إدلب: بوتين المنتقم من عودة أردوغان إلى أميركا

ادلب
يدفع المدنيون السوريون في إدلب ثمناً قاسياً لنهاية التقارب الروسي - التركي واستئناف أنقرة مجاراة السياسة الأميركية في سورية وليبيا... وإيران.

تركيا الأطلسية

أعادت روسيا لتوّها اكتشاف أن تركيا لا تزال أطلسية وستبقى، وأن كل التقارب بادي الودّ بين “القيصر” و”السلطان” لم يتمكّن من تغيير الوضع الجيو-استراتيجي لتركيا. لذا قرر فلاديمير بوتين أن أنقرة تستحق عقاباً، أولاً لأنها بقيت على الخط الأميركي في سورية، وثانياً لأن رجب طيب اردوغان حصل على ضوء أخضر من دونالد ترامب للتدخّل في ليبيا. اعتقد بوتين أنه أغدق من المكاسب السورية على تركيا ما يجعلها تفكّر كثيراً قبل الانقلاب عليه، فلولا دعمه لما أقامت منطقة “درع الفرات” ولا احتلّت عفرين ولا ثبّتت “المنطقة الآمنة”، ولولا “اتفاق سوتشي” لما كانت لها نقاط مراقبة في إدلب وبعض ريفَي حلب وحماة.

العقاب البوتيني

في أي حال نزل “العقاب” البوتيني على المدنيين السوريين، فمنذ نيسان (ابريل) 2019 والسيناريو يتكرّر: قصف لمقوّمات العيش، تهجير للسكان، قضم للمناطق… إلا أنه تسارع تصعيداً ووحشيةً في الأسابيع الأخيرة، لتعيد تركيا بدورها اكتشاف أن روسيا تريد “كلّ سورية”، ولن تترك لها نفوذاً إلا في حدود ما سبق أن حصلت عليه في “اتفاق أضنة” عام 1998 الذي يتيح تحركاً منسّقاً وموقّتاً في حدود خمسة الى عشرة كيلومترات لدواعٍ أمنية داهمة. قبل ذلك كان السوريون أعادوا للمرّة الألف اكتشاف أن الأتراك لم يأتوا الى هنا أو هناك للدفاع عنهم وحمايتهم، لكن الجديد هذه المرّة أنهم أغلقوا الحدود ولم يعودوا يرحبون بأي لاجئ.

اقرأ أيضاً: الحكومة العراقية المقبلة أمام انسداد سياسي

اغتيال سليماني شكّل رسالة قوية الى “ثلاثي استانا”، وأهمّ ما تطرحه تلك الرسالة أن إيران يمكن أن تُضرب، وأن روسيا ستواجه مزيداً من الضغط والاحتواء خصوصاً في سورية، أما تركيا فتُعطى فرصة لتحديد خياراتها بدلاً من مواصلة اللعب على الحبلين بين الولايات المتحدة وروسيا

بازار إعادة الإعمار

قبل عامين، عندما راحت روسيا تبشّر بأن “الحرب انتهت” لتفتتح ورشة “اللجنة الدستورية” وبازار “إعادة الإعمار”، بالتزامن مع انتهاء “الحرب على داعش”، كانت تعتقد أن الدول المعنية ستتهافت على مكافأتها وتلبية عروضها لتعوّض تكاليف تدخّلها في سورية. لكنها اصطدمت سريعاً بشروط هذه الدول، ومنها تركيا، بحكم أنها تؤوي لاجئين وينبغي أن تكون لها كلمة في أمرين على الأقل: حل سياسي “حقيقي”، وعودة “آمنة” للاجئين والنازحين… وفي المداولات فهمت موسكو أن أحداً لم يأخذ بصدقية “المصالحات” التي أجراها نظام بشار الأسد وضمنتها قاعدة حميميم باسم روسيا، لذلك اضطرت موسكو لتقديم تعهّد كاذب مفاد إبقاء الوضع في إدلب على حاله وربط حسمه بالحل النهائي. لكن، في انتظار هذا الحلّ، كان ينبغي العمل على تصفية الجماعات المصنّفة إرهابية في إدلب، فكان “اتفاق سوتشي” بين بوتين واردوغان (أيلول/ سبتمبر 2018). ومع أن “اللجنة الدستورية” اعتُبرت عنواناً للحل السياسي فقد استغرق تشكيلها نحو عامين، ثم اعتُبر انعقادها خطوة واعدة نحو الحلّ لكن روسيا ونظام الأسد (وإيران طبعاً) تشاركوا في تعطيلها لحظة بدء عملها. أما الهجمات في إدلب فأكّدت لمن بقي لديه أي شك أن ما أرادته روسيا وحليفاها على الدوام هو الحلّ العسكري.

“بشاعة” الوجود الروسي – الإيراني في سوريا

لم تكتفِ هذه الهجمات بتدمير روسي – أسدي متعمّد لكل المرافق، مستشفيات ومخابز وأسواق ومدارس، بهدف إخلاء المدن والبلدات والقرى، بل انها خطّطت لاستخدام النازحين كرسائل تحدٍّ وضغط على الدول التي تنتقد سلوك روسيا واجرامها ووحشيتها. لكن الرسالة التي تأكّد وصولها هي أن الوجود الروسي في سورية لم يتمكّن ولا مرّة من ضمان استقرار وحياة كريمة في أي مكان عادت إليه سيطرة النظام، ولم يستطع أبداً احترام تعهّداته في الغوطة ودرعا مثلاً، أي أنه تبنّى أساليب “الشبّيحة” الى حدّ التغاضي عن أعمال النهب/ “التعفيش” في المناطق المستباحة في إدلب. وبذلك لم يختلف الوجود الروسي عن الوجود الإيراني الذي سبقه ويستمرّ معه، فكلاهما احتلال يعيش على الخراب ولا يقلّ بشاعة عن نظام الأسد ولا يعقد عليه أي رجاء أو رهان.

اتّبع الروس في إدلب أسلوب قضم المناطق من دون استفزاز الأتراك، لكن هؤلاء استُفزّوا أخيراً ولمسوا سعياً الى اقصائهم عن المشهد السوري. ذاك أن خسارة دورهم في إدلب يهدّد وجودهم في مناطق نفوذهم الأخرى غرب الفرات وشرقه. لذلك عمدوا الى ادخال تعزيزات عسكرية غير مسبوقة نوعاً وعدداً، واقتربوا كثيراً من وضع الروس أمام اختبار دقيق لم يصادفهم منذ بداية تدخلهم، والأرجح أنهم لن يقبلوه ولن يرضخوا لمطالب أنقرة وإنْ مالوا الى خفض التصعيد بتسوية تمرّر المرحلة ولا تدوم طويلاً. لكن ما الذي قلب مزاج التقارب بين بوتين واردوغان رأساً على عقب؟

اقرأ أيضاً: واشنطن تسحب «وكالة» الملف السوري من موسكو

لم يختلف الوجود الروسي عن الوجود الإيراني الذي سبقه ويستمرّ معه، فكلاهما احتلال يعيش على الخراب ولا يقلّ بشاعة عن نظام الأسد ولا يعقد عليه أي رجاء أو رهان

ما بعد سليماني

  • انها مرحلة “ما بعد سليماني”، كما يجيب البعض، بما طرحته من متغيّرات كان الرئيس الروسي أول من التقط إشاراتها. فالاغتيال شكّل رسالة قوية الى “ثلاثي استانا” أو “المحور الأوراسي”، كما يسمّى. وأهمّ ما تطرحه تلك الرسالة أن إيران يمكن أن تُضرب، وأن روسيا ستواجه مزيداً من الضغط والاحتواء خصوصاً في سورية، أما تركيا فتُعطى فرصة لتحديد خياراتها بدلاً من مواصلة اللعب على الحبلين بين الولايات المتحدة وروسيا.
  • انتهز بوتين أجواء اغتيال سليماني فقام بتلك الزيارة الخاطفة لدمشق، أولاً لتثبيت الأسد في واقع جديد لم يعد يتيح له الرهان على حليف آخر غير روسيا. ثم تابع طريقه الى تركيا ليتفاهم مع اردوغان على مصالحهما في ليبيا، وليباشرا عملية مشتركة ترمي الى انتزاع الملف الليبي من الأوروبيين. كان ذلك عشية مؤتمر برلين، لكن تركيا لم تغيّر شيئاً في مقاربتها للأزمة الليبية فازداد تناقض الأهداف بروزاً بينها وبين روسيا.
  • تأكّدت موسكو أكثر فأكثر أن اردوغان نسّق تدخله في ليبيا مع ترامب خلال لقائهما على هامش قمة الأطلسي في لندن، إذ كانت واشنطن تبحث عن طرف يقيم نوعاً من التوازن في غرب ليبيا مع التدخّل الروسي المتزايد في شرق ليبيا. يعتقد بعض المصادر أن بوتين ظنّ أنه بتفاهمه مع اردوغان يمنح الأخير نفوذاً في ليبيا ليُسكته إذا حاولت روسيا أن تأخذ مقابلاً لهذا النفوذ في سورية، تحديداً في إدلب.
  • حصل بعدئذ أن بدأ الاميركيون يوقفون دوريات روسية في شرق سورية وتشدّدوا أكثر في تطبيق العقوبات على نظام الأسد تحديداً في شروط شرائه النفط من “قسد”، واستمرّت الضربات الأميركية – الاسرائيلية للميليشيات العراقية الموالية لإيران في منطقة الحدود العراقية – السورية أو لمواقع تخزين الأسلحة الإيرانية بالقرب من دمشق، كما طرأت تحوّلات عدة على المواقف التركية وتمثّلت بتهدئة نادرة للمواجهة اليومية مع أكراد شرقي سورية وبتراجع التضامن مع ايران ضد العقوبات الأميركية وبإفشال اجتماع موسكو بين مديرَي الاستخبارات التركي والسوري.
  • كلّ ذلك ولّد احتقاناً ما لبث الروس أن فجّروه في إدلب ضد المدنيين أولاً وبالأخص ضد الفصائل السورية التي قاتلت وتقاتل الى جانب تركيا في شرقي سورية وكذلك في ليبيا. وتضمن تصعيدهم تهديداً لتركيا ورسائل غضب ونفاد صبر موجهة الى الاميركيين والأوروبيين، لكن كلّ ما تفعله روسيا يفاقم غرقها في المستنقع السوري.
السابق
باراك أوباما من رئيس البيت الأبيض إلى فائز بالأوسكار
التالي
تحذير فرنسي يُهيب بلبنان عدم دفع الاستحقاقات: «طير القمام بإنتظاركم»!