الصفوي ثم العثماني في بغداد تعاقب السيطرة والخراب

هاني فحص

على الرغم من العلاقة العضوية بين الطريقة الصوفية الصفوية والطريقة البكتاشية العثمانية التي يعدّها بعض الدارسين خليطاً من التصوّف والتشيّع الذي لا يخلو من غلو في أئمة أهل البيت (ع) وغيرهم .. وعلى الرغم مما يقول المؤرخون من لقاء المؤسسين (سليم واسماعيل) في كنف الصوفي العلوي القادم من خراسان الى آسيا الصغرى (الحاج محمد بكتاش ولي) مؤسس الجيش الإنكشاري وعلامته المميزة (سيف ذو الفقار) واتفاقهما على التعاون والسلام في ما بينهما، عادت غريزة السلطة لتستولي عليهما كما في العادة وتدخلهما في حروب طاحنة بعد تأسيس الدولة الصفوية، وتوجه العثمانيين نحو المشرق بعد فتح القسطنطينية والتراجع الملحوظ في طموحاتهم الأوروبية عقب وفاة محمد الفاتح الذي بلغ اسوار فيينا. ودخلوا حروباً في ما بينهم بدأت بمعركة جالديران من قبل العثمانيين، لتمتد الى العراق ليصبح ساحة صراع دائم على مدى قرون لا تقل عن أربعة إن لم تزد .

اقرأ أيضاً: فك الجمهورية عن ولاية الفقيه

وكان لا بد من مسوّغ ديني وفقهي للحروب، فالتزم العثمانيون التسنن والتزم الصفويّون التشيّع، وكلٌ فصّل مذهباً فقهاً وفقهاء وفتوى على قياس مطامعه وطموحه الى تغطية شهوته الى السلطة بما يقتضي ذلك من مظالم، بالشرع والعقيدة، وكانت حصة بغداد من الخراب المتعاقب بتعاقب النفوذ كبيرة جداً.

لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث

فقد استطاع الشاه اسماعيل كما يقول الدكتور علي الوردي (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) “أن يفتح بغداد عام 1508، وتشير أكثر المصادر التاريخية الى أنه فعل بأهل بغداد مثل ما فعل بالإيرانيين من قتل واضطهاد ديني… ولم يعدم مدافعين عنه من حسني النية من العلماء. غير أن تياراً عريضاً من الباحثين والمؤرخين الإيرانيين، الأعرف بشؤون وطنهم ودولتهم، وفي مقدمتهم المرحوم الدكتور علي شريعي، تصدّوا بشجاعة ودأب عظيم لفضح المفارقة بين دعوى التشيع الصفوي والتشيع العلوي، أي بين المعنى التسلطي الجاهلي للتشيّع الصفوي، والمعنى الإنساني التوحيدي الوحدوي للتشيع العلوي أي التشيع لعلي والأئمة من سلالته ، فانكشفت المظالم والتشويهات التي ألحقها الصفويون الظلمة بالشيعة والتشيع. فيما عمّ ظلمهم الجميع تماماً كما عمّ الظلم العثماني جميع المسلمين، ولكن البعض كان يغض النظر أحياناً عما يلحقه من ظلم بسبب اللافتة المذهبية الخادعة، مسوّغاً لظلم العثمانيين، تماماً كما حاول النظام العراقي ان يضطهد الشيعة وكأنه يفعل ذلك نيابة عن السنة ولمصلحتهم، ليعود فيضطهد السنة، أكراداً وعرباً، وحتى بعثيين وتكارتة وغيرهم، وكأنه يضطهدهم من أجل العراق والعروبة والوحدة والتقدم وفلسطين والقدس، مع حسن استخدام، او سوء استخدام معروف، حتى المقامرة في الحرب ضد إيران واحتلال الكويت تحشيداً للعصبيات في كل اتجاه، حتى احترق العراق بعصابه، وهو ما زال ينام ويصحو على ضوء الحرائق تضيء سماء بغداد ليبحث الباحثون في ضوئها عن رئيسهم “المنصور بالله” صدام المتواري خلف ستار حمقه وجريمته.

بعد أربع سنوات من احتلال اسماعيل الصفوي لبغداد وأفاعيله فيها، أصبح سليم “الياوز” أي الضاري الذي لا “يعرف اللين”، خليفة في اسطنبول، متمتعاً بما وصفه به لونكريك ـ من بسالة الذكي وجمود الغبي.. وأعلن نفسه حامياً لأهل السنة، واستحصل على فتاوى بجواز قتل الشيعة، فارتكب مذابح يشبهها البعض بمذبحة “سان بارتيليمي” ضد البروتستانت في فرنسا. وبعد ستين سنة ذهب ضحية مذابح السلطان سليم سبعون ألفاً من البشر.

وجاء دور سليمان القانوني نقيضاً لأبيه اذ كان “رحيماً يحب العدل” ووصلت الدولة في عهده الى أوج اتساعها ومجدها، وقد أطلق عليه الأوروبيون لقب “العظيم”، وعاش في زمن المشاهير مثل اسماعيل الصفوي وأكبر شاه الهندي وإيفان الرهيب الروسي، وهنري الثامن البريطاني، والبابا ليو العاشر وشارلكان في اسبانيا وألمانيا، وكان أكثرهم مجداً. وفتح بلغراد متجهاً الى ما وراء نهر الدانوب، وعام 1526 وصل الى بودابست وحاصر فيينا فمنعها منه الثلج”.

من كربلاء سنة 1842 نقل الوالي علي رضا باشا (الفاسد) الى اسطنبول وحل محله محمد نجيب باشا والي الشام، وهو من أسرة اسطنبولية وعرف بالقسوة

وألح عليه مستشاروه وبطانته في التوجه الى بغداد لإنقاذها من يد اسماعيل الصفوي وإعادة إعمار مرقد الإمام أبي حنيفة الذي هدمه اسماعيل. وفي عام 1524 توفي اسماعيل وخلفه ولده طهماسب إبن العشر سنوات الذي تلقى رسائل من سليمان ختمها بالوعيد، وعندما سمع البلاط الصفوي باستعداد العثمانيين اتصل بملك هنغاريا للتعاون ضده. وفي سنة 1534 تحرك سليمان بجيشه نحو تبريز وغرب إيران، والجيش الصفوي ينسحب أمامه، ثم اتجه غرباً نحو بغداد، التي بلغها واهناً نتيجة مشاق الطريق.

وأخافت مدافعه الحامية الصفوية اذ سمعت بها بغداد أول مرة، ودخل سليمان بغداد دون مقاومة بعدما انسحب الصفويون، فلم يسمح بالنهب والإيذاء لأحد من السكان. وبعد استراحة أربعة أيام في بغداد توجه لزيارة الأئمة في الكاظمية وكربلاء والنجف، ويحكى أنه حين صار على بعد أربعة فراسخ من النجف ولمح قبة قبر الإمام علي (ع)، ترجل عن فرسه وأخذ يمشي على قدميه قائلاً إن أعضاءه اهتزت لمرأى القبة، وأخذ يتلو شعراً في تمجيد الإمام. وقد أمر سليمان بإتمام عمارة مرقد الإمامين الكاظم والجواد في الكاظمية، ودفع رواتب لخدم المقام من خزانة الدولة، ثم أشرف على تعميق مجرى نهر الحسينية وتوسيعه فصارت مياه الفرات تصل الى كربلاء بانتظام. وعند عودته من كربلاء والنجف، زار قبر أبي حنيفة وأمر بتشييد قبة وجامع عليه ودار ضيافة قربه مع حمام وخان ونحو أربعين دكاناً.

عرش إيران

وفي السنوات الأخيرة من القرن السادس عشر، كان على عرش إيران الشاه عباس الصفوي الذي تولى العرش عام 1588م. وقد استقبل في طهران السير انطوني شيرلي وأخاه روبرت البريطانيين ومعهما رجل خبير بصب المدافع، فانتهز الشاه الفرصة ليصنع مدافع تواجه مدافع العثمانيين أعظم سلاح في عصرها. وعام 1602 أخذ الشاه عباس يغير على الأطراف العثمانية فاسترجع مدينة تبريز واستمر يحرز الانتصارات حتى فتح بغداد عام 1633 بعد حصار دام ثلاثة أشهر، أكل الناس فيه الأطفال. وبلغت قيمة الحمار ألف أقجة. وفعل ببغداد فتكاً بأهل السنة ما فعله سلفه اسماعيل بهم، والعثماني سليم بالشيعة. (راجع الوردي) أسارع الى القول هنا إنه يعلو الى مستوى الأمنيات العظيمة التي تتصل اتصالاً وثيقاً بوجودنا وكرامتنا في هذا الشرق الجريح والمحاصر، ولدى كل العقلاء والمخلصين والمؤمنين والغيارى، أن يستمر هذا الحوار التركي الإيراني ويمتد الى أعماقه وسياجه العربي، على الرغم من كل التعقيدات والمشكلات، ومن أجل حلها أيضاً، علها تكون مقدمة لاستعادة ما ضاع.. وأن بتعاظم هذا الحوار، تنمو وتزدهر وتعم وتترسخ وتثمر بهدوء وعمق تسويات دائمة من أجل علاقة دائمة، لتتعاظم أسباب الطمأنينة الى المستقبل والثقة بتجاوز المحن وإزالة آثار الكوارث والتحصن ضد الموعود منها، وقراءة الماضي القريب في هذا المجال، المقصود منها استمداد مادة الأمصال المضادة للفتنة والتفرقة والتجزئة والخذلان المتبادل، من دون أوهام لم تنكشف إلا عن مزيد من المصائب.

وقبل سقوط بغداد بأيام على يد عباس الصفوي، نصّب الانكشاريون مراد الرابع (12 سنة) سلطاناً آملين أن يكون لعبتهم، ولكنه قرر أن يكونوا هم لعبته. وأنعش الدولة في عهده ليموت سريعاً في الثامنة والعشرين من عمره، بعدما تبيّن أنه سفاك للدماء وقاس جداً وتجاوز في ذلك سلفه سليم. ومنذ تسلمه الزمام بدأ يعد العدة لاستعادة بغداد وحاول 1624 و1630 فحاصر بغداد وضيّق عليها الخناق ولم ينجح، وكان شغب الانكشارية أحد الأسباب. أخرج “الطوغ الهمايوني” وهو العلم الذي لا يخرج إلا في أوقات الشدة، وقاد الجيش الى بغداد متلبساً بزي عربي تشبهاً بالصحابة ومعه ثمانية مدافع. وحاصر بغداد متخذاً موقعه قبالة قبر أبي حنيفة، آبياً أن يزوره قبل تحرير بغداد، طائفاً على الجنود يحضهم على الجهاد في سبيل الدين، مصلياً كل صباح ممرغاً وجهه في التراب والدموع تنهمر من عينيه. واستمر الحصار أربعين يوماً حتى فتحت المدافع ثغرة في سور بغداد، فتقدم العثمانيون واحتدم القتال مع الجيش الصفوي حتى تقدمهم السلطان صارخاً اللّه أكبر، فدخلوا المدينة التي انكشفت أمامهم!

وجاء القائد الصفوي بكتاش خان الى السلطان مستسلماً فعفى عنه وزوده هدايا. ولم تهدأ بغداد حتى انفجرت على إيقاع مذبحة عظيمة، حين اتهم العثمانيون الصفويين بالإخلال بشرط الاستسلام، واتهم الصفويون العثمانيين بروح الانتقام التي سيطرت عليهم ولم يبقَ من العشرين ألف إيراني سوى ثلاثمئة شخص أحياء. وبعد أيام، انفجر مخزون بارود بالانكشارية فقتل منهم ثمانمئة جندي، فأمر مراد بالذبح الذي شمل سكان بغداد من الشيعة، ومنهم الأسرى والزوار الإيرانيون، وبعد انتهاء المذبحة تقدم الباقون من سكان بغداد صفوفاً بأطفالهم ونسائهم يصرخون (ألداد ـ أمان)، فأمّنهم السلطان ومنع النهب وعاقب عليه، وذهب الى زيارة قبر أبي حنيفة قائلاً: “الآن حقّت الزيارة”… وتكرّس مدفع “طوب أبو خزامة” على أنه مقدّس صدرت عنه المعجزات في نظر سكان بغداد الذين صاروا يتبركون به ويقدمون له النذور.

النصر المبين

وبعد سنة على فتح بغداد عقدت مصالحة بين الدولتين دامت تسعين عاماً على أن تبقى بغداد في حوزة الدولة العثمانية ويأخذ الصفويون ايروان في أرمينيا بدلاً منها!

من كربلاء سنة 1842 نقل الوالي علي رضا باشا (الفاسد) الى اسطنبول وحل محله محمد نجيب باشا والي الشام، وهو من أسرة اسطنبولية وعرف بالقسوة. وفي السنة الثانية من ولايته وقعت في كربلاء مذبحة فظيعة بقيادة الوالي بسبب انتشار زمرة من الأشقياء “اليرمازية” أي الأشرار الذين لا نفع فيهم. وكان زعيمهم ابراهيم الزعفراني وعاثوا فساداً في المدينة التي حرص الجميع على احترامها ولا سيما الوالي رضا باشا الذي على الرغم من فساده كان شديد الحب للأئمة، فجعل كربلاء ملاذاً لكل هارب، وبناء على ذلك قرر الوالي القضاء على اليرمازية، فأنذرهم للاستسلام وتسليم السلاح خلال شهر، فلم يستجيبوا، فحاصر المدينة ثلاثة أسابيع. وكان الأهالي والعلماء رافضين لليرمازية خائفين من شرهم، واستغل الوالي خلافاً بين اتجاهين دينيين في كربلاء، فأرسل الى زعيم أحد الطرفين السيد كاظم الرشتي (شيخ الشيخية) يرجوه أن يعمل في حقن الدماء، فقام السيد بما طلب منه وحض الناس على فتح أبواب البلدة للقوات العثمانية والاستسلام. فأطاعه أتباعه، وازداد خصومه إصراراً وعناداً..

اقرأ أيضاً: إيران والشيعة في لبنان

وانتشر في كربلاء كلام أن رجلاً رأى العبّاس في منامه وهو يبشر أهل كربلاء بالنصر المبين، وأرسل رؤساء الحركة الى بعض العشائر المتحالفة معهم كآل فتلة وآل يسار وآل زغبة يستنجدونهم. وبعد يوم من عيد الأضحى عام 1842 قصفت مدافع الوالي كربلاء (من ناحية باب النجف) وتم لها النصر سريعاً وبدأ القتل والنهب الفظيع، وأُبيحت البلدة للجنود أربع ساعات ففعلوا ما أرادوا بلذة عارمة.. مع تعليمات باحترام منزل السيد كاظم الرشتي فأوى إليه الناس طلباً للأمان حتى ازدحم بهم ومات عشرون شخصاً بسبب الزحام! ونجا الذين التجأوا الى مقام الحسين، وخرج سادن الحضرة ومعه معاونوه وعمامته في رقبته وهو يبكي ويلطم، فأمر القائد بوقف إطلاق النار على اللاجئين الى المقام. وأمر بقلع أبواب مقام العباس وقتل الزائرين، فقتل 300 منهم. وجاء الوالي نجيب باشا الى المدينة ودخل المقام الحسيني بصحبة الرشتي وبعض شيوخ العشائر، وزار الوالي الضريح واستراح في تكية البكتاشية!!! وبلغ عدد القتلى 24 ألفاً. وألقي القبض على عدد من أشراف المدينة بتهمة التحريض على المقاومة.

(من أرشيف السيد هاني فحص)

السابق
«لم يربح لا جولة ولا حرب».. سليمان: «حزب الله» فشل في خداع أديب!
التالي
عقوبات اميركية جديدة على سوريا.. وجديدها شقيقتان على علاقة بالأسد!