وجيه قانصو يكتب لـ «جنوبية»: باسيل «سرّ» نصرالله !

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته الإلكترونية.

لا شيء في كلام جبران باسيل الأخير يحاكي الواقع، أو يقدم مقترحات لوضع الأزمة اللبنانية على سكة الحل. كل ما فعله هو أنه يكرر سلوكاً لا يجيد سواه، هو سلوك التصلب في المواقف، ورفع السقف إلى أقصاه لتحقيق مطلب أو تعزيز موقع. هو سلوك كان يفيده في وضعية استقرار اقتصادي ومعيشي، مثلما حصل مع عمه الرئيس، حين أبقى كرسي الرئاسة الأولى شاغرة لسنتين. أما في حال الإنهيار الشامل، فلا معنى للاحتفاظ بمكاسب قائمة أو انتزاع اعتراف بمكانة ودور معينيين. فالإنهيار يجرف معه كل شيء، والسقوط يقوض مرتكزات أية قوة، ويقطع مجرى أية لعبة ويُخل بدقة أي توازن.

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: آن أوان استعادة الشرعية الساقطة!

ما يعنينا في كلام باسيل، ليس صولاته المراهقة وسجالاته الصبيانية وبطولاته المصطنعة، بل فيما لم يقله ولم يصرح به، لكنه كامن في منطق كلامه وسياق عباراته. هما منطق وسياق يفصحان عن قواعد لعبة جديدة للحياة السياسية في لبنان، ومسار قادم تُعِدُّ له القوى السياسية الحاكمة، ومآل بات حتمياً لمصير الكيان اللبناني وصيغة نظامه.

الإنهيار يجرف معه كل شيء والسقوط يقوض مرتكزات أية قوة ويقطع مجرى أية لعبة ويُخل بدقة أي توازن

أصبح جلياً أن مشروع الرئيس ميشال عون وتياره ، هو استمرار لحرب تحريره القديمة، التي كان تقويض اتفاق الطائف أهم أغراضها. هي حملة لا يحققها عون بالدعوة إلى تعديل دستور الطائف، أو تأسيس دستور بديل عنه، بل يحققها بترسيخ عرف سياسي، يكون بمثابة دستور رديف غير منصوص عليه، تعكسه وتغطيه موازين القوى المتنفذة على الأرض، وفي مقدمها حزب الله، أي عرف الغلبة والقهر لا عرف التوافق والإجماع الوطنيين.

أصبح جلياً أن مشروع عون وتياره هو استمرار لحرب تحريره القديمة، التي كان تقويض اتفاق الطائف أهم أغراضه

هذا يفسر سلوك الرئيس عون في ممارسة دور صلاحيات شبه مطلقة، سواء في طريقة دعوته إلى استشارات نيابية لتكليف رئيس الحكومة، أو حرصه على الإمساك الكامل بقرار الحكومة، أو الحلول مكان المجلس النيابي والمجلس الدستوري في تفسير القوانين، أو رفض أكثر المراسيم والقوانين التي لا تنسجم مع شبكة المصالح والنفوذ التي أنشأها داخل مؤسسات الدولة.

هذا يفسر أيضاً اعتبار حزب الله ضرورة استراتيجية لعون وتياره في الوقت الحاضر، لا ضرورة ود ومودة بل ضرورة حاجة متبادلة، تُرجِمت باستنجاد باسيل بأمين عام الحزب السيد حسن نصر الله لتأمين وحفظ حقوق المسيحيين. فعون الذي يعاني من عزلة دولية إضافة إلى ضغط دولي خانق، وباسيل الذي خسر أكثر أرصدته الشعبية وبات مكروهاً ومحتقراً لدى أكثر المحافل الدولية، أصبحا (أي عون وباسيل) أكثر تمسكاً بالخيار الإيراني، الذي يمثله حزب الله في لبنان، بحكم أنه الخيار الوحيد المتاح أمامهما، بعد أن أحرقا سفن النجاة مع العالم العربي، ووضعا أنفسهما في مواجهة العالم الغربي بأسره، بخاصة فرنسا الراعي التقليدي لمسيحيي لبنان.

استعانة باسيل بنصر الله لضمان حقوق المسيحيين ليس استنجاداً أو استجداءً بل هو تذكير بمقتضيات تفاهم مار مخايل

هذا يعني أن استعانة باسيل بنصر الله لضمان حقوق المسيحيين، ليس استنجاداً أو استجداءً، بل هو تذكير بمقتضيات تفاهم كنيسة مار مخايل وتفسير راهن له في آن، الذي قوامه العميق: وضع سيادة لبنان الخارجية بيد حزب الله، أي تموضع لبنان الإقليمي والدولي وقراري الحرب والسلم فيه، مقابل سيادة عونية على مقدرات الدولة ومؤسساتها. هو تفاهم ما زال حاجة لحزب الله أيضاً، بحكم امتعاض وحتى نقمة عارمة للمزاج السني ضد سلاح الحزب، إضافة إلى تصاعد وتنامي النفور المسيحي من هذا السلاح أيضاً، ما يجعل باسيل الخيار المستقبلي الأفضل للحزب، في فك عزلة الحزب محلياً وتأمين الشرعية السياسية لسلاحه دولياً، عبر تأمين غطاء مسيحي يضاف إلى غطائه الشيعي، وتأمين أكثرية نيابية شيعية-مسيحية للتحكم بمجريات القرار السياسي الداخلي.

لذلك تُفهم استعانة باسيل بنصر الله، دعوة منه للحزب إلى احياء وتجديد تفاهم مار مخايل عبره، وتُفهم أيضاً ابتزاز للحزب، وتذكيره بأنه وتياره ما زالا حاجة استراتيجية للحزب تفوق بكثير حاجة الحزب الاستراتيجية إلى حليفه اللدود الرئيس نبيه بري، بخاصة وأن الحزب بات المرجعية الحصرية، في تحديد الأوزان الشعبية والتمثيلية والسياسية داخل الطائفة الشيعية، ما يجعل الحزب صاحب اليد العليا إزاء حليفه الشيعي، بخلاف حليفه الماروني.

تذكر استعانة باسيل بنصر الله بأنه وتياره ما زالا حاجة استراتيجية للحزب تفوق بكثير حاجة الحزب الاستراتيجية إلى حليفه اللدود بري

هي معادلة تضع الحزب أمام نقائض يعرف كيف يوفق بينها، بعد أن جمع في إرثه السياسي الطويل: تقية إيرانية تعتمد النفس الطويل لتحقيق أغراضها، ودهاء أسدي-سوري، أتقن التعامل مع التناقضات اللبنانية وتفنن في تعميقها وتجذيرها، بعدما اكتشف هشاشة المكونات اللبنانية، وضحالة وتدني أخلاقية قياداته السياسية.

يتم ترسيخ ما كان نصر الله يلمح إليه وهو الربط المحكم بين السلم الأهلي وبقاء سلاح الحزب

جديد باسيل، أنه أخرج ما كان مضمراً إلى العَلَن. إذ ترمز دعوته نصرَ الله إلى حماية حقوق المسيحيين، إما اعتراف من باسيل أو عرض مُغر منه للحزب، برفع مستوى الاعتراف بدور الحزب في لبنان، من مجرد الوصاية على السيادة الخارجية للبنان إلى الوصاية على سلمه الأهلي، مقابل تعويم سياسي لباسيل يضمن وصوله إلى رئاسة الجمهورية. وفي حالتي الاعتراف والعرض المغري من باسيل، يتم ترسيخ وتأكيد ما كان حسن نصر الله يلمح إليه ويؤكده وحتى يطمح إليه، وهو الربط المحكم بين السلم الأهلي وبقاء سلاح الحزب، ليصبح السلاح بذلك ضرورة اجتماعية وضرورة سيادية معاً، أي ضرورة كيانية للبنان.

السابق
«لن نسكت هدرا».. أهالي شهداء المرفأ يحذرون: فترة السماح إنتهت!
التالي
بالصور: نفاد المازوت من مولدات وزارة الخارجية.. وهذا ما جرى!