الإشكالية المنهجية للتطبيق الفقهي (إيران مثلاً)

قد نضيع الكثير من الجهد في التركيز على المسائل الفرعية في تجربة الدولة الإسلامية في إيران، فيما يعود إلى ما أنجزته أو لم تنجزه، وإشكاليات المنجز وغير المنجز، في مجال التكييف الفقهي الإسلامي لشؤون الدولة والاجتماع الإيراني، في التنظيم والإدارة والاقتصاد وحياة وحركة المجتمع الأهلي، والأفضل أن تنصب جهودنا على البحث في إشكالية أعمق، لا تخص إيران وحدها، ولا تلغي خصوصيتها الأشد تركيباً في السياق الإشكالي نفسه الذي دخلت فيه دول ومجتمعات أخرى، وصلت في تجربتها القديمة نسبياً أو الحديثة نسبياً، إلى انفجار الأزمة بين الدولة والأيديولوجيا، وانعكس هذا الانفجار تشظياً اجتماعياً شاملاً، كما في تجربة المنظومة الاشتراكية عموماً وروسيا خصوصاً، بينما في حالة كحالة إسرائيل بقي الانفجار منتظراً في السلم كما في الحرب، ومن هنا الكلام الدائر حول تجديد الصهيونية وما بعد الصهيونية.

اقرأ أيضاً: إيران إسرائيل من دمشق هناك مفاتيح للأبواب

الثورة السوبرنيطيقية

هذا لا يعني أن الدول والمجتمعات المتخففة من المحمول الأيديولوجي الشمولي، هي في معزل عن إشكالات هذا المفصل، ومنذ تكلم بريجنسكي في “الثورة السوبرنيطيقية” عن شمولية الحضارة الرأسمالية في صيغتها الأميركية، لم يضع الشعوب والدول الأخرى وحدها امام مخاطر هذه الشمولية، بل وكشف أن التمايز الأميركي هو نسبي ، ونسبته العالية من شأنها أن تؤجل، بموجب الحريات المتوفرة فيه، على التباساتها الكثيرة، مسألة الانفجار عن طريق استهلاك الأسئلة أحياناً وتأجيل الإجابة عنها أحياناً أخرى، أي بإدارة أطول نفساً للأزمة.

والسؤال: هل استطاعت إيران أن تثبت أنها استثناء منقطع ونوعي عن الحالة العالمية؟ لا شك أن هناك ملامح استثنائية في تكوين المجتمع الإيراني تتصل بذاكرته وأصله السلالي وشرقيته ووجدانه وإسلامه وتشيّعه وموقعه الجغرافي وتعدده وحيوياته وثنويته التي تحولت مع الإسلام الى ظاهر وباطن بعدما دخلت في حزمة المورثات، وكل ذلك يمكن أن يكون مؤهلاً لإدخال الشعب الإيراني في تجربة حداثة مميزة تقدم لشعوب المنطقة أمثولة، كالأمثولة التي قدمتها اليابان ودول “آسيان” في التنمية الشاملة التي لا تقطع مع مكونات وذاكرة شعوبها وهويتها المركبة، ومن دون الدخول في حالة من التقابل الحاد مع الغرب، ما أثار حفيظة أميركا ودفعها إلى بذل جهود محمومة من أجل قطع هذه الطريق الخاصة نحو الحداثة، من دون أن يكون هناك احتمال بإمكان إلغاء كل مفاعيل هذه التجربة واحتمالات ترميمها وتجديدها والبناء عليها في ماليزيا ذاتها وفي مناطق أخرى.

إن “آسيان” تجاوزت احتمال التحدي في خيار الحداثة التي تحفظ الخصوصية، بأن اقتصرت على استحضار الإسلام مثلاً في أندونيسيا وماليزيا  كإيمان وثقافة عامة، لا كمشروع دولة يقوم على نظرية فقهية مكتملة.. هنا تنهض إيران مميزة بخصوصيتها ، المتأتية من كون إسلامها قد قام على معادل علمي متنوع ، من شأنه أن يضفي على أي عملية تنموية حداثية طابعاً شاملاً يصل ما انقطع في التجارب الأخرى بين المكونات والأحلام والوقائع.

القبض على السلطة

ولأن المستوى الفقهي هو الأبرز والأكبر دلالة على الاحتفاء بالإسلام كمشروع حضاري بقدر ما هو ضروري للقبض على السلطة والاستمرار فيها وحمايتها من المساءلة على أساس الولاء والطاعة، أصرت إيران على أن تكون علامة حداثتها في التكييف الفقهي لشؤونها كافة، ما كان يقتضي إعادة نظر في المباني وقراءة متأنية للمستجدات المعرفية والحياتية، لإقامة الوصلة المنهجية بين العلوم الدينية والحقول المعرفية الأخرى، بهدف تحويل الوعي الفقهي إلى وعي مفتوح على الوقائع والأفكار والمقاصد والأسئلة، من دون إهمال الجرعة الأيديولوجية في الأطروحة، والتي كان الاستبعاد التاريخي الذي تعاظم مع الربع الأول من القرن الحالي، بعد الغلبة الغربية وهيمنة الغرب على مشروعات الدولة الوطنية، من أهم أسباب ترسخها لا تأسيسها واستحواذها – أي الأيديولوجيا – على العقل الإسلامي، وقد كان بإمكان إيران التي استراحت في ظل ثورتها ودولتها ، ومن خلال تلك الوصلة المنهجية، أن تطور العقل العقائدي والكلامي. بحيث يصبح من خلال الاجتهاد، أقل تكرارية وسكونية وهيمنة على الفقه وأصوله، وأقل إعاقة للفقه في نزوعه المنهجي للاتصال بالواقع المتحرك، من خلال تحرير أصوله كعلم طريقي، من فكرويته أو تجريديته التي جعلت الفكرة فيه تولد من الفكرة ولادة ذاتية غير محدودة بحد أو غاية، ما أبعده عن لغة الحياة وحوّله إلى إبهامات وغوامض والتباسات علمية متفرعة على مفردات ومسائل الفلسفة اليونانية – أرسطو خصوصاً أو حصراً، بعد ما شهد تاريخ المعرفة والفلسفة، جهداً مشكوراً لعلماء المسلمين والفقهاء والأصوليين منهم خاصة، في نقض أرسطو أو تفنيده أو تصويبه. ولا أحد من أهل الاختصاص ينكر على علماء المسلمين الإيرانيين اتقانهم للتجويد الأصولي، خاصة بعد صدر الدين الشيرازي الذي أفسح المجال بجاذبيته وأغرى العلماء بتفريع الكثير الكثير من المسائل الأصولية على فلسفته. ويعزو بعض النقاد ذلك إلى حداثة تشيع إيران (القرن السادس عشر) وعدم انبناء ذوقها الفقهي على تراكم ذي خصوصية شيعية، ما ألجأ العلماء إلى التعويض عن الفقه بالأصول، الأكثر قابلية على الالتباس أو الاشتباه أو التداخل في الفلسفة بعدما أخذوا قراراً سياسياً بهجران المنظومة الفكرية والفقهية السنية في مواجهة الدولة العثمانية الأقوى والتي كان التشيع وسيلة للاستعصاء الشيعي الصفوي الأقلوي على الالتحاق بها .

إن هذه الأثقال المنهجية، أو التركة الكبيرة من الفراغات والانقطاعات تقتضي التركيز والتدقيق في عمومياتها بغية تأهيل المقتنى الفقهي للتداول العصري أي تسييل الاحتياطي الذهبي إذا صح التعبير، من خلال جهد علمي يطل على السياسة ويستفيد مها من دون أن يغرق فيها. ومن هنا فإنها صعبة المراهنة في إيران على غلبة خط سياسي على آخر، تحت العنوان الاختزالي الحاد (الإصلاح والمحافظة) لأن التحدي يتجاوز الفوارق القائمة في المشهد الانقسامي السياسي المحض ويتعداه إلى الثقافة المؤسسة والثقافة المجتمعية البينية.

علامات قليلة

وعلى هذا فإننا لا نظلم التجربة الإيرانية، على الرغم من الجهد المبذول والشوق والرغبة شبه المعطلة بإعطاء الأولوية للسياسي على العلمي، عندما نصارح بأن العلامات الدالة على النجاح في التكييف الفقهي لشؤون الدولة ومؤسساتها والمجتمع وقضاياه، هي علامات قليلة، ونرى أن هناك مراوحة ومداومة على التجريب في مختلف الحقول، من الجامعة إلى الجماعة، ومن الاقتصاد إلى الاجتماع، ينعكس قلقاً في التردد الدائم النظري والمسلكي، بين الليبرالية والتوجيه، بين الشورى والديموقراطية وولاية الفقيه. مثالاً لا حصراً. ولأن الأطروحة غير ناجزة أو جاهزة، فإن إنجازها كان يقتضي تحرير حركة الاجتهاد من الفردانية والمزاج الشخصي، لأن الفرادة المنشودة لا تتم إلا من خلال الارتقاء بالاجتهاد إلى فضائه الجمعي الذي يضفر الآراء المختلفة والمعترفة ببعضها بعضاً في نظام منهجي يحرره من الهموم الشخصية التي تميل إلى النقض والتكرار والتجريد.

وفي المحصلة فإن تراجع الغائية عن حركة الفقه والفقهاء في الحوزات العلمية وعدم التكامل مع المعارف غير التقليدية، حتى في المجال القانوني الوضعي، الذي لم يعد سائغاً منهجياً أطراحه كلياً بحجة أنه أرضي وبشري ودنيوي صرف، وأن فقهنا أخروي وسماوي لأننا نحن الفقهاء لسنا سماويين في قراءتنا للنصوص والقواعد وتطبيقها ولا في تعمير المباني.. وتراجع هذه الغائية جعلنا ماضويين أكثر من اللازم، وجعل حالتنا العلمية قارة ساكنة غير مسكونة بقلق المعرفة المواكبة والأسئلة المتراكمة.. بينما الواقع متحرك والوعي العام يواكبه ويستشرف مآلاته واحتمالاته.. ويتوقع المستقبليون من دون مجافاة للماضي، أما الماضويون فقدريون يتعاملون مع المسألة بعد اكتمال بنيانها وصورتها ورسوخ إشكاليتها وتحولها إلى واقع منتشر ويومي.

إلى ذلك كله، فإن المشهد الإيراني اليومي هو مشهد إسلامي ولكن المتحقق من إسلامية هذا المشهدِ، أحد  أهم أسبابه الالتزام الشعبي التاريخي بمقتضيات الإيمان والعبادات والطقوس والعادات، والثورة أو الدولة أمنت لذلك كله نصاباً من الحرية مع خوف شديد من عودتها إلى انتقاص الحرية ومحاصرة المشهد، فمكنت له أن يكوّن المشهد أو يحتله، ولكن ذلك لا يخفي ما في خلفية هذا المشهد من قلق جعل بعضهم يرى وكأننا مكلفون بالعمل على ترسيخ الإيمان العام والأصلي بصرف النظر عن مظاهره وتعبيراته، صيانة له من أن يجتاحه الشك، وهذا الأمر يتصل فيما يتصل به من أمور، بالأزمة القائمة بين الدولة والمجتمع وموقع الفرد على اللوحة، وبينها وبين الأيديولوجيا كذلك، ومن هنا يأتي خوف الكثيرين من أن نصير في العالم الإسلامي عموماً وفي إيران خصوصاً، إلى حالة تشبه البروتستانتية، تسقط الكثير من المحددات، ومن الضروريات الدينية، وتشترط الإيمان العام والجواني، من دون أن تشترط عليه شيئاً آخر، لا في العبادات ولا في المعاملات!!! ترجيحاً لأولوية الإيمان على الدين إذا ما أصبح الخطر محيطاً بالإيمان بسبب التشدد أو الفوضى في الممارسة الدينية.

المستوى الفقهي هو الأبرز والأكبر دلالة على الاحتفاء بالإسلام كمشروع حضاري بقدر ما هو ضروري للقبض على السلطة والاستمرار فيها وحمايتها من المساءلة على أساس الولاء والطاعة

هذا في الوقت نفسه الذي يتسع فيه ويتسارع نمو التيار النازع إلى الغلو لدى المصعوقين بالتحديات، وهو غلو يؤسس لعنف ذاتي وخارجي، وتصبح معه الشريعةخياراً مزاجياً لا مثال له ولا قاعدة، ويلحق الحكم الشرعي بالفعل يسوّغه وإن كان لا يسوّغ، ولا تعود الجماعة مضطرة للاسترشاد بالدين، لأنها تأخذ على نفسها أن تنتج دينها الموازي على مزاجها وحساسيتها!

هذا ولو كنا في إيران قد اجترحنا إنجازاً كبيراً ومميزاً، لما بقيت الأسئلة تلد الأسئلة من دون أن تلوح في الأفق ملامح واضحة لأجوبة شافية، على أن الأسئلة هي أسئلة جماعية، مصيرية ومركبة فلا يجوز أن يكون الجواب فردانياً وسهلاً، لأنه لن يكون جواباً. بل يكون مثالاً للشك والتطرف والعنف.

التجربة الإيرانية

في النهاية، فإن لمتابع أن يقول: إن التدقيق فيما أنجزته التجربة الإيرانية حتى الآن، في السياسة والدولة والاجتماع والتنظيم والإدارة، لا يكشف عن تعديلات إيرانية إسلامية على الأصل الحداثي الغربي، فهل يقع ذلك كله خارج الإسلام عقيدة وشريعة؟ أم أنه يمكن رؤيته بمنظور إسلامي؟ باعتبار أن المشروع الإسلامي في ما يخص مسألة الدولة خصوصاً، هو مشروع مفتوح على كل التجارب.. ما يعني أن بإمكاننا أن نقرأ الدولة الإسلامية في تشكيلاتها المختلفة في التاريخ والمتأثرة حكماً بما حولها من تطورات ومعطيات ومخزونات ثقافية وحضارية.. ونبقى إسلاميين وتبقى قراءتنا إسلامية.. أو أننا ومن موقع المعارضة لا نزال مقيمين على الرفض!!! والثورية!!! وعلى اعتبار كل التجارب التي تحققت خارج إرادتنا أو مشاركتنا تجارب غير شرعية بالمطلق وساقطة جملة وتفصيلاً، ومحبط كل ما فيها من إيجابيات بقيامها على الباطل!!!

أين يقع من وعينا سلوك أئمة أهل البيت(ع) والسلف الصالح مع دول زمانهم؟ وما هي المعايير التي اعتمدوها في تعاطيهم السلبي المحدود أو الإيجابي الواسع مع هذه الدول؟ وكيف كانوا يرتبون أولوياتهم؟

أظن أن هذه المؤشرات والمساءلات يمكن أن تسهم في تدبرنا وتدبيرنا لمرجعيتنا في الفقه السياسي والاجتماعي العام والتنظيمي والإداري، والاقتصادي والتنموي، يمكن أن تؤشر لنا على البداية الجديدة في قراءة نصوصنا وأصولنا ومبانينا، وملء الفجوة التي نتجت عن تمرسنا في المعارضة وغياب وعي الدولة وأسئلتها وإشكالاتها وتحدياتها عن وعينا وهمنا اليومي. وبقائها مغلفة بحافظاتنا النظرية العامة.

اقرأ أيضاً: «إيران… روحاني» لن تستمر داعمة ومغذية لحزب الله في حربه في سورية

في أوائل الثمانينات وقف الشيخ هاشمي رفسنجاني أمام الإمام الخميني يرجوه أن يبادر إلى الحسم في عدد من المسائل الفقهية التي احتدم الجدل حولها بعد تحديات الثورة والدولة ومستلزماتهما الفقهية والعملية، وذلك لأن الفقهاء غير مسبوقين بأمثالها، حسب تعبير رفسنجاني ولا بد من شخص مسلم بفقاهته وشجاعته وقوته ومصداقيته لدى الجميع كالخميني، ليحسم في هذا الشأن لأن غيره لن يقوى عليه، وهو الفرصة التي لا تعوض.

كانت تلك واقعية لا غرور فيها ولا تعسف ولا تتضمن تهمة بقصور الفقه عن التكييف.. ولكن المسألة ليست بالسهولة التي كانت متصورة قبل الابتلاء بالحكم والحرب والتعدد والتحدي. والصراع أو السجال أو الحوار بين الدولة والأيديولوجيا، بين المسبق والمستجد، فيضع الدولة والأيديولوجيا معاً على المحك، ويضعنا على المحك، فهل بإمكاننا أن نغلب الحوار التكاملي على السجال أو الصراع التقابلي؟ هل بإمكاننا أن ندور الزوايا بالاعتدال والتوسط؟ حينئذ نصل إلى امتيازنا المعاصر من دون أن نستهلك امتيازنا التاريخي أو نبدده.

(24/9/1999)

السابق
السعودية تحذر مواطنيها من السفر للبنان.. ما السبب؟!
التالي
بالفيديو: سرقة محل لبيع الخضار في رأس النبع تحت تهديد السلاح!