السيد هاني فحص: يريدنا الحسين البقاء على انحيازنا الى العدل والحرية والوحدة

هاني فحص
أبدع الأديب الراحل السيد هاني فحص في نشر روح التشيّع الصافية النقيّة كما هي دون تعديل، لغايات معيّنة ولا إضافات دعائية مبالغ فيها، كما يجري في عدد كبير من الاندية والمجالس الشعبية، آخذا التشيّع بذلك شكله الواقعي الحقيقي داخل الاسلام، كمذهب لا يميّزه سوى تعلّق افراده بالامامين علي والحسين وبأهل البيت، الذين لا ينكر صفوتهم وقداستهم مسلم على وجه الأرض. وهنا احد النصّوص الأدبية الغنية التي كتبها السيد فحص عام 2013 في موقع لبنان الجديد قبل عام من وفاته، يستشهد في مطلعه وخاتمته بأبيات للشاعر العراقي جواد جميل، ثم يسنح السيّد ويجول بعباراته الرشيقة الحساسة في عالم الحسين كي يعلّم ويُمتع بتذوق حلاوة الكلمة الطيبة البليغة التي تعودت ان تسيل رقراقة من حبر قلمه الندي.

«وجهي ووجهك لون واحد ولنا ظل، فمن أنت؟ هل أنت الذي قُتلا؟

بالأمس أغلقني يأسي وغادرني لوني، فهل جئت ضوءاً تفتح الأملا؟

تركت قلبي عند النهر نورسة ظمأى تشظّى لديها الماء واشتعلا»

رحم الله جدتي التي أخذتني الى الماضي حرصاً على المستقبل، أخذتني الى الحسين الذي تجلى فيه أجمل ما في الماضي الموصول بالرسالة من انحياز الى العدل والحرية والتوحيد، ضماناً للوحدة، والوحدة ضماناً للتوحيد، وإيثاراً للشهادة بالموت صيانة لمعنى الشهادة للحق والحقيقة في الحياة، وكأن الحسين في شهادته ارتقاء من الشهود والشهادة للحق في الحياة الى استشهاد من أجل الحق والحقيقة.

«إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا بَرَما»..

تذهب الى الحسين وتعود الى الأهل، أهلك، ثم لا تلبث أن تعود اليه، ومن كربلائه الى كربلاْءاتنا

وأجمل ما في ماضي الحسين هو الأجمل في مستقبلنا، أي أن نبقى على انحيازنا الى العدل والحرية والوحدة، نبنيها على التوحيد الذي يجمعنا من دون أن يلغي خصائصنا، لأن المعنى المركب أجمل وأبقى وأخصب من المعنى البسيط، هذا اذا أردنا أن نبقى أو نسترجع دورنا أو بعض دورنا في الشراكة الحضارية وتركيب أطروحة ثقافية إيمانية إنسانية، تؤهلنا لأن نعيد التواصل مع ماضينا بتجديد القابل للتجديد وإضافة الضروري وحذف الضار، لنثبت أننا قادرون على الشفاء من مرض الكسل وعادة الاستقالة، وذلك لن يتم لنا بالاستدعاء الخلافي السهل للماضي، بل بالتصدي للأسئلة الصعبة التي يضمرها لنا المستقبل، ولا جواب عليها إلا بالمزيد من المعرفة، ولا مزيد من المعرفة الا بالمزيد من الشراكة، أي بالمزيد من الوحدة، على أساس أن التعدد هو شرط حضاري، والعيب في اطراف المتعدد، عندما يميلون الى التنابذ والإلغاء وتضييق المشترك وتوسيع مساحة التقابل والدفع بالاختلاف الى التناقض والتناحر.

أخذتني جدتي الى الذكرى، ذكرى الحسين، لتساعدني على استشراف الغد، لتغسلني بالحزن الحسيني وتعُدَّني لتنقية ذاكرتي وملء فراغاتها بالصالح والمفيد والجميل…

أخذتني الى الجامع الذي كان يجمعنا، يصالحنا ويصلحنا، وكان من حجر وطين، وله ساحة فيها نخلة، وعلى الساحة خيمة، وعلى الخيمة شجرة كرمة.

كانت النخلة ذكراً لا تثمر فقلنا هذه للشيطان أو يزيد. وكنا نؤذي النخلة بهراواتنا، أما شجرة الكرمة فكانت مثمرة فقلنا هذه للحسين. وكنا اذا ما التقطنا حبة من حبات العنب المتساقطة، نشعر بالدوار والحُمَّى ولا نحسن في اليوم التالي حفظ درسنا وينالنا جزاء المعلم..

إذن فقد ذهبت الى بيت الرسول (ص) في بيت الله، في الجامع الذي كان يجمعنا، ويقينا من الشر والكره والقطيعة، ويمنعنا من سؤال أي قادم الى الصلاة أو مأدبة المجد الحسيني، عن خصوصياته، لأنه آت من العام الإيماني، الى العام الإنساني وكتاب الله الأبلغ، أن يرتقي بالاختلاف الى رتبة الاستدلال به على عظمة المدبر وحكمته، كأن الاختلاف في الكون والطبيعة والانسان والمعرفة، شرط حضاري، من دونه يسود السكون والموت والتكرار القاتل، ويتعطل الحوار الذي به وحده تتحرر المساحات الجامعة بين المختلفين وينضبطون فيما يختلفون فيه.

أيها الأحبة تعالوا ببركة دم الحسين نتصارح لنتصالح ونتصالح لنتصارح لنعيش معاً وننهض معاً ونبلغ معاً رضوان الله

هل يجمعنا الجامع الآن؟ وإذا ما كان الله هو الذي جمعنا في دينه وتوحيده وبيته، فمن ذا الذي يفرقنا؟ عداوة الأعداء وعدوانهم علينا يقتضي اجتماعنا.

لا يمكن اذن أن يكون الله هو الذي يفرقنا، من دون أن يشترط لوحدتنا عدم اختلافنا، بل لعل كوننا مختلفين هو الشرط لتكون الوحدة خيارنا واستحقاقنا وإنجازنا.

من يوم جدتي والجامع وأيام عاشوراء الأولى في حياتي، فهمت ان الدين فضاء للروح والتضامن مع المرض والفقراء والشهود والشهداء والمظلومين والمضطهدين والمحرومين من الخبز والعلم والحرية، من دون توقف عند تفاصيل الهوية. من يومها.. قررت أن أتضامن، أن أذهب الى أحزان الحزانى شريكاً لأعود الى الأفراح شريكاً.

«رأسه الجرح والنزيف رأسه حولكم يمامة تحمل الأرض كالرغيف رأسه حولكم علامة صوت الماء، يقول الصوت: مات لكي ينهي عهد الموت».

كثيرون يذهبون الى الحسين ولا يرجعون.. ما حاجة الحسين إليهم؟ هم أحوج إليه!

تذهب الى الحسين وتعود الى الأهل، أهلك، ثم لا تلبث أن تعود اليه، ومن كربلائه الى كربلاْءاتنا، بكى جاري في المجلس عندما استكمل المعزي مشهد السهم يخترق نحر الرضيع العطشان المتلألئ تحت حبال الشمس، في هجير الطف، وأبوه يستسقي القوم شربة ماء، ويلي على فارس عودي ومحمد الدرّة وحمزة الخطيب وأطفال قانا وغزة وداريا!

سامحت جاري على إساءة كان قد ارتكبها صباحاً في حقي، وتبادلنا الدمع والحب مع الحسين، وطلبت العفو من جاري الآخر على ما أسأت اليه فأوسع لي في عينيه وفي صدره عندما رأى النصال تتكسر على النصال في صدر الحسين. إن مشهد العزاء الحسيني، إذا ما اتسع لكل الحسينيين، كان من شأنه أن يكون شرفة تتسع لنا ولأبنائنا وأحفادنا، نطلّ منها معاً على عدونا، وإذا ما كنا نجتمع في الحسين، وبالحسين، أي في كنف رسول الله حول ريحانته وبعض من بضعته، فإنه هدر لدم الحسين أن نخرج من مجلسه مفترقين فيه أو به أو عليه، أي علينا، لأننا في حاجة الى الحسين، ولا يتوهمن أحدٌ منا أن الحسين في حاجة إلينا.

في عاشوراء.. يصبح البصر في مدى البصيرة، يرتفع الغطاء فيصبح البصر حديداً.. فأرى رأسي مقطوعاً وثوبي مسلوباً ونفطي مرصوداً وغدي ملبداً، وطفلي مقطعاً وخيمتي (وطني) محروقة ومياهي ممنوعة، وأطرافي موزعة موجوعة، وأسرتي مسبية و«أوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا، يملأن مني أكرشة جوفاً وأجربة سغباً» (كلام للحسين في طريقه الى كربلاء).

أليس رأسي ورأس الحسين هو ذلك المرفوع شظايا في الهواء في فلسطين وليبيا وتونس والعراق وسوريا؟ أليس هو ذلك الذي يلامس السماء رفعة، في القدس وغزة هاشم؟ أليس هو ذاك الذي لا يجد له مستقراً إلا بين يدي جعفر الطيار المقطوعتين، الموصولتين بكفي العباس، قمر بني هاشم؟ وهو هو الموضوع في الطشت بين الغوطة وقاسيون، بين يدي يزيد وهو يحتسي بكور الخمرة، وينكث الثغر النبوي الجميل العاطر المعطر بشفتي الرسول الأكرم بالخيزرانة، ويستدعي دخوله من بدر واحد ويجاهر «ذهبت هاشم بالملك فلا خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل».

كانت الرؤوس سبعة وسبعين على جبين كل منها رقعة باسمة، لأن طول الطريق وحرارة الشمس غيرت المعالم.. وصلينا في قانا على سبعة وسبعين جثماناً، على نعش كل منها رقعة باسمه، لأن القذائف الحارقة غيرت معالم الرؤوس والوجوه، خلطت أجساد الأمهات بأجساد أطفالهن، وأجساد المعلمات بأجساد التلاميذ، وأجساد المسيحيين بأجساد المسلمين، ككل المجازر التي تتتابع الآن من المحيط الى الخليج.. وصلى معنا لبنان الوطن كله على كل شهدائه، كأنه كان يقول كما يقول كل وطن لأهله: لن أكون إلا بالجميع من أجل الجميع.

أيها الأحبة تعالوا ببركة دم الحسين نتصارح لنتصالح ونتصالح لنتصارح، لنعيش معاً وننهض معاً ونبلغ معاً رضوان الله ونستحق مغفرته ورحمته.. أما فرادى أو أشتاتاً فإننا نصبح صدى أو سدى.. يأكلنا الصدأ ونتفرق أيدي سبأ.

كربلاء هي إحدى المساحات الفسيحة المشتركة بيننا. وبيننا وبين الانسان في كل مكان.. والحواجز والأفكار العظمى في التاريخ لا تبقى رهينة ظروفها الأولى.

ولا أقصد هنا أن كربلاء نشأت شيعية ونحن ندعو الى أسلمتها. إنها إسلامية النشأة والهوية، ومن هنا فإننا مدعوون الى الكف عن حصرها من جهة، والانكفاء عنها من جهة أخرى..

وأنا هنا أجاهر بالقول إنه كان للشيعة وما زال فضل كبير في ترسيخ معنى عاشوراء في الوجدان، طارحاً سؤالاً عن المبالغات البويهية والصفوية لأهداف سياسية.. معترفاً بأن أجمل ما قرأت في كربلاء بعضه شيعي وبعضه مسيحي وأكثره سني، من عبد الله العلايلي الى العقاد الى طه حسين الى عبد الرحمن الشرقاوي الى جورج جرداق..الخ.

إذن فلنفتح منازل أهل البيت لطالبي الدفء والسمو والأمان والمثال والأسوة، لنقرأ التعدد الاسلامي على حروف عدة ومعان عدة، على منهج توحيدي. كنا ننادي وما زال بعضنا ينادي بأنه لا بد من الارتقاء بعاشوراء من حصار الى فضاء.

اذن نفتح كتاب الحسين على معاصرة لا تجافي الأصول والأصالة، لا تقطع ولا تنقطع، وعلى إيمان يماهي بين التوحيد والوحدة، ويأبى طلب العدل بالجور، وفي العمق، وإلا تحول التاريخ الى مهجر ومغترب.

«وكيف جئت ربيعاً رملُ راحتهِ تكوّن النجمُ من رؤياه واكتحلا

والسيف ينزف ماءً قلتُ وارتجفتْ كفُّ الزمان فهل أنت الذي قُتلا؟».

السابق
الكتائب يردّ على حزب التوحيد: التهديدات والردود الفاجرة لا تؤثر فينا
التالي
خرق إسرائيلي جديد.. هذا ما أعلنه الجيش اللبناني