها على الأقل دول لديها رؤىً للمستقبل ولديها مؤسسات هي في طور النمو، وقوانين قد لا تكون على مستوى طموحات كل الناس، ولكنها تطبق دون مداخلات من زعيم سياسي من هنا أو مرجع ديني أو حزبي من هناك ، ولا تقوم قائمة أي قبيلة أو عشيرة إذا ما أتخذ أي إجراء قانوني ضد أحد منتسبيها ، وهو ما نفتقده عندنا في لبنان – مع إختلاف الظروف التي لا تبرر هذا التسيب – حيث لا دولة مؤسسات لدينا بل مهارات فردية، ربما كعادة اللبناني الناجح فرديا الفاشل في العمل الجماعي، حيث لدينا ساسة وليس لدينا مؤسسات سياسية حقيقية، سواء رسمية أو حزبية أو شعبية، تعمل بصورة صحيحة وفق خطط واضحة تخضع للرقابة ومن ثم المحاسبة ، لدينا قضاة من الأحرار وليس لدينا اي قضاء حر ، لدينا رجال أعمال ناجحون وليس لدينا اي إقتصاد ناجح ، لدينا أطباء مهرة وليس لدينا سياسة صحية سليمة، لدينا معلمون وأساتذة جامعات، وليس لدينا سياسة تربوية وتعليمية حديثة، حتى الحياة الديمقراطية التي لطالما تغنينا بها لم تعد موجودة، وهنا يحضرني قول سديد للرئيس سليم الحص يقول فيه “بأننا في لبنان لدينا الكثير من الحرية والقليل من الديمقراطية”.

نقول هذا لا تطبيلا ولا تزكية لأي نظام أو بلد ولكنها على الأقل دول لديها رؤىً للمستقبل ولديها مؤسسات هي في طور النمو


بإختصار نحن دولة غير طبيعية ومختلفة عن بقية دول العالم، لهذا ربما نرى العالم بغالبيته أدار ظهره لنا، حتى الأقربون منهم ملوا من تذاكينا وتشاطرنا عليهم وعلى بعضنا البعض. لهذا كله بات اللبناني العادي المغلوب على أمره من سلطة مافياوية مجرمة، بات ينظر إلى الدول الأخرى نظرة، لا نقول أنها حسد، بل قد تكون غيرة مشروعة يشوبها حسرة وألم ورغبة، في العودة ببلده إلى سابق عهده من الرقي والإزدهار، بحيث تعود بيروت عروس المتوسط بعد أن حولوها مدينة ل ” دنيترات الأمونيوم”، التي إنفجرت بها فشوهتها وقتلت أبناءها وشردتهم، واليوم يقفون حجر عثرة في طريق محاولة كشف الحقيقة، حقيقة من إستورد وخزَّن وسهَّل وغطّى، عبر مفردات جديدة أضافوها على قاموس “السياسة” في لبنان، كمثل ” القبع ” الذي هو على ما يبدو يمثل أعلى درجات القمع، الذي يحاولون عبره تغيير وجه بيروت ودورها، وإعادتها إلى ما قبل إتفاق الطائف، كمدينة أنفاق وخنادق ومتاريس فحسب، تحتمي خلفها أجندات سياسية غريبة عنها وعن تاريخها العربي، مدينة أين منها ما يسمى ” مدن الملح والزجاج “، التي تقاسمت أدوارها – وهذا حق لها – ما دمنا تخلينا وتخلفنا عن دورنا في السباق نحو حاضر زاهر ومستقبل أكثر تقدما وإزدهارا.

لا سلاح لدينا سوى الأمل ومن ثم العمل وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل وإن غدا لناظره قريب

ترى هل نطمع بإستعادة الوعي في الإستحقاق الإنتخابي القادم – على سوء قانونه وسوء إداراته في ظل السلطة القائمة – أم هي مجرد أحلام لا رصيد لها على أرض الواقع في الوقت الحاضر على الأقل؟ على أمل عودة الوعي، فلا سلاح لدينا سوى الأمل ومن ثم العمل، وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل، وإن غدا لناظره قريب .

السابق
حسن فحص يكتب لـ«جنوبية»: الانتخابات العراقية..«العين» على رئاستي الوزراء والبرلمان!
التالي
تسريب صوتي عن البيطار.. ما علاقة ادمون ساسين؟!