في مواجهة طيور الظلام.. لقمان سليم شاهدا وشهيدا!

لقمان سليم

في بداية ثمانينات القرن الماضي وقع نظري في مجلة ” الوطن العربي ” التي كانت تصدر من باريس، على مقابلة مع محامي لبناني لامع كانت إن لم تخني الذاكرة بمناسبة نيله جائزة في فرنسا عن تاريخه ونشاطه في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان وسعيه لنشر مفاهيمها في بلده ومنطقته . كان هذا المحامي هو محسن سليم الذي عرفت عنه من سياق المقابلة بأنه نائب سابق في لبنان وسياسي وناشط قديم في مجال حقوق الإنسان .

اقرأ أيضاً: إلى قتلة أحلامنا: لكم رصاصكم ولنا أقلامنا!

يومها أعجبت بشخصية هذا المحامي وثقافته وكنت لم أزل في بداية العشرينات من عمري ، سيما وأن المقابلة معه تزامنت مع إغتيالات كثيرة طالت العديد من الشخصيات اللبنانية يومها بدءاً بنقيب الصحافة رياض طه وصولا إلى الكثير من المفكرين والصحفيين المتعددي الإنتماءات السياسية، وإن كان الكثيرين منهم من اليساريين والقوميين على وجه الخصوص، بنتيجة الصراع الداخلي الإيراني بعد ” الثورة ” وبداية دخولها لبنان من جهة ونتيجة الصراع الإيراني – العراقي على خلفية الحرب العراقية – الإيرانية ودور النظام السوري أيضاً الذي لا يخفى على أحد .

يومها كتبت مقالة صغيرة نوهت بها بهذا الرجل الكبير ولم أكن أعلم أنه سيكون لي الحظ أن أقابله شخصيا حتى كان العام 1989 ، يومها كانت مدينة ياموسوكرو العاصمة السياسية والإدارية لدولة ساحل العاج حيث أعيش ، كانت تحتضن مؤتمرا بعنوان ” السلام في ضمير الإنسان”، بمناسبة إفتتاح وتسليم مؤسسة فيليكس هوفويه بوانيي من أجل السلام التي أسسها يومها الرئيس الأول لساحل العاج وباني نهضتها – تسليمها للأونيسكو لتتولى إدارتها بهدف تعميم ثقافة السلام التي كان الرئيس الراحل مهتما بها ودائم الدعوة إليها .

سليم بحفظه وجمعه للذاكرة اللبنانية هو شاهد على إرتكاباتهم وجرائمهم منذ بداية الحرب الأهلية وحتى اليوم

كنت يومها في بهو الفندق الوحيد في المدينة وهو ” أوتيل بريزيدان ” مع بعض الأصدقاء حيث كان يعج بالشخصيات المشاركة في المؤتمر وكذلك الصحافيين عندما لفت نظري إنسان وقور رأيت فيه صورة الأستاذ محسن سليم، الذي لم تغب صورته عن ذهني منذ المقابلة التي قرأتها عنه قبل سنين قليلة . تقدمت منه وكان في طريقه نحو المصعد للصعود إلى غرفته، وعندما وصلت بقربه كان قد ضغط زر المصعد وينتظر، ألقيت التحية عليه وسألته إن كان هو فعلا الأستاذ محسن سليم فأكد لي ذلك، مع إبتسامة رقيقة ودهشة ممزوجة بفرح بادٍ لوجود شخص لبناني في هذه المدينة ، عرفته بنفسي وبأصدقائي الذين كانوا قد وصلوا بقربنا وحدثته عن إعجابي بشخصيته وعن كتابتي مقالة صغيرة تنويها به وبأفكاره وثقافته في مجلة ” الوطن العربي”، وطلبت منه موعدا للقاء إذا كان هناك من إمكانية للحديث معه وسط زحام المؤتمر ، فرحَب بل أصرَّ أن يكون اللقاء في الحال هو الذي كان يستعد للصعود إلى غرفته للراحة في لفتة كريمة ومتواضعة منه حازت إعجابنا جميعا كشباب في العشرينات من العمر، وكانت جلسة طيبة وحديثا شيقا وزادا لنا من المعرفة في السياسة والتاريخ والأدب بلغة أنيقة وتواضع جم ومحبة وكأنه يتحدث مع أبناء له ، وكان حريصا على أن يسمع منا عن أحوالنا في ساحل العاج وعن المهن التي نعمل بها وعن عائلاتنا ومدى تأقلمنا وإندماجنا في مجتمع البلد المضيف . 

 قبلها ومن خلال متابعتي الدائمة لمجلة ” الوطن العربي ” كان قد لفت نظري العديد من الكتاب اللبنانيين والعرب فيها أمثال الأستاذ شربل داغر والأستاذ طلال طعمة والكاتبة رفيف فتوح من اللبنانيين، والأستاذ الراحل غالي شكري وأمير إسكندر ورسام الكاريكاتير جورج البهجوري وغيرهم من المصريين ، من بين اللبنانيين أيضاً كانت كاتبة وصحفية إسمها رشا الأمير ، تكتب بلغة وأسلوب رشيقين وتجلى ذلك في مقابلاتها الثقافية القيمة ، تابعتها لأكتشف بعد فترة أنها إبنة الأستاذ محسن سليم . 

جريمة ضد الفكر الإنساني الحر

في عصر الفيسبوك ولدى دخولي هذا العالم متأخرا نسبيا وكان في العام 2014 على ما أعتقد ، كان من بين الأصدقاء الذين تعرفت عليهم صديق إسمه لقمان سليم ، أعجبت بكتاباته التي تندرج في سياق السهل الممتنع بلغة مختصرة مفيدة وبليغة ، إلى أن كان يوم كتب لي على المسنجر معلقاً تعليقاً رقيقاً على أحد منشوراتي، فوجدتها مناسبة لأسأله إن كان قريباً للراحل محسن سليم فأخبرني بأنه والده، فحكيت له عن لقائي به في ساحل العاج ، وأعربت له عن سعادتي بمعرفته فكان أن ترك لي رقمه الشخصي وتواعدنا على اللقاء متى سنحت الظروف لدى وجودي في لبنان ، وهو اللقاء الذي عاكسته ظروفي الشخصية أحياناً مع الإعتراف ببعض التقصير من ناحيتي أدى إلى  تأجيل اللقاء أحياناً أخرى رغم إستمرار التواصل عبر المسنجر ، إذ لم أكن أتوقع بأن يصل الأمر بطيور الظلام الذين تزعجهم نورانية الفكر الذي يحمله طائر الحرية لقمان سليم هذا الإنسان الراقي ، إلى الإنقضاض عليه بهذه الطريقة البشعة في جريمة موصوفة هي أكبر من أن توصف بالجريمة السياسية.

لقمان سليم لم يكن سياسياً بالمعنى التقليدي للكلمة ولا هو رئيس حزب أو حركة سياسية كي يكون إغتياله من ضمن الصراع السياسي

فلقمان سليم لم يكن سياسياً بالمعنى التقليدي للكلمة ولا هو رئيس حزب أو تنظيم أو حركة سياسية كي يكون إغتياله من ضمن الصراع السياسي – على إعتبار أن البعض يعتقد بأن الإغتيال يدخل ضمن نطاق الصراع السياسي – فهو قارب السياسة من باب الفكر الإنساني في محاولة منه لجعل الواقع أكثر جمالاً وإنسانية ، لذلك هي تعتبر جريمة ضد الفكر الإنساني الحر وهي بهذا المعنى تظهر مدى هشاشة الفكر الذي يحمله قتلة لقمان سليم، وضعف منطقهم الذي أدى بهم إلى الغدر به حتى وهو بين أيديهم، إذ إغتالوه بالرصاص في رأسه وظهره في دلالة واضحة على جبنهم وخستهم وضحالة تفكيرهم ونفسيتهم المريضة المجرمة . 

لم يتوقف لقمان سليم عن مدَّنا بنماذج ودروس في الإنسانية والرقي والفكر النبيل المترفع عن سخافات الحياة ودناءتها

الحزن النبيل الصادق

المفاجأة والمفارقة أنه حتى في غيابه لم يتوقف لقمان سليم عن مدَّنا بنماذج ودروس في الإنسانية والرقي والفكر النبيل المترفع عن سخافات الحياة ودناءتها ، هذه المرة عبر والدته السيدة الرائعة سلمى مرشاق سليم ، وكذلك شقيقته رشا الأمير ورفيقة دربه مونيكا بورغمان ، اللواتي أظهرن سمواً ونبلاً وإصراراً وعزيمة رغم الخسارة التي ألمت بهن على المستوى الشخصي ، فكان الحزن النبيل الصادق بأروع صوره وتجلياته المتأتية من فكر متنور صافٍ وواضح في خياراته ، وإيمان لا يتزعزع بالمبادئ التي يحملها هذا الفكر الإنساني الذي لا تعكر صفوه نوازع الشر الكامنة في النفس البشرية عبر السمو والقدرة على الفصل بين الشخصي والعام ، وهي ميزة لا يقدر عليها الكثير من البشر، وكما يقال إذا عرف السبب بطل العجب ، فلا عجب بعد اليوم من أن لقمان سليم كان على هذه الدرجة من الرقي والإنسانية والشجاعة في طرحه للأمور بصراحة وشفافية ، فمن تربى في بيت كريم عماده محسن سليم وسلمى مرشاق لا يمكن إلا أن يكون على شاكلة لقمان ورشا – أطال الله في عمرها – في حمل المبادئ ، هذه المبادئ التي ترجمها وجسدها في نشاطاته سواء في مركز ” أمم ” للأبحاث والتوثيق عبر حفظ الذاكرة من التخريب والتضليل، أو في جمعية ” هيا بنا ” أو في أفلامه مع رفيقة دربه التي تناول فيها قضايا الناس المضطهدين من شهداء قضوا في المجازر أو لاجئين ومعتقلين من ضحايا النزاعات والحروب في منطقتنا حيث أبرز معاناتهم ومآسيهم .

من تربى في بيت كريم عماده محسن سليم وسلمى مرشاق لا يمكن إلا أن يكون على شاكلة لقمان ورشا

من هنا لم يكن مستغرباً وإن كان مستهجناً رد فعل السلطة الباهت بجميع أطيافها على عملية الإغتيال، وكأنها حصلت في بلد آخر وكأن المقصود بها ليس لبنانياً له على دولته حق الحماية، خاصة وأنه كان قد تعرض للتهديد العلني والصريح وكان قد أصدر بياناً إتهامياً واضحا أواخر العام 2019 ، نقول ليس مستغربا على إعتبار غالبية مكونات السلطة هم من أصحاب الماضي الأسود في الحرب وبهذا المعنى يكون لقمان سليم بحفظه وجمعه للذاكرة اللبنانية هو شاهد على إرتكاباتهم وجرائمهم منذ بداية الحرب الأهلية عام 1975 وحتى اليوم ، ولذلك فهي تمثل سلطة فاشية مجرمة خاصة في هذا العهد ورعاته ، في مقابل إنسانية ورقي وتحرر لقمان سليم الذي بات اليوم بحق شاهداً وشهيدا.            

السابق
السفيرة الأميركية بحثت مع نجم قضية اغتيال سليم: لمحاسبة المتورطين دون أي تأخير!
التالي
Lokman Slim Revealed the Role of Hezbollah and the Syrian Regime in the Beirut Port Explosion a Few Weeks Before His Assassination!