إيران: الاعتدال هو الحل

هاني فحص

إيران القوية، المتحررة من الضغوط الأميركية، المقتنعة تمام الاقتناع بأن العلاقة العادلة والمتوازنة مع واشنطن ضرورة أميركية وإيرانية، تقتضي إعادة نظر أميركية في النزعة المتأصلة إلى الاستحواذ والاستتباع، وإيران التي تميز أوروبا عن أميركا وترى أن الأوروبيين، وأن بنسبة أقل من غيرهم، متضررون من جنوح الولايات المتحدة نحو الاستقطاب الوحيد الجانب، مع التفريق الإيراني بين نوعية الضرر الذي يمكن أن يلحق جراء ذلك بالآخرين من غير الأوروبيين، والذي لا يطال سوى أنظمة المصالح، وبين الضرر الذي يلحق بالأوروبيين ويطال نظام الأفكار والقيم الأوروبية، إيران القلقة والحائرة بين أولوياتها الوطنية في النهوض والتنمية، وبين آفاقها وطموحاتها والتزاماتها التي تمر بعمقها العربي وتصب في مداها الإسلامي والدولي، باعتبار أن ثورتها ألزمت نفسها بهموم المستضعفين ما يحتاج الى مراجعة وتدقيق دائم، إيران التي استقبلت الزائر الفلسطيني الأول بعد أيام من نجاح الثورة وسقوط نظام الشاه، بشعار صريح “اليوم إيران وغداً فلسطين” وفي لحظة حصار حول المقاومة الفلسطينية جعلت “بريجنسكي” مستشار الأمن القومي الأميركي أن يعلن “وداعاً لمنظمة التحرير الفلسطينية” فاغتنمها الزائر الفلسطيني ياسر عرفات وأعلن من طهران “وداعاً للمصالح الأميركية في المنطقة” بعدما أكد وحدة الثورتين.. أين هي الآن، وإلى أين انتهت بها التجربة؟

اقرأ أيضاً: الدور الإيراني في اتجاه أوروبا والعرب والتسوية

طريق الاعتدال

منهجياً، إيران على طريق الاعتدال والإصلاح والنهج الخاتمي، رغم كل مظاهر وتعبيرات التطرف هنا وهناك، فهل تصل أو تنكفئ ؟ لا شك ان مسيرتها معقدة ..  ومن هنا ولأنها على طريق الاعتدال فمسألة رئاسة الجمهورية شبه محسومة، خاتمي هو الرئيس، إلا أن يحصل تطور ميلودرامي مفاجئ وغير محسوب… وعلى هذا الأساس يتردد الأكثر تشدداً في التيار المحافظ في ترشيح أنفسهم (د. علي أكبر ولايتي وزير الخارجية السابق والمستشار السياسي للقائد السيد علي خامنئي، ومحمد جواد لاريجاني مدير الإذاعة والتلفزيون، ومحمد رضا باهنر (النائب في المجلس ونجل رئيس الوزراء الشهيد محمد جواد باهنر) وفي قرارة أنفسهم وأنفس أنصارهم أنهم من الصعب أن ينالوا الأصوات الكافية لحفظ صورتهم السياسية (دون السبعة ملايين التي نالها المرشح الأقوى منهم في الانتخابات السابقة ضد خاتمي “علي أكبر ناطق نوري”) هذا في حين يقدر المراقبون أنه لو انسحب خاتمي وكان المرشح مكانه الدكتور عطاء الله مهاجراني، وزير الإرشاد السابق، مثلاً، فإن من المحتمل أن تكون الأصوات التي ينالها مساوية لأصوات خاتمي، أو أكثر، ولكن مشكلة الإصلاحيين أن مهاجراني لم يقطع صلته تماماً بالرئيس السابق وذي الموقع الثابت الشيخ هاشمي رفسنجاني، باعتبار أن مهاجراني عضو مؤسس في إطار كوادر البناء، حزب رفسنجاني الملتبس بالإصلاحيين، ما يعني أن هناك تمايزاً بين جبهة المشاركة وجبهة الثاني من خرداد (الإطارين الأقرب إلى خاتمي) وبين مهاجراني وما يمثل أو من شأنه (أي التمايز) أن تترتب عليه آثار عملية فيما يخص صلاحيات الرئاسة والدستور، باعتبار أن رفسنجاني لا بد أن يؤثر في القرار، وهو المعروف ببراغماتيته في أكثر الأمور. ويتذكر الأكثر حذراً من الإصلاحيين أن مهاجراني كان مرشح السيد خامنئي للوزارة من بين أسماء اقترحها في بداية عهد خاتمي، إلى ذلك فإن موقف المحافظين، معتدليهم ومتشدديهم على مقدار كبير من الحذر من مهاجراني، الذي حاولوا إسقاطه من الوزارة، فتجنب ذلك بالاستقالة، وهم يتذكرون له شعاراته في الديموقراطية الإسلامية (أي المزج بين الإسلام والغرب) على رأيهم، مما يتماس مع ولاية الفقيه، وغيره من الشعارات التي لم يتحملوا طرحها.

تنازلات أساسية

إذن فإيران إلى الاعتدال وإلى خاتمي رمزاً من رموزه، من دون توقع أن تؤدي الوسطية التي تترتب عملياً على المنهج الاعتدالي إلى تنازلات أساسية من قبل خاتمي وتياره الإصلاحي، خاصة أنه مستمر في طريقه للاستقواء بالداخل والخارج على الداخل، واستفادته من الإيجاب والسلب معاً، فالرد على نجاحه في روسيا كان اعتقال قيادات منظمة مجاهدي الثورة الإسلامية وحركة تحرير إيران وإغلاق عدد من الصحف الإصلاحية، (في حين كان هناك كلام عن تخفيف الأحكام على المسجونين في قضية مؤتمر برلين قبل سفر خاتمي إلى موسكو). وهو السلوك المعتاد من المحافظين إثر أي خطوة انفتاحية أو رحلة ناجحة يقوم بها خاتمي إلى الخارج (إيطاليا وفرنسا وأقطار عربية مختلفة سابقاً) ولكن نجاح خاتمي في روسيا، وفي لحظة عاد فيها العقل الأميركي إلى التفكير بتجديد الرهن على الخليج، جعل السيد خامنئي، يلتفت إلى هذه المسألة ويمتدح شجاعة الرئيس خاتمي علناً… ويبقى أن الإصلاحيين ماضون في استجماع عناصر القوة السياسية ملتفتين إلى أهمية الخارج من دون اندفاعات كبيرة، ما من شأنه أن يزيد عناصر القوة اللازمة لرئاسة خاتمي ويعطيه فرصة لإظهار اعتداله على قاعدة مشروعه الإصلاحي، على أنه حل للجميع… ومن هنا يأتي انعقاد مؤتمر فلسطين والانتفاضة في 24 و25 نيسان القادم، وبحضور خمسمئة شخصية عربية وإسلامية وعالمية ذات مواقع فكرية أو سياسية أو نضالية، ومن بينهم ثلاثون من رؤساء المجالس النيابية أو نواب الرؤساء، باعتبار أن المؤتمر تحت رعاية مجلس النواب الإيراني، وعبر لجنة الشؤون الخارجية فيه، وإشراف السيد علي أكبر محتشمي رئيس اللجنة، والشخصية المثيرة للجدل والحذر أميركياً وإسرائيلياً بلحاظ شراكته الفعلية في تأسيس المقاومة في لبنان. هذا على الرغم من أن بعض المعنيين من الإيرانيين يعتبرون أن هذا المؤتمر سوف يرتب على إيران مصاعب دولية إضافية، وإن كان بعض المعنيين والمحاورين للقيادات الإيرانية لا يخفون تساؤلاتهم عن برودة الموقف الإيراني الفعلي من الانتفاضة، وعن أسباب انضمام البخل الإيراني إلى الشح العربي في دعم الانتفاضة مالياً: فيؤكد الإيرانيون أنهم لم يبخلوا ولن يبخلوا ولا ضرورة للإعلان، كما يؤكدون خوفهم من أن يؤدي الدعم غير المحسوب إلى تنشيط الأطراف الأقل تشدداً في الجانب الفلسطيني، ما يعني أن الدعم سوف يصب في طاحونة المفاوضات التي لا تشجعها إيران، وإن كانت ما تزال تعلن التزامها بتمرير التسوية وعدم المساهمة في تخريبها، إذا ما كانت خالية من الاستفراد بالأطراف العربية وكانت أقل جوراً على هذه الأطراف. علماً بأن الإيرانيين يشكون من حرج شديد تجاه قواعدهم الشعبية التي أخذت تركز نظرها على همومها الداخلية وتتنصل من القضايا الكبرى، ومنها فلسطين، مستندة فيما تستند إليه إلى تقصير الفلسطينيين في تقديم قضيتهم للشعب الإيراني كما ينبغي؟ ويضيف المعنيون الإيرانيون بأنهم لم يقصروا ودفعوا ثمن انحيازهم لفلسطين، كل فلسطين، بينما كانت المفاوضات هي الثمرة؟

المهم في النهاية أن التناغم بين السيد خامنئي والرئيس خاتمي إن لم يؤدِ إلى ترجيح خط الاعتدال الأجدى لإيران وأصدقائها وحلفائها.. فسوف يكون المستقبل الإيراني شديد الغموض والخطورة

ويمتد هذا الحذر إلى لبنان الذي أخذ الإيرانيون يتعاملون معه بدقة وتمعن أكثر في ما يبدو وربما الى حين أيضاً، وإن كان هناك بين المسؤولين الإيرانيين من يدخل إلى المسألة اللبنانية من مدخل خاطئ فيعتبر لبنان محافظة من محافظات إيران يعنيه ما يعنيها، من دون نظر إلى الخصوصيات والمكونات المختلفة والموقع الأشد حساسية… خاصة بالنسبة إلى شيعة لبنان الذين تقتضي ظروف حياتهم ومستقبلهم وماضيهم النضالي القريب والبعيد أن يكونوا أكثر اندماجاً بالكيان وأهله وأقل توتراً.

اقرأ أيضاً: إيران والمقاومة وفلسطين والانتفاضة: ذاكرة العلاقة واحتياطات المستقبل

المهم في النهاية أن التناغم بين السيد خامنئي والرئيس خاتمي إن لم يؤدِ إلى ترجيح خط الاعتدال الأجدى لإيران وأصدقائها وحلفائها.. فسوف يكون المستقبل الإيراني شديد الغموض والخطورة.

عوداً على بدء، قد يكون يقيننا بعودة خاتمي رئيساً هو ناتج عن خلط المعلومة بالرغبة وهو لا يمنع من التساؤل: هل رئاسة خاتمي حتمية؟ ألا يمكن أن يصل التقابل الحاد بين الإصلاحيين والمحافظين إلى تدخل أطراف قوية بعيدة ظاهرياً عن المشهد السياسي، ولكنها معنية به أساساً، وتشكل التوجهات المحافظة جاذبية لها؟ هنا يحسن التوقف عند الموقف التحذيري الذي أعلنه السيد محسن رضائي من قضية خاتمي والرئاسة، ورضائي قائد سابق للحرس الثوري وغير مقطوع الصلة به، وهو الآن في موقع فاعل في مجلس تشخيص مصلحة النظام… يحسن الانتباه إلى رضائي الذي يقف على يسار الخط المحافظ.

(23/4/2001)

السابق
مقدمات نشرات الأخبار المسائية ليوم السبت في 4/7/2020
التالي
إحتكار مريب «يُبخّر» المواد الغذائية.. والكاز يختفي بعد المازوت والبنزين!