إيران والمقاومة وفلسطين والانتفاضة: ذاكرة العلاقة واحتياطات المستقبل

هاني فحص

منذ أشهر عدة، كان بعض المعنيين والمتابعين عن كثب، للأوضاع في الضفة الغربية وقطاع  غزة، ومن القاهرة الموصولة والمتصلة يومياً بما يجري هناك، يؤكدون على أن الانتفاضة قائمة أو قادمة، لأن القدس وعودة اللاجئين ليسا مطلبين حسب، وإنما هما تلخيص مكثف لأصل القضية، ومن يتساهل في أمرهما لن يجد شيئاً يقوله، وأن قال فلا مصداقية لقوله، لا عند الصديق ولا عند العدو. وهما في نظر العدو معادلان سلبيان لوجوده دولة أو مجتمعاً، إذاً فنصاب التناقض الحاد والتناحري ما زال وسوف يبقى قائماً.

اقرأ أيضاً: طهران وواشنطن… التنازل عن التفاصيل حفاظاً على الأصول

تاريخ الانتفاضة الأولى

إلى ذلك، قيل في القاهرة أيضاً إن هناك اتفاقاً لم يعد ضمنياً بل أصبح صريحاً، بين قيادات الداخل الوطني الفلسطيني، والمتحدرة من تاريخ الانتفاضة الأولى، والمنسجمة سواء من مواقعها الشعبية أو مواقعها في تنظيمات فتح خصوصاً، أو مواقعها في السلطة الوطنية ومؤسساتها، مع قواعدها الحركية والشعبية، بما يتيح لها مزيداً من القراءة المشتركة للواقع ودواعي واحتمالات تحريكه باتجاه الأفضل، والأفضل دائماً هو الممانعة ثم المعاندة ثم الانتفاضة. نظراً لأن عملية السلام مسدودة على المطالب الفلسطينية الأساسية، والتي يأتي انسدادها من كونها في حال تحققها تصبح نقضاً ميدانياً للإيدلوجيا الصهيونية في فلسطين، والقائمة على معادلة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، والتي انكشفت كلياً أو جزئياً، وأصبحت على طريق إذا استمرت فيه فسوف تنتهي إلى غايتها المنطقية وهي إفقاد الكيان مبررات وجوده، واقعياً وفي وعي أهله المقسمين بعيداً عن العلمانية والأصولية والشرقية والغربية، إلى قسمين أحدهما لا يطيق التساكن ولا حتى التجاور مع العرب، والآخر ذرائعي ممعن في ذرائعيته، أو وصوليته ونفعيته إلى حد استعداده لبيع كل شيء، من الصهيونية إلى اليهودية من أجل أن يبقى في فلسطين، بصرف النظر عن المشروع السياسي الذي يحتضن بقاءه ووجوده. وهكذا تم التفاهم بوضوح على أن حساباً كبيراً يبقى مفتوحاً للمفاوضين وللسيد ياسر عرفات، ولكنه ليس حساباً مطلقاً لدى القوى الشعبية، وفي مقابله يؤمن المفاوضون والسيد عرفات تغطية كاملة لحساب هذه القوى، بشرط الاتفاق على طريقة السحب والتسييل والصرف، أي في النهاية تم التفاهم على مطابقة التكتيك السياسي مع الاستراتيجية النضالية، وكان ذلك أبرز تعبير عن الوحدة المنشودة كرافعة للمواجهة، على أن يكتمل هذا المسار بخط من العلاقات المرنة مع القوى الوطنية الأخرى والإسلامية، بصرف النظر عن أحجامها المختلفة وفعاليتها المتفاوتة… ويكشف المتابعون في هذا المجال، أن الحادث الشهير والدموي منذ سنوات على معبر ريتز والذي سقط فيه ثلاثة وتسعون شهيداً فلسطينياً، لم تكن أسبابه مطلبية عمالية بقدر ما كانت سياسية، يستدلون على ذلك بأن عدداً من الشهداء والجرحى كانوا من الطلاب ومن أعضاء التنظيم السياسي. وأن ياسر عرفات كان على علم إجمالي بما كان يعد باعتباره يدخل في المدى الاستراتيجي المتبانى عليه، كما يشكل مفصلاً تعبوياً يمكن الاستفادة منه سياسياً، وإن في حدود. ويضيف المتابعون دليلاً آخر، وهو سقوط ما يقارب الأربعين يهودياً بين جريح وقتيل في هذا الحادث، وأن بينهم عدداً من الضباط، إذاً كان هناك سلاح قد استعمل… وكان الحادث شهادة أو تمريناً ميدانياً على الجمع بين الاستراتيجي والتكتيكي على أرض القطاع والضفة، تمهيداً لاستئناف هذا المسار على المدى الطويل، على أرض فلسطين من النهر إلى البحر. هذا الكلام يمكن التفريع عليه كثيراً وفي اتجاهات عدة، والذي سأقوم به في هذه العجالة هو التفريع عليه في اتجاه المستجد في العلاقات الإيرانية – الفلسطينية، أو ما يمكن أن يكون مقدمة لعلاقات جديدة، كانت الإرادات المشتركة لبنائها حائرة من أين تبدأ؟ بعد تاريخ طويل من الالتباسات، إلى أن فتحت الانتفاضة بعد تحرير الجنوب، الدرب واسعاً لهذه الإرادات لتتلاقى وتتكامل، حتى أصبح مفهوماً بعدما كان منتظراً، أن يستبشر كثيرون ويبشروا بإمكان استواء العلاقة بين الجمهورية الإسلامية في إيران والمقاومة الإسلامية في لبنان من جهة، وبين التيار الوطني الفلسطيني وقيادته الشعبية والرسمية في فلسطين، من دون أن يكون ذلك بالطبع، على حساب القوى الشريكة وطنياً أو إسلامياً والمقاومة، وعلى أن يكف التيار الوطني الفلسطيني المحكوم بخلفيات إسلامية ووطنية وقومية، عن اعتبار العلاقة الإيرانية بالتيارات الأخرى (الإسلامية والوطنية) تهدف، ثانياً، أي بعد أولوية مواجهة العدو، إلى محاصرة أو إضعاف التيار الوطني (فتح تحديداً والسلطة الفلسطينية) وتكف التيارات الإسلامية المحكومة بوعي وطني وقومي ما والتيارات الوطنية الأخرى المتناغمة معها، عن اعتبار نفسها الطرف الوحيد القابل أو المؤهل للتواصل والتناغم مع إيران والمقاومة الإسلامية وحزب الله.

الساحة الفلسطينية

هذا مع شرط ضمني ومنهجي، وهو أن لا يطمح أي طرف إلى نقل تجربة المقاومة الإسلامية في لبنان بتفاصيلها وحذافيرها إلى الساحة الفلسطينية، الآن وليس غداً، لأن التجارب النضالية إذا ما نسخت مسخت، خصوصاً وأن المعطيات والآفاق مختلفة، في حين أنه يكون من الممكن الإعداد لدمج التجارب وتوليد مسارات نضالية جديدة، من المجموع على مقتضيات المرحلة المقبلة، التي يمكن أن تعقب اندحاراً إسرائيلياً من الضفة والقطاع، وإقامة دولة فيهما عاصمتها القدس الشرقية، التي سوف تبقى حتى على هذا الاحتمال عامل تفجر وتفجير، مثلها مثل قضية عودة اللاجئين… وعندئذ يبدأ التفكير الجدي بمواصلة النضال المشترك نظرياً وعملياً لإنجاز التحرير الكامل من دون استعجال، والانتهاء إلى تعديل الرؤية من طرح الدولة الديموقراطية أوائل السبعينات، على مقتضى الحداثوية الغربية، بأطروحة تتضمن إقامة دولة فلسطينية على غرار التجربة اللبنانية، بشرط تجنب سلبياتها، أي دولة واحدة لشعبين بدل الطوائف اللبنانية، أو على غرار التجربة البلجيكية، وهذه أطروحة قد تكون بعض ضماناتها أنها حل بالجمع كضمانة لاستمرارية من يتبقى من اليهود الذرائعيين (البراغماتيين) أي غير الأيديولوجيين، بعدما يستقر، في أذهان الآخرين منهم أن وجودهم ليس مضموناً إذا ما استمروا على رغباتهم في الوجود الصافي، والذي يعرفون تماماً أنه ليس صافياً تماماً… ولعل الانتفاضة المكملة في الأراضي المحتلة عام 1948 تؤكد أن من العبث حصر القضية على موجبات نكسة عام 67 بل موجبات النكبة عام 1948 هي الفضاء الملائم للقضية.

لا بد من الملاحظة أخيراً، أن الاضطراب والانقطاع والتعارض والتنازع والتصادم الذي عاد فاعترى العلاقات الإيرانية – الفلسطينية كان له أكثر من سبب… ومن أسبابه، أو لعله من أسبابه أنه لم يتم بداية التفاهم على حدود العلاقة وغاياتها ونهاياتها وقواعدها

ولا أظن أن طرحاً مبكراً أو مستعجلاً لهذا التصور يلقى رفضاً منهجياً من قبل إيران التي سبق لرئيس جمهوريتها الشيخ علي أكبر هاشمي رفسنجاني أن صرح للتلفزيون النمسوي عام 1978، وأعيد نشر تصريحه مع توضيحات وشروح في الصحافة الإيرانية الفارسية والعربية، فأكد أنليبس من أهداف الجمهورية الإيرانية حل مأساة الفلسطينيين بمأساة جديدة، وأن المطلوب هو أن تكون في فلسطين دولة ديموقراطية يتكافأ في بنائها والعمل لها وفيها المسلمون والمسيحيون واليهود… وأضاف: دولة لا طعم لها ولا لون ولا رائحة.

حركة الشعب الإيراني

وعلى أية حال، فإن حركة الشعب الإيراني والدولة الإيرانية المحكومة بضرورات قد  تلزمها بالانسجام مع توجهات شعبها أحياناً، هذه الحركة نحو الانتفاضة وفلسطين، ليست مفاجئة، ولكن تجب حراستها من المفاجآت، بإزالة الأوهام والألغام من طريقها. وهنا تعود بنا الذكرى للأيام الأولى لنجاح الثورة، حيث امتلأت طهران بشعارات مكتوبة بشاعرية ثورية تعكس المزاج الشعبي وتطلعاته، وتعبر عن رد مخزون ومكنون على ممارسات وتوجهات نظام الشاه وعلاقته بإسرائيل، والتي انعكست سلباً وغضباً في حياة الشعب الإيراني ووجدانه المبني على الإيمان والتوحيد والعلاقة الثقافية والحضارية والمصيرية بالأمة العربية… ومن أكثر تلك الشعارات دلالة وتركيزاً شعار “اليوم إيران وغداً فلسطين” وكأن إسقاط نظام الشاه والانعتاق الإيراني ليس في وعي الشعب إلا مقدمة للهدف النهائي وهو تحرير فلسطين… وهل هذا ما لمسه ياسر عرفات أثناء تواصله مع الجمهور الإيراني في طهران ومشهد والأهواز، فجعله أثناء كلامه عن الثورة الواحدة في بلدين والقيادة الواحدة الممثلة في الإمام الخميني (بحسب نص متكرر للسيد عرفات في خطاباته أثناء تجواله في إيران) يجد مناسبة للرد على كلام كان قد أطلقه بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأميركي وقتها، حيث قال: “باي باي لمنظمة التحرير” فقال عرفات أكثر من مرة ومن طهران والأهواز على مقربة من مضيق هرمز: باي باي لمصالح أميركا في المنطقة، وبعد أشهر كان احتلال السفارة الأميركية الذي جاء رداً ثورياً على لقاء بين مسؤولين إيرانيين من حركة تحرير إيران مع بريجنسكي في الجزائر، لتعود الولايات المتحدة فترد بالحرب العراقية – الإيرانية، وتستكمل ردها باحتلال الكويت وتحريرها، مقدمة إلى أوسلوا.

الانقطاع والتعارض

ولا بد من الملاحظة أخيراً، أن الاضطراب والانقطاع والتعارض والتنازع والتصادم الذي عاد فاعترى العلاقات الإيرانية – الفلسطينية كان له أكثر من سبب… ومن أسبابه، أو لعله من أسبابه أنه لم يتم بداية التفاهم على حدود العلاقة وغاياتها ونهاياتها وقواعدها… فقد كان الطرف الفلسطيني يريد إيران كلها رقماً في حسابه، الذي يدخل فيه احتمال السلام والحل الجزئي أو السلمي أو التسوية، كما كانت القيادة الإيرانية تريد نمطاً من العلاقة مع منظمة التحرير تدخلها تماماً في الحساب الإيراني الاستراتيجي، الذي لا بد فيه وله من حساب المساحات المختلفة والتمايزات، وعلى صعوبة أو استحالة هذين التصورين، ترتبت خلافات أخرى وجزئيات وتفاصيل كان يمكن تلافيها وغض النظر عنها، لو كانت العلاقة من الأساس، قائمة على أكثر من الحب والإيمان والشعور بالأخوة أي على الحسابات الدقيقة والمكاشفة والصراحة واليقين بالاختلاف على قاعدة الاتفاق ، ما نحن مع إيران وفلسطين، نحن العرب والمسلمين جميعاً، بحاجة إليه الآن، لأننا بحاجة إلى فلسطين وإيران، وإيران بحاجة إلى فلسطين كما أن فلسطين بحاجة إلى إيران… نريد علاقة نتجنب في حقولها منازعات بيادرها. خصوصاً في ما يعود إلى الوحدة العميقة بين الفلسطينيين والتي ظهرتها في شكل ساطع الانتفاضة الأولى وأكدتها الانتفاضة الثانية الأبعد مدى ودلالة وفي الداخل الفلسطيني الذي تأتي منه الأمثولة ورعاها ياسر عرفات الوحدوي.

اقرأ أيضاً: إنهم يرجحون الحوار مع واشنطن

إن التصور أو الطموح الإيراني بموقع محدد أو محدود لمنظمة التحرير في السياق الثوري الإيراني كان في رأي البعض يشكو من تبسيط ثوري لا يتناسب مع تعقيدات القضية والشعب الفلسطيني، ومنظمة التحرير كما كان التصور، أما الطموح الفلسطيني بموقع الثورة الإيرانية ودولتها في المسار الفلسطيني المعقد.. تبسيطاً كذلك، لأنه لم يأخذ باعتباره حجم إيران وحساسياتها المتراكمة عبر تاريخ طويل من العلاقة التبعية بالولايات المتحدة والفوائد الحرام التي جنتها إسرائيل من هذه الوضعية الى شيعيتها المستحضرة وفارسيتها الحاضرة والتي قد تدفعها نحو فلسطين ولكن لحل العقدة والعودة بعد ذلك الى إشهار الخلاف مع العرب والرغبة في الإختلاف عنهم … ومن هذه المسافة الموضوعية تحررت أسباب القطيعة أو الخلخلة التي كان يمكن تفاديها لولا أن الآمال التبست بنوع من الأوهام. والتوقعات والمراهنات التي افتقدت المسوغات أو المبررات الموضوعية… وهذا ما قد يكون من اللازم أخذه في الاعتبار الآن على أبواب المرحلة التي كانت الانتفاضة تدشيناً لها، بما كشفته وعمقت الوعي من علائق موضوعية تجب حمايتها من الذاتيات ومن تفاقمها لدى الطرفين.

(18 كانون الأول 2000)

السابق
بالفيديو: بعد أعمال الشغب أمس.. الحريري يجول في وسط بيروت لتفقد الأضرار
التالي
لبيروت.. عروس وعرّابة في موسم واحد!