فك الجمهورية عن ولاية الفقيه

هاني فحص

بعد قبول الإمام الخميني بالقرار الدولي. ونهاية الحرب مع العراق ظهرت علامات الخلل في عمل قلب الإمام الخميني ثم ظهرت علامات المرض الذي أودى بحياته وجعله يركز على الإيقاع العرفاني والأيديولوجي في وصيته مدركاً أن الخلل قد حصل، وأنه إذا كانت شخصيته ودوره التأسيسي في الثورة والدولة قد ضمنا التأخير في وضوح مظاهر الخلل البنيوي المتفرع من الشمولية في السياسة والاستعلاء الأيديولوجي فإنهما (أي القوة والدور) قد أسهما أيضاً في تمترس مراكز القوى وراءه بحيث ازدادت قدراتهم على الإخفاء والتأجيج والصراع، وعندما تم اختيار السيد خامنئي خلفاً، كان الإيرانيون قد أدركوا أن بلدهم عائد إلى السياق التاريخي في الصراع بين الدولة والثورة، والصراع على الدولة تمهيداً لطغيان السلطة على الدولة. ما جعل السيد خامنئي في المحصلة أقل قدرة على السيطرة على مراكز القوى التي استفحلت في الاقتصاد والسياسة والعسكر والحوزة، في مقابل نهوض الحيويات الاجتماعية والثقافية التي انتقلت تحت وطأة القمع والمنع من التعارض إلى التناقض، وإن كانت أمالها قد تراجعت في فترة رئاستي خاتمي، فإنها عادت إلى الانتعاش بعد تجربة أحمدي نجاد في الرئاسة، وسارت في اتجاه فرض واقع إصلاحي جديد، قوامه تحول الإصلاحيين من أمزجة متعددة إلى تيار يلتقي على رؤية موحدة ومرنة في نفس الوقت، ومن كتل بشرية سديمية إلى حامل اجتماعي فعلي ومنتظم، كما ظهر في الانتخابات وردود الفعل عليها، وعادت المدينة بما هي كتلة تاريخية مدنية وطبقة متوسطة تحتل أوسع مساحاتها، وتنتج سياسة وثقافة واقتصاداً وحراكاً وخيارات مدنية، حتى لا تصبح أشد طواعية للأيدلوجيا السياسية المغطاة بحجاب ديني ونقاب يحجب الرؤية…

اقرأ أيضاً: إيران والشيعة في لبنان

حكم المدينة

وإذا كان الإسلام الحضاري، يدعو إلى المدينة، فالمقصود عقلها الذي يجب أن يصل إلى الريف، لإشراكه في العمارة في حين أن الاتجاه الترييفي الذي يفاخر أحمدي نجاد بالميل إليه وصرف المال عليه من دون مشروعات ومن دون جدوى، وبزبائنية سياسية ذرائعية أدت إلى رفع معدل التضخم إلى أرقام قياسية، هو تأسيس لحكم المدينة بعقل الريف أي بالبساطة والزهد الإنتاجي في حين أن المدينة تحتاج إلى شيء من وجدان الأرياف فقط.

وعاد الطلاب الجامعيون المدنيون الموصولون بأهلهم من فقراء الريف ومعهم قوام الشعب الإيراني من الشباب البالغين 60% من عديده، إلى الشارع والدولة، فقرروا أن يحرروها من مصادرات السلطة واختزاليتها تحت سقف القانون والقضاء المستقل… ممثلين في ذلك وإلى حد كبير طموحات واعتراضات أعماقهم الشعبية.

هذا في حين كانت مراكز القوى قد أدى بها الغرور إلى تهديد العالم كله بالعدل والحرية والإصلاح والتغيير بالقوة! وأعلن أحمدي نجاد من موسكو نهاية الامبريالية، أين! في العاصمة التي تكفلت بذلك على مدى 70 عاماً بعدما شاركت الأمبرياليين لأسباب قومية في اقتصادهم وحروبهم ومظالمهم، أقرت بفشلها، وانفجرت أوهامها احتجاجاً واعتراضاً وعصياناً من بودابست عام 1956 إلى ربيع براغ، إلى الثورة الثقافية بالصين وضحاياها الـ38 مليون. إلى انفراط العقد السوفياتي والاشتراكي عموماً، وبعدما ثبت أن الرأسمالية أقدر على تجديد نفسها ولو على حسابنا، وأننا لا بد أن نكون أكثر وعياً حتى نفرض بعضاً من شروطنا عليها، على أمل أن تتزايد قوانا بالعلم والمعرفة والسلم الداخلي والحكمة وتشغيل الثروات في غير الحروب، وتزداد قدرتنا على فرض مزيد من شروطنا العادلة على الحالة الكونية المتنامية في إنجازاتها وتعقيداتها ومخاطرها على إيقاع العولمة والمتحولات العلمية السريعة والعظمى، مضافاً هذا كله إلى ما كان يحتاج إليه الكيان العبري بعد انقراض الجيل والعقل الصهيوني المؤسس من مواد تحريضية لتجديد بنائه فقدم له أحمدي نجاد مادة دسمة من خلال نفيه للهولوكست، ما أحرج أوروبا وأعاد هواجس وذرائع اللاسامية إلى وعي الغرب والانتهازية الصهيونية… ليعود ثانية إلى هذا النفي الذي نحتاج إسرائيل إلى تجديده لتجدد مشروعها به.

بين ولي الفقيه والجمهورية

هل يقوى السيد علي خامنئي على اتخاذ قرارات مصيرية حاسمة يتفادى بها ما تعده مراكز القوى الإيرانية من توجه لتجاوزه وتحجيم دوره وتفكيك فقهية الدولة من خلال تفكيك الجمهورية فيها وتوكيد التناقض بين الولي الفقيه والجمهورية بحيث يبدو للأجيال القادمة أن الجمع بين الفقاهة والجمهورية هو تعسف نظري وغير واقعي. هذا في حين أن العلامات تتوالى على أن السيد خامنئي في طريقه إلى أن يصبح عباءة للسلطة لا رأساً للدولة، بمعنى استواء الهرم المقلوب على قاعدته استواءاً يقطع الطريق بين الرأس ومراكز الأمر فيه وبين الأطراف، وهو إذا كان كما قيل عنه بأنه شعر بالحاكمية الفعلية في فترة رئاسة أحمدي نجاد فإنه لا بد أن يلتفت إلى أن الظل الضعيف عندما يستشعر القوة لا يضع في باله إلا إضعاف من قواه والتمرد عليه، أليس في عناد نجاد في إقصاء صهره مشائي عن النيابة الأولى للرئاسة مخالفاً لأيام قرار خامنئي؟ ثم تعيين مشائي مديراً لديوان الرئيس دليل على أن العيال تشعر بأنها قد كبرت! ألا نلاحظ أن الفارق بين الإصلاحيين والمحافظين الآن هو أن الإصلاحيين قد اجتمعوا بعد افتراق على الإيجاب والحقيقة وعلى أطروحة، بعدما كانوا قد اجتمعوا في الماضي سلبياً ضد ما اعتبروه باطلاً، في حين أن التمايزات والمصالح المتعارضة والتناقضات بين أطراف المحافظين قد ظهرت بوضوح وبدأت تفرق شملهم ولم يعد السيد الخامنئي قادراً على جمعهم وقد لا يكون بإمكانه مجارات الأشد محافظة ودعوة إلى طاعته (أحمد حجتي وأحمد خاتمي ومحمد يزدي مثلاً) أو الوقوف على يسارهم، بل أصبح مضطراً من أجل حفظ موقعه ونظامه المتوتر أن يناور معهم جميعاً وعليهم حتى يتلافى ضغوطهم عليه وربما اضطر إلى السكوت عن انفجار الصراعات الحامية بينهم تباعاً والتي لا يكفي خطر الإصلاح الذي يبالغون به ويتهمونه لكي يوقفها ويوحد صفوفهم من جديد… حيث أن الإصلاحيين موعودون أيضاً بالعودة إلى الشقاق فيما بينهم خاصة إذا ما خابت آمالهم.

ألا يمكن أن يكون الإمساك بزمام السلطة نهائياً من قبل الحرس بداية لظهور خلافات كامنة ومحتملة في صفوفه؟

الإحباط

بعد الوقوع المأساوي في الفخ الذي نصبه صدام للثورة والدولة الفتية في إيران بالحرب، بلغ الإحباط في وسط الشعب الإيراني الذي وعدته الثورة بالرفاه والعدالة والعمران والحرية، بحيث أصبح الخميني آخر الدنيا بعدما كان أولها، وفي لحظة يأس أو خوف من الغد أصبح الإيرانيون في صلاتهم ومخادعهم قبل النوم وبعد اليقظة يرددون هذا الدعاء بإلحاح مصحوب بقطرات من الدمع الساخن (خدايا خدايا تا انقلاب مهدي خميني را نكهدار) أي إلهي إلهي حتى ثورة أو ظهور المهدي احفظ لنا الخميني، كأنه لم يعد بين الخميني والمهدي من يمكن أن يطمئنوا إليه، وزادوا على الدعاء: خذ من عمري وزد في عمر القائد، هل الواقع الآن يقول للإيرانيين بأن هذا اليأس كان في محله! وهل من أمل بأن يحيا الأمل؟ هل تتحول ولاية الفقيه وبالتدريج ومن دون تسرع أو تسويف من مسألة يراد لها ولأسباب غير دينية ولا مدنية بل محض سياسية أن تصبح عقيدة قابضة لنصابها الفرعي الفقهي بحيث يمسي الإخلال بالاعتقاد بها أو عدم إطاعة صاحبها كفراً بواحاً بالدين أو إخلالاً بضرورات المذهب، أي كفراً به؟ هل تتحول إلى فكرة ناظمة ويتحول الولي الفقيه من الاختزال والإلغاء (إلغاء الأمة وفقهائها وعلمائها) إلى النظارة والإرشاد والنصح وتعزيز القيم الإنسانية والعلائقية بين المواطنين بما يحفظ نصاب المواطنة ويحميه على أساس أن مجال الأحكام فيما يعود إلى تدبير الدولة وإدارتها هو مجال المباح الشرعي الأوسع في الشرع من مجال الواجب والمحرم، الذي هو مجال التكليف، بينما مجال التدبير هو مجال الحقوق، حقوق المواطن وحقوق الإنسان – المقاصد – التي يرعاها الحاكم ولا يصادرها؟ وبكلمة، هل تتحول الولاية من الفرد إلى الأمة العارفة بأمور زمانها المتشاركة في المعرفة وفي إدارة شؤونها على أساس الكفاءة والنظافة والنزاهة لا الولاء فقط أو الولاء المشروط بالأداء؟ أليس في ذلك ما يكفي لحماية موقع الدولة المركزي ودورها الذي تجعله اللامركزية الإدارية أشد صيانة للمركز.

اقرأ أيضاً: الديموقراطية.. قدر إيران

المتغيرات في المشهد الإيراني

وعلى كل حال لا بد من الانتباه إلى متغيرات متراكمة وعميقة ومرشحة إلى مزيد من العمق والوضوح في المشهد الإيراني، وعلى سبيل المثال فقد انقسمت الحوزة الدينية، وظهر انقسام رجال الدين بين إصلاحي ومحافظ، وهناك احتمال بانقسام رجال الدين المحافظين بين المرشد من جهة وأحمدي نجاد والحرس من جهة ثانية من دون أن تبقى وحدة الإصلاحيين على سلامتها بالضرورة، وقد بادر كبار قادة الحرب إلى إرسال إشارات وإطلاق تصريحات أو تهديدات تدل على أنهم يستعدون للإمساك بالزمام، وهناك تمايزات معروفة نائمة بين الحرس والجيش، فهل تتحول إلى انشقاقات ثم صراعات؟ وهل الحرس موحد ظاهراً وباطناً؟ ألا يمكن أن يكون الإمساك بزمام السلطة نهائياً من قبل الحرس بداية لظهور خلافات كامنة ومحتملة في صفوفه؟ علماً بأن هناك مصادر معنية ومطلعة تحتمل أن يتبع الحرس أسلوباً مرناً وذكياً في ممارسة وذكياً في ممارسة السلطة هذه المرة بعيداً عن هيمنة المؤسسة الدينية ومن دون إلغائها بل مع الحفاظ عليها في حدود الضرورة.. وهل تصبر الأطراف من ذوي الهويات الفرعية التي تشعر بالتهميش (أكراد، أذريون، عرب، بلوش، لور وتركمان، إلخ…) وتنتظر نتائجه لتسكت خوفاً أو تطالب بحقوقها بقوة، وتعمد إلى التحرك الذي يمد الصراع بشحنات إضافية أثنية ومذهبية ويضيف إليه بعداً خطراً، فيسهم في مزيد من الانفجارات أو يلزم أهل المصالح ومراكز القوى على تسوية تحفظ النظام في حدود تحفظ لهم مصالحهم ومراكزهم وسلطاتهم على حساب المتضررين والمعترضين؟ هل يتراجع دور رجال الدين الشريك بفاعلية وأرجحية في السلطة على أساس أن الأكثرية من رجال الدين تفكر وتراجع وتحتاط وتتراجع من دون حرج، لصالح الحرس الممسك بالعسكر والأمن والاقتصاد والمال؟ هل يعتمر النظام الإيراني خوذته بدل العمامة أو فوقها أو تحتها وتدخل إيران في تاريخ الانقلابات العسكرية الدورية التي ذاقتها وما تزال بلادنا العربية بعد احتلال فلسطين ومن أجل تحريرها ومن أجل التقدم والعدالة والديمقراطية، فتوسع الاحتلال وتناقصت الديمقراطية وتراجع النمو وتعاظمت الفوارق الطبقية وذابت الطبقة المتوسطة وأسقط شعار الوحدة (لاحظ السودان واليمن والصومال، إلخ…).

(20/7/2009)

السابق
«كورونا» يواصل انتشاره..11 إصابة جديدة!
التالي
زهد حكومي «مفخخ» لباسيل..نقبل بما يتفق عليه الآخرون!