ترسيم الحدود وانهيار سرديات المقاومة

الحدود اللبنانية الاسرائيلية

في مشهد تأسيسي غاب عنه كلٌّ من رئيسي الجمهورية والحكومة ونواب الأمة الدُّمى، ظهر رئيس المجلس النيابي وزعيم حركة المحرومين وتوأم الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، فيما يسمى” الثنائية الشيعية” المحتكرة للحصة الشيعية في الدولة – المزرعة، معلناً امام الشعب اللبناني – المخطوف والمنهوب والمنكوب والمغيّب عن أي قرار يخصّه – عن اطار اتفاق لمفاوضات ستبدأ قريباً لترسيم الحدود بين لبنان واسرائيل برعاية الامم المتحدة ووساطة الولايات المتحدة التي كان نصرالله قد شكك في نزاهتها ووصفها بأنها “محامي إسرائيل” .

اقرأ أيضا: جمهور حزب الله «يُهلل» لترسيم الحدود.. ماذا عن مقاتليه؟!

وفيما يقول لبنان إنّ المباحثات لن تكون مباشرةً، يؤكد الأميركيون والإسرائيليون أنّها محادثات مباشرة. وفي الوقت الذي اوحى نبيه بري بتلازم ترسيم الحدود البرية والبحرية، اشار الموقف الامريكي والاسرائيلي الى ترسيم الحدود البحرية فقط، مع تجاهل الترسيم البرّي، ربما لأن إسرائيل تعتبره منجزاً، بعدما اعلنت ضمّ الجولان وغور الاردن ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا الى اسرائيل، وبالتالي فهو ينتظر التوقيع بالتزامن مع الاتفاق على الترسيم البحري. وهذا الامر إن صحّ، فهو يعني ان حزب الله قد خسر أقوى مبرر لبقاء سلاحه الذي لطالما أصرّ على ربط وجوده بتحرير مزارع شبعا التي امتنع بشار الأسد عن تثبيت لبنانيتها، وفضّل التنازل عنها لحليفه الاسرائيلي الذي دافع عن بقائه في السلطة وعارض سقوطه منذ اندلاع الثورة السورية .
في ذلك المؤتمر الصحافي، تمّ الكشف عن تاريخ بدء التفاوض السري على ملف ترسيم الحدود الذي امتد لعشر سنوات، اي منذ إقرار قانون النفط بعد التأكد من وجود نفط وغاز بكميات تجارية في المناطق الحدودية مع إسرائيل. وقد توصل اللبنانيون الى عدة استنتاجات وخلاصات من التوقيت غير البرىء لهذا الاتفاق :

-الموافقة على الترسيم هي مجرد ورقه “حُسن نية” تقدمها إيران كهدية لترامب قبيل خوضه معركته الانتخابية، يوضع لبنان بموجبها على طاولة المساومات الايرانية/الامريكية/الاسرائيلية. إذ لا يمكن للرئيس نبيه برّي أن يعلن هذا الموقف من دون تنسيق وثيق مع حليفه نصرالله الذي ابدى – وللمفارقة – في خطابه الاخير، تخوّفاً من أن تنزلق أيّ حكومة مستقلة – في حال تشكلها – الى إجراء مفاوضات لترسيم الحدود البرية والبحرية مع العدو، او أن تستجيب لمطلب صندوق النقد الدولي في ضبط الحدود البرية بين لبنان وسوريا التي تُعتبر الرئة التي يتنفس منها حزب الله ! ولنا ان نتخيل حجم حملات التخوين والاتهام بالعمالة والداعشية والوهابية من جانب جمهور الثنائي الشيعي – الذي منح نفسه سلطة التحليل والتحريم، وهندسة سلم القيم بما يناسب مصالحه – فيما لو جاء إعلان هذا الاتفاق على لسان أيّ مسؤول من الطوائف الأخرى.

-ان هذا الاتفاق الإطار يعني أن لبنان سلك طريق “الاعتراف بإسرائيل”، وطريق التطبيع الذي دشّنته دول خليجية ضمن ما عُرف باسم ” اتفاق ابراهام” . فلا أحد يفاوض رسمياً وبالمباشر مع “دولةٍ”، لترسيم الحدود معها، دون أن يكون معترفاً بوجودها، ما يعني أن اعتراف حزب الله (بمباركة إيرانية) بدولة اسرائيل أصبح واقعاً، وبالتالي لن تحظَى ايران بعد اليوم، بشرف تدمير هذا الكيان الغاصب بـ 7 دقائق ونصف !

-انه لا يمكن فصل التنازل المفاجىء الذي قدمه الثنائي الشيعي، عن مقصلة التهديدات الأمريكية بفرض عقوبات على حزب الله الذي أفشل مبادرة ماكرون، وفضّل التفاوض مباشرة مع واشنطن (الشيطان الأكبر) على ترسيم الحدود؛ ولا عن ضغط الترهيب الاسرائيلي بقصف كل مخازن اسلحتة المنتشرة على الاراضي اللبنانية (ولاسيما في الضاحية عاصمة الدويلة) الذي سيخلّف في حال حصوله، كوارث وفواجع لا حدود لها على غرار تفجير مرفأ بيروت الذي صرح الرئيس الامريكي بعد ساعات من حصوله انه “هجوم”، واشارت تحقيقات قامت بها ال FBI الى انه جريمة متعمدة وليس حادثاً عرضياً، ومع ذلك رفضت الدولة اللبنانية (ومن ورائها نصر الله الذي يتحكم بكل مفاصل الدولة من مكان إقامته المجهول) مناقشة فكرة حصوله بسبب ضربة صاروخية اسرائيلية ! ما يعني أن حزب الله يريد تعطيل أي ضربات إسرائيلية محتملة، لأنه لا يريد التورط في أي حربٍ من شأنها تغيير قواعد الإشتباك والردع الموجودة حالياً.

-يريد الثنائي الشيعي امتصاص غضب الشارع بسبب عرقلته تشكيل حكومة اختصاصيين مستقلة كان الشعب اللبناني قد اعتبرها خشبة خلاصه، عبر ايهام اللبنانيين ان ترسيم الحدود البحرية هو انجاز مهم، لأنه سيفتح الباب على استخراج النفط من البلوك رقم 9 الموجود في الجنوب اللبناني، وبالتالي ضخ مليارات الدولارات في البلد المنهوب، وسدّ دينه العام المتضخم، وتحييده عن مصيره المحتوم في الذهاب الى جهنم. ولكن قبل تنفيذ القرار الدولي 1559 الذي ينص على نزع سلاح كل الميليشيات، هل بالامكان فعلاً ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل، مع ضمان عدم تحوّل عملية الترسيم الى حفلة تقاسم حصص النفط والغاز والثروات الطبيعية بين اسرائيل وحزب الله الحاكم بأمره في لبنان، بالشراكة مع عصابات الطبقة السياسية التي يسعى لصوصها للفرار من العقاب على جرائمهم المالية التي أفلست البلد، وللاستمرار في عمليات السرقة والنهب؟!

-لوحظ غياب الشعارات النارية التي تؤكد رفض تقديم تنازلات للعدو الاسرائيلي، وقُرب زوال اسرائيل وتحرير فلسطين انطلاقاً من دمشق وحمص وحلب والقلمون وصنعاء وبغداد ؛ واختفاء خطاب التعبئة والتحشيد الذي لطالما اعتبر أن المشكلة مع اسرائيل هي مشكلة وجود وليست مشكلة حدود ؛ وان المعركة معها هي معركة بين الحق المطلق والشرّ المطلق؛ وأن خيار المقاومة بالبندقية والصاروخ – لا بالتفاوض عبر القنوات الدبلوماسية – هو السبيل الوحيد لحل الصراع ولاسترجاع الحقوق المسلوبة والدفاع عن المصالح الوطنية. أي أن ما كان مرفوضاً ومُداناً بالأمس، تمّ قبوله الآن، في مؤشر الى أن اولوية حزب الله المحاصر في كل مكان من العالم. في استمرار إحكام قبضته المطلقة على السلطة اللبنانية، باتت تتقدم عنده على اولوية صراعه مع اسرائيل، ما يعني فعلياً انهيار كل الشعارات والسرديات والفتاوى الفقهية التي تمّت صياغتها على مدى عقود، والتي رفعت “الواجب الجهادي” الى مستوى المقدس، باعتباره الطريق الوحيد لإزالة تلك الغدة السرطانية المُسماة اسرائيل. فكيف يمكن لحزب الله الذي تبنّى خيار العنف المقدس منذ سنوات طويلة، ان يقنع ذوي القتلى من الذين سقطوا في حروبه الطائفية والعبثية وهم يدمرون حواضر وعواصم العالم العربي ويقتلون ويحاصرون ويجوعون ويشردون أهلها، بأن موافقته على المفاوضات مع العدو (الذي تمّ ايهامهم بالقدرة على رميه في البحر وشطبه من الوجود، وان صواريخ المقاومة ستصل الى ما بعد بعد حيفا) ليس خيانةً لدماء ابنائهم ؟!

هلا رشيد امون
هلا رشيد امون

فيما رحّب وزير الخارجية الامريكية فوراً باعلان “اتفاق الاطار” قائلا إن المفاوضات ستحصل “بين البلدين الجارين”، وأعلن السفير الأميركي لدى إسرائيل “أن العلاقات اللبنانية – الإسرائيلية تتحسن”، لم يصدر عن حزب الله أيّ موقف رسمي حتى الآن، واغلب الظن انه بدأ مراجعة حساباته لدراسة كيفية ترميم صورة “المقاومة” المهشّمة، عبر التسويق لخطاب جديد، وإختراع دورٍ جديد لسلاحه وصواريخه اثناء اجراء المفاوضات – التي ستكون طويلة وشاقة ويتخللها مدّ وجزر وفرض شروط وشروط مضادة – او بعدها، وايجاد تفسيرات مقنعة (أو غير مقنعة) لبيئته الحاضنة للتنازلات القاسية التي ستُفرض عليه، والتي قد يستسهل نصر الله تحويلها في “مونولوج متلفز” قريب، الى انتصاراتٍ تستحق مكافآت (حصص جديدة للشيعة داخل النظام اللبناني عبر تعديلات دستورية باتجاه عقد سياسي جديد أو مؤتمر تأسيسي… الخ) كمقابلٍ عادلٍ لتضحياته وتقديمه الاف الشهداء في حروبه الطويلة على العدّوين الصهيوني والتكفيري التي عبّدت الطريق من دمشق الى صنعاء، بالجماجم والدماء والاحقاد، وأوصلت الشعب اللبناني المسكين بعد كل الذي عاناه من حروب وغزوات واغتيالات وتفجيرات ورفع الإصبعٍ في وجهه، لأن يقف ذليلاً في طوابير الافران ومحطات الوقود والمصارف. فثمة مَن حبسه في زجاجة اوهامه الايديولوجية، وخطف قرار دولته، وتحالف مع الفاسدين من زعمائه الذين أمّنوا لسيطرته غطاءً محلياً ودولياً وإقليمياً، وجمّل النموذج الفنزويلي في عيونه، وفجّر مرفأه، ووضع له سيناريوهات متنوعة عن كيفية وصوله إلى الجحيم الذي يعيشه باحثاً عن طيفٍ لكرامةٍ وُعِد بها، ولكن عبثاً يفعل.

السابق
جمهور حزب الله «يُهلل» لترسيم الحدود.. ماذا عن مقاتليه؟!
التالي
معارضو الثنائي يسألون: من هم شيعة السفارة؟