13 تشرين… يوم سقط الوهم

13 تشرين الاول 1990
...كان يوم 13 تشرين الأول من عام 1990 يوم نهاية الوهم الذي كنا نعتبره حلماً، فإذا بنا نستفيق صبيحة ذلك اليوم على حقيقة أن الحلم إنقلب إلى كابوس ولنكتشف كم كنا سذّجا حين راهنا على من كنا نعتبره رئيس حكومة لبنان الشرعي وقائد جيشه، والذي أعلن ليلة 13 تشرين أنه باق وسيقاتل ولو بسكين المطبخ دفاعا عن لبنان وحريته وسيادته، نحن الذين كنا تعبنا من الحرب والدمار التي كانت قد بدأت بإغتيال المناضل معروف سعد و"إنتهت" بإغتيال الزعيم كمال جنبلاط لتتحول بعدها إلى صراع محاور إقليمية ودولية بعد دخول القوات السورية إلى لبنان تنفيذا لإتفاق مورفي - الأسد لنصرة الجبهة اللبنانية التي كانت تمثل اليمين اللبناني المسيحي آنذاك، والتي كانت على وشك خسارة الحرب، فكان أن تم ضرب الحركة الوطنية اللبنانية التي كانت تمثل قوى اليسار اللبناني والقوى القومية والإسلامية، مدعومة بقوى الثورة الفلسطينية يومها.

أغتيل كمال جنبلاط وتم تدجين ما تبقى من الحركة الوطنية تحت ضغط الأحداث الإقليمية وزيارة السادات للقدس ما ترك آثاره على الساحة اللبنانية، تمثل بإنقسام اليمين المسيحي بسبب من الصراع على مناطق النفوذ بين قوات المردة بقيادة طوني فرنجية يومها وقوات الكتائب بقيادة بشير الجميل بداية، والذي أججه الصراع في المنطقة بين سوريا التي كانت تدعم فرنجية، وإسرائيل التي كانت لها علاقات مع الجبهة اللبنانية وخاصة حزبي الكتائب والأحرار، وكانت مجزرة إهدن في العام 1978 والتي أودت بحياة طوني فرنجية وزوجته وإبنته والعشرات من مناصريه.

بعدها بدأ الصراع المكشوف بين القوات السورية وقوات الجبهة اللبنانية فكانت معركة الفياضية وحصار الأشرفية لأكثر من مئة يوم ذاق فيها المدنيون الأمرين وكان أن خرجت بنتيجتها القوات السورية من المنطقة الشرقية لبيروت لينحصر وجودها في غرب بيروت، منطقة تواجد أحزاب الحركة الوطنية وحركات المقاومة الفلسطينية التي دخلت في صراع سوري – فلسطيني على النفوذ نتيجة محاولة النظام السوري الإمساك بالورقة الفلسطينية في وجه التطورات في المنطقة التي أدت لتوقيع مصر إتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل.

اقرأ أيضاً: 13 تشرين يقسم اللبنانيين: انتصار أم عار؟

في هذه الأثناء كانت المنطقة الشرقية تشهد هي الأخرى معارك ومصادمات شبه يومية بين الأطراف المتصارعة فيها وخاصة، الحزبين الرئيسيين الكتائب والأحرار على مناطق النفوذ بينهما وفرض الإتاوات على المواطنين، فكان أن خاض بشير الجميل ما أسماه يومها حرب توحيد البندقية، فكانت مجزرة الصفرا ضد أنصار الرئيس السابق كميل شمعون الذي خسر المعركة ما إضطر نجله داني للجوء إلى المنطقة الغربية حيث “أعدائه” من اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين، بينما بلع هو الموسى كعادته وبقي في منطقته حيث تم توحيد القوى المسيحية تحت راية القوات اللبنانية بإمرة وقيادة بشير الجميل الذي بدأ بعدها بالعمل على تسويق نفسه إقليميا ودوليا ليكون الرئيس اللبناني المقبل بعد نهاية ولاية الرئيس إلياس سركيس في العام 1982 بدعم من بعض الأطراف في السلطة والجيش اللبناني الذين كانوا يشكلون جزءاً مهما من فريق عمله كجوني عبده وميشال عون وغيرهم.

وجاء العام 1982 بالإجتياح الإسرائيلي للبنان والذي بدا واضحا أنه كان منسقاً ومرتباً مع القوات اللبنانية، وكان ما كان من إجتياح لبيروت وخروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية والقوات السورية من بيروت وإنتخاب بشير الجميل رئيسا تحت ضغط الإحتلال والأوضاع المأساوية السائدة بمقاطعة من شخصيات إسلامية وازنة ما لبثت أن تحاورت معه وقبلت به بعد تدخل سعودي وعربي، وهو ما لم يرق للبعض على ما يبدو، فكان أن أغتيل وتبع إغتياله إقتحام إسرائيلي لبيروت الغربية ترافق مع مجازر صبرا وشاتيلا ضد اللاجئين الفلسطينيين والمهجرين اللبنانيين.
أنتخب أمين الجميل رئيسا خلفا لشقيقه بشير وتطورت الأحداث من إقتحام الجيش اللبناني للمناطق الغربية من بيروت تحت ذريعة بسط سلطة الدولة فكان أن أختطف الآلاف من الشباب وغيّبوا قسريا ما أدى إلى مناوشات وصدامات مع الجيش ترافقت مع حرب الجبل بين القوات اللبنانية التي عادت للمنطقة مع الدبابات الإسرائيلية وبين الحزب التقدمي الإشتراكي بقيادة وليد جنبلاط المدعوم يومها من سوريا والفلسطينيين والإتحاد السوفياتي أيام يوري أندروبوف الذي عوض سوريا وحلفائها خسائرهم في الإجتياح الإسرائيلي من الأسلحة والمعدات، وصولا إلى إتفاق 17 أيار بين لبنان ممثلا بسلطة أمين الجميل وإسرائيل الذي تسبب إضافة للأسباب الآنفة الذكر بإندلاع إنتفاضة 6 شباط عام 1984 وكان أن إنقسم البلد مجددا وعاد إلى الوضع الذي كان عليه قبل الإجتياح الإسرائيلي.

في المنطقة الغربية من بيروت عاد الصراع مجددا بين الأفرقاء المختلفين وكانت قد دخلت حركة امل على الخط بما تمثله من علاقات وثيقة مع النظام السوري، كان يقابلها حركة المرابطون المقربة من حركة فتح والتي خرجت منهكة من الإجتياح الصهيوني، وكان الصراع السوري – الفلسطيني على أشده بعد طرد ياسر عرفات من سوريا وإعتباره شخصا غير مرغوب فيه وما سبقه وتلاه من تنظيم إنشقاق لحركة فتح على أيدي المخابرات السورية وإغتيال سعد صايل (أبو الوليد) وهو من خيرة قيادات فتح وأكثرها تأثيراً، فكان أن إنفجرت بين أمل والمرابطون كان من نتيجتها هزيمة المرابطون وخروج زعيمها إبراهيم قليلات من لبنان حتى يومنا هذا، الأمر الذي ترك ندوبا في العلاقة على عادة اللبنانيين بين السنة والشيعة، وتكررت المصادمات وبدأت بالتنقل بين الأحزاب فبعد المرابطون باتت الصدامات بين أمل والحزب الشيوعي تارة والحزب التقدمي الإشتراكي تارة أخرى إلى أن كانت حرب العلمين بين أمل والإشتراكي ولم يبق أمام زعماء بيروت السنة في ظل الصراع اللبناني – اللبناني إلا اللجوء مرة أخرى إلى سوريا ليطالبوها بإعادة قواتها إلى بيروت.

في المنطقة الشرقية لم يكن الوضع أفضل، فالقوات اللبنانية بعد بشير لم تعد كما هي، فقد إنقسمت على نفسها جراء الصراع بين السلطة الممثلة بأمين الجميل والذي حاول وضع اليد عليها عبر قيادة فادي إفرام ومن بعده فؤاد ابي ناضر، وبين من يعتبرون أنفسهم رجال بشير في القوات فكان أن نشب الصراع العسكري ليسفر عن إنقلاب على قيادة القوات قام به إيلي حبيقة وسمير جعجع، وباتت المنطقة الشرقية تخضع لجيشين في الواقع، الجيش اللبناني الذي أصبح بقيادة ميشال عون وجيش القوات اللبنانية بقيادة حبيقة وجعجع.
مع تسارع الأحداث والتطورات بدأ الصراع الماروني – الماروني يطفو على السطح مع تعدد الرؤوس والقيادات في ظل تراخي وغياب القيادات التاريخية من أمثال بيار الجميل وكميل شمعون أما بسبب الوفاة أو لأسباب صحية ولأن كل ماروني مرشح لرئاسة الجمهورية بدأ الصراع يأخذ منحى كسر العظم، فكان أن إتجه حبيقة صوب إتفاق بينه وبين الميليشيات في المنطقة الغربية برعاية سورية طبعا فكان “الإتفاق الثلاثي” الذي وقعه في دمشق خلافا لرأي رفاقه في القوات اللبنانية، ورأي رئيس الجمهورية أمين الجميل، فكان الإنقلاب الثاني وقام به هذه المرة سمير جعجع وكريم بقرادوني الذي كان حاضرا توقيع الإتفاق في دمشق، وطبعا كان الإنقلاب بدعم من أمين الجميل والجيش بقيادة ميشال عون، وإستمر الوضع في التدهور وبدأ هذا التدهور يطال الوضع الإقتصادي بحيث بدأ سعر صرف الليرة يتدهور تدريجيا أمام الدولار الأميركي إلى أن وصلنا للإستحقاق الرئاسي عام 1988 وبعد أخذ ورد وتدخلات دولية تم الإتفاق بين سوريا والولايات المتحدة ودائما تحت خيمة إتفاق مورفي – الأسد المبرم عام 76 ، تم الإتفاق على إنتخاب مخايل الضاهر رئيسا للجمهورية وهو الأمر الذي رفضه المسيحيون بغالبية أطيافهم من رئاسة الجمهورية وبطبيعة الحال قيادة الجيش بقيادة عون، والقوات اللبنانية وغيرها من الفعاليات المسيحية وكانت كلمة ريتشارد مورفي الشهيرة مخايل الضاهر أو الفوضى، وكانت الفوضى إلى أن وصلنا إلى الربع الساعة الأخير من ولاية الجميل وطرحت عدة مخارج للحل عبر حكومة مدنية يرئسها ماروني وغيرها من الطروحات التي لم تلق قبولا من الطرفين المسيحي والمسلم، إلى أن أعلن أمين الجميل في الدقائق الأخيرة من ولايته تسليم الحكم لحكومة عسكرية برئاسة قائد الجيش ميشال عون وعضوية المجلس العسكري المكون من ستة أفراد مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، فكان أن رفض المسلمون هذا الأمر الواقع وإنسحب الضباط المسلمين من عضوية الحكومة لتبقى بأعضائها المسيحيين الثلاثة. وكان أن دخل لبنان مرحلة جديدة من حياته السياسية تمثلت بوجود حكومتين واحدة في الغربية برئاسة سليم الحص، وأخرى في الشرقية برئاسة عون وكل منهم يعتبر أنه الرئيس الشرعي.
بدأ عون بممارسة الحكم في المنطقة الشرقية تحت شعار أن لا سلطة فوق سلطة الدولة التي يمثلها، فكان أن إصطدم بالقوات اللبنانية عندما حاول إستعادة سلطته على المرافئ التي كانت تديرها في الوقت الذي لم يكن قادرا على بسط هذه السلطة في المنطقة الغربية، وكانت الأوضاع قد تطورت بالمنطقة بنهاية الحرب العراقية – الإيرانية لصالح العراق العدو اللدود للنظام السوري، فأعلن بدعم من نظام صدام حسين ما أسماه حرب التحرير ضد القوات السورية في لبنان، ودخل لبنان في أتون حرب جديدة كانت من أقسى الحروب التي شهدها نظرا لشراستها وللأسلحة المدمرة التي أستعملت بها والدمار الذي خلفته، والضحايا التي خلفتها وخاصة في صفوف المدنيين، وكانت النتيجة أن تدخلت الدول العربية وأدارت حوارا عبر لجنة سداسية تشكلت لهذا الغرض بين العماد عون والسوريين الذين لم يكونوا راضين بالمبدأ أصلا خاصة وأنهم باتوا في موقع ضعيف عربيا بعد إنتصار غريمهم صدام حسين، فكان أن أفشلوا الحوار بدعم من حلفائهم الداخليين خاصة وأن عون رفض مجرد البحث في قضية إنتخاب رئيس جديد للبلاد قبل خروج القوات السورية من لبنان وهو ما عقد الأمور أكثر ليجد عون نفسه في مأزق، وعلى عادة العسكريين في حال مشاكلهم بإختلاق مشكلة جديدة، عاد وإستدار صوب القوات اللبنانية ليخوض معها حرباً ضروس في المناطق الشرقية المسيحية لم تبق ولم تذر والتي دفعت الدول العربية للتدخل مجددا عبر لجنة ثلاثية دعت النواب اللبنانيين إلى مدينة الطائف السعودية وكان من الواضح أن هذه الخطوة كانت تحظى بدعم وغطاء دوليين وكان أن تم الإتفاق على وثيقة الوفاق الوطني التي رفضها عون ورفض الإلتزام بمقتضياتها خاصة وأنها لم تلحظ له موقعا مميزاً في السلطة الجديدة.

تم الإتفاق على إنتخاب رينيه معوض رئيسا للجمهورية فأعلن عون تمرده عليه وعدم إعترافه به ولا بسلطته، هو الذي أغتيل بعدها يوم عيد الإستقلال لينتخب إلياس الهراوي بديلا له، وإستمر عون في تمرده وبدأ يجمع الأنصار حوله مستعينا بخطاب وطني عن سلطة الدولة وتحرير البلد من الإحتلالين الإسرائيلي والسوري، وعن تفكيك سلطة الميليشيات وهو ما كانت الناس تتوق إليه بالفعل جراء ما عانته من التسلط والظلم من الميليشيات، ونجح نسبياً في ذلك حيث أسس لحالة شعبية وطنية مدعومة بقوة عسكرية كبيرة من الجيش اللبناني الذي أظهر ضباطه وأفراده شجاعة فائقة يوم 13 تشرين الأول عام 1990 عندما صدر القرار بتصفية حالة ميشال عون على وقع الوضع في الخليج بعد غزو العراق للكويت وبداية تشكيل تحالف دولي لتحريرها كانت سوريا من أوائل المشاركين فيه لتقبض الثمن في لبنان حيث أنهت حالة ميشال عون الذي لجأ للسفارة الفرنسية بطريقة ملتبسة لطلب التفاوض فالإستسلام تاركا ضباطه وجيشه والبعض يقول عائلته في مهب الخطر، وهو ما أدى إلى مجازر أرتكبت بحق الضباط والأفراد من الجيش اللبناني وبعضهم من أختطف وغيب قسريا حتى اليوم، فكان أن سقط الوهم الذي عاد للبعض عام 2005 عند عودة الجنرال من المنفى على دم الشهيد رفيق الحريري الذي قضى إغتيالا لأنه أراد لبنان حرا سيدا مستقلا عندما وجد أن الظرف الدولي يسمح له بهكذا خطوة وهي الأهداف نفسها التي “قاتل” لأجلها الجنرال سابقا ، فكان أن دفع الثمن ليأتي غيره وينقلب على كل تاريخه ويقبض هذا الثمن عبر تفاهمات قد تكون أوصلته إلى سدة الحكم ولكنها بالتأكيد لم توصل البلد إلى بر الأمان، ولن توصله.

ما الوضع الذي وصلنا إليه اليوم من إنهيار وصل حد الإفلاس على كل الصعد، إلا دليلاً ساطعاً لا يقبل الجدل أو المكابرة.

اقرأ أيضاً: أين مفقودي 13 تشرين؟

واليوم يحتفل البعض بيوم 13 تشرين على إعتبار أنه يوم إنتصار للإرادة الوطنية، متناسين أن منطلقات 13 تشرين أول 90 لا تتناسب أبدا مع ما نعيشه اليوم لا بل هي النقيض التام لكل ما حلمنا به من حرية وسيادة وإستقلال… كفانا أوهاماً وتدليساً على الناس. ولنعمل بجد ولو لمرة واحدة قبل فوات الأوان الذي لم يعد بعيداً، ولات ساعة مندم.

السابق
فيلم «الجوكر» يثير جدلاً عالمياً
التالي
Bint Jbeil: The Funeral of Nadine Jouni and Between Politics and Religious Institutions