في ذكراه التاسعة: هاني فحص.. عودة المثقف الثائر الى حمى الوطن!

هاني فحص
علاقة وطيدة جمعت الراحل السيد هاني فحص بإيران، بدأت منذ دراسته العلوم الشرعية في النجف الاشرف في ستينات القرن الفائت، عندما شاءت الأقدار ان يكون أحد اساتذته الامام روح الله الخميني المرجع اللاجىء في العراق هاربا من ظلم نظام الشاه، ثم لتعود هذه العلاقة وتظهر جلية في محطات كثيرة جمعت التلميذ بالاستاذ لاحقا، خصوصا بعد انتصار الثورة الاسلامية عام 1979

في سبعينات القرن الماضي عاد السيد هاني فحص من النجف الاشرف الى جنوب لبنان واستقر في بلدة جبشيت مسقط رأسه، ثم ما لبث ان تحول الى سيّد ثائر بفعل الظلم الخارجي والداخلي الذي تعيشه بلاده، فقد انخرط في الشأن العام، ودعا الى الدفاع عن البلاد في وجه الاعتداءات الاسرائيلية المستمرة، فساهم بفعالية بتحريض الفلاحين على ثورة التبغ الشهيرة عام 1973 من اجل تحصيل حقوقهم المشروعة من الدولة، كما دعا الجنوبيين الى مؤازرة العمل الفدائي المقاوم من أجل تحرير فلسطين، ولما كانت المقاومة الفلسطينية مجسّدة في منظمة التحرير فإنه نشط في الكتيبة الطلابية التي أسسها خليل الوزير (الشهيد أبو جهاد)، وأصبح واحدا من أشرس المدافعين عن وطنه وعن القضية الفلسطينية ثائرا بقلمه وفكره وبندقيته.

النشاط الوطني

كان للقدر وظروفه كلمة الفصل الحاسمة في مسيرة السيد هاني فحص النضالية، فعندما بدأت الثورة الإيرانية، عمل على إنشاء التواصل بين ياسر عرفات والسيد الخميني، وقد زار السيد هاني ومعه صديقه العلامة الراحل السيد محمد حسن الامين، على رأس وفد لبناني، السيد الخميني بمنفاه في باريس عام 1978، وبعد انتصار الثورة الاسلامية بأيام في شباط 1979، رافق ياسر عرفات على نفس الطائرة التي زارت.

الحياة الدينية غير مريحة بسبب السياسة الحزبية وسيطرة حزب الله اولاً وبالشكل الاوسع والأقسى ثم حركة أمل بشكل جزئي، على المساجد والحسينيات وتهميش دور العلماء المستقلين

في العام 1982 سافر إلى إيران مع عائلته وأقام فيها حتى العام 1985، وجمعته علاقات وطيدة بعدد كبير من رجالات الثورة، ومن النخبة السياسية والثقافية والدينية، ثم عاد الى وطنه لبنان، ليعاود ممارسة هوايته في الكتابة والتأليف، وتألق بالتسعينات في كتابة المقالات السياسية والدينية والثقافية في كبريات الصحف والمطبوعات اللبنانية والعربية، منبها في كثير من تلك المقالات الى مخاطر نهضة لبنان بعد الحرب الاهلية التي قادها الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وذلك في غياب نظام سياسي حديث بعيد عن الطائفية وموبقاتها، ناشرا شذرات من تجربته في الدراسة الدينية حيث تكوّنت شخصيته الثقافية المنفتحة في النجف الاشرف بالعراق، وارّخ لمرحلة انخراطه مع المقاومة الفلسطينية وعلاقته بقائدها ياسر عرفات، وغيرها من التجارب القومية والوطنية والمدنية، التي وجد نفسه منجذبا اليها بعد عقود من التفكر والكتابة والتأليف.

خاض في العام 1992 الانتخابات النيابية في لبنان، معترضا على تآلف الاحزاب الطائفية وهيمنها على الحياة العامة، ثم أسس مع سمير فرنجية “المؤتمر الدائم للحوار اللبناني”، وشارك في تأسيس “المؤتمر العربي للحوار الإسلامي المسيحي”، وكذلك من المؤسسين “اللقاء اللبناني للحوار” كما انه عضو في الهيئة الشرعية للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وكان من المقربين للشيخ محمد مهدي شمس الدين.

الوطنية وحال شيعة لبنان

اما عن تجربة السيد الطريفة والعميقة، التي يرويها بقلمه ويشرح كيف استيقظت وطنيته اللبنانية في ايران فقد قال فيها:

“في طهران، استيقظت على وطنية لبنانية استيقاظي على ضرورة حياة ودور، واستيقظت على عروبة انتماء استيقاظي على المعنى والمدى والاصل في مكونات الفرد والجماعة، وكادت عروبتي، هناك، ان تبلغ عتبة العصبية الضارة حيال المشهد الايراني، لولا اني عجّلت باستعادة المسافة الضائعة، متأثرا الى حد الغيرة، بما لمست من وطنية ايرانية، لم يسعفني الدليل في وضعها خارج الاسلام عقيدة وشريعة، وكانت غيرتي شروعا في وعي جديد دشنته بالسؤال: هل كنت في مجافاتي ومفارقتي للوطنية اللبنانية والعروبة بانيا على اصل عقيدي وسيرة متصلة في اسلافي العامليين، أي شيعة جبل عامل اللبناني الذي له حبل سرّة يصله بجليل فلسطين وجولان سورية؟”.

وعن حال الشيعة في لبنان بعد انتصار الثورة الخمينية وتصديرها الى بلادنا وتأثيرها السلبي على الروح الوطنية، عندما جعلت قسما منهم يرتبط طائفيا وعضويا في ايران ولاية الفقيه، يقول السيد هاني: “قد أصبح الشيعة مع حركة أمل وحزب الله وبالدعم الإيراني ومن خلال دخولهم في مؤسسات الدولة، مجلس النواب والوزارة والإدارة ، ومن خلال المقاومة وبريقها، في حالة من الإشباع السياسي ، ما جعل رجال الدين عموماً يتوقفون عن اداء دورهم الاجتماعي، وفقدان قدرتهم بسبب تحزبهم على اداء هذا الدور”.

كتب السيد هاني فحص عشرات الكتب وآلاف المقالات اثناء سفره في رحلة عمره الصاخبة وكان هاجسه في كتاباته الاخيرة، التركيز على حرية الانسان والحفاظ على الدين بعيدا عن شرور السياسة

ويتابع: الحياة الدينية غير مريحة بسبب السياسة الحزبية وسيطرة حزب الله اولاً وبالشكل الاوسع والأقسى ، ثم حركة أمل بشكل جزئي، على المساجد والحسينيات، وتهميش دور العلماء المستقلين ، وتنصيب وعزل أئمة المساجد بقرارات حزبية فوضوية محلية أو مركزية، لذلك أصبحت الحياة الدينية حياة حزبية سياسية بالمعنى الكامل، أي خالية من الروح، وانحسر المصلون العاديون عن المساجد التي أصبحت مكاتب ومنابر للخطاب السياسي الحزبي الخالي من الموعظة والمليء بالتحريض والدعوة الى التعصب والغلو والخرافة، ولم تسلم مجالس التعزية من ذلك، بل أصبحت مجالس حزبية عصبية بامتياز، ما دفع أهل العزاء العاديين من الشباب والكهول وأهل العبادة الى البحث عن مساجد ومجالس عزاء خلفية يمارسون فيها عباداتهم وأحزانهم وحسرتهم على تحوّل الدين الى علم بالأحكام الفرعية من دون ثقافة دينية أو اجتماعية، ومع هذه الحياة المحكومة بالسياسة لا بالقيم، تسود في أوساط الشباب المتدين ظواهر مسلكية يتحدث الناس عنها بخوف شديد من آثارها على أخلاق الشيعة ومستقبلهم”.

كتب السيد هاني فحص عشرات الكتب وآلاف المقالات، في الثورات والدين والسياسة، خلال سفره في رحلة عمره القصيرة الصاخبة، ليعود في كتاباته الاخيرة الى حمى وطنه لبنان، مركزا على حرية الانسان فيه والحفاظ على الدين بعيدا عن شرور السياسة، واعلاء شأن الوطنية كمفهوم جامع بعيدا عن الطائفية والعقائد العابرة للأوطان، التي تخترق وعي شعوبنا وتستشري في بلادنا هذه الايام.

السابق
فاجعة تهزّ الجنوب.. وفاة عائلة ونجاة طفلتهما!
التالي
إنهيار مبنى يهزّ طرابلس ليلاً.. هل من إصابات؟