صبرا وشاتيلا: الاستثمار في مستقبل الضحية

قدّمت إسرائيل في صبرا وشاتيلا نموذجاً ناجزاً للمجزرة الاستعمارية التي يستخدم فيها الاحتلال الأجنبي الصراعات المحلية لتكريس وجوده وسياساته.

دفعت إسرائيل في نهاية صيف 1982 الملتهب، أطرافاً أهلية («القوات اللبنانية» وعناصر ميليشيا سعد حداد) للدخول إلى المخيمين الفلسطينيين في بيروت للانتقام من اغتيال الرئيس المنتخب بشير الجميّل في 14 أيلول (سبتمبر) من ذلك العام. ثمة إجماع على المسؤولية القانونية والسياسية الإسرائيلية عن المجزرة بسبب وجود الجيش الإسرائيلي كقوة احتلال في المنطقة التي وقعت فيها الجريمة. حاول بعض القانونيين المؤيدين لإسرائيل التهرُّب من المسؤولية بالقول إن القوات الإسرائيلية لم تكن قد دخلت إلى الجزء الغربي من بيروت عند بدء أعمال القتل الجماعي. لذلك، لا تقع «الولاية القانونية» للمخيمين على سلطة الاحتلال. تكذيب هذا القول جاء من عشرات الشهادات الموثّقة عن مراكز مراقبة ورصد إسرائيلية في الجوار اللصيق بالمخيمين، وأن المسلحين الذين ارتكبوا المجزرة عبروا الحواجز الإسرائيلية بعتادهم الكامل وبآلياتهم، ما يلغي ذريعة الجهل ويؤكد التواطؤ والتنسيق الكاملين مع القتلة المنفذين.

دفعت الأجهزة والحكومات الإسرائيلية في مناسبات عدة، وعبر عملائها ووكلائها، إلى صدامات واقتتال فلسطيني– فلسطيني أو فلسطيني- عربي. ولم تكن بعيدة من جولات الحروب اللبنانية التي سبقت الاجتياح. لكن مجزرة صبرا وشاتيلا تمثل ذروة التدخل الكولونيالي -إذا صح التعبير- في صراعات محلية واستخدامها لغاياتها المباشرة. ستستمر إسرائيل بأداء دور المحرض– الساعي إلى الصلح في حرب الجبل (1983) حيث ستحدد للطرفين المتقاتلين الأمكنة التي يمكنهما التقاتل فيها وتلك الممنوعة عليهما. والأسلحة المسموح بها وتلك الممنوعة. بل إنها حددت ساعة اندلاع المواجهة الشاملة بين جانبي الصراع بالتزامن مع انسحاب قوات الاحتلال من الجبل.

إقرأ أيضاً: مجزرة صبرا وشاتيلا: لماذا تضحك اسرائيل اليوم؟

المرحلة الكولونيالية الإسرائيلية في لبنان تعرضت لنقد أوساط في اليسار الصهيوني لكونها تُناقض ما يراه الإسرائيليون فكرة مؤسسة لدولتهم ككيان يستظل اليهود به للحماية من العالم المعادي وليس كدولة استعمارية تحتل جيرانها. بيد أن الكولونيالية الإسرائيلية التي وصلت في لبنان إلى تنفيذ المجازر والإشراف عليها وإدارة الحروب الأهلية بعد زرع بذورها، كانت قد نشأت عملياً في زمن سابق مع النكبة والاضطرار إلى فرض حكم تمييزي بحق فلسطينيي الأراضي المحتلة في 1948. توسعت السياسة الاستعمارية مع احتلال الضفة الغربية وغزة والجولان (وسيناء بين 1967 و1982) واصبح الاستيطان والتحكُّم بمصائر السكان الواقعين تحت الاحتلال من مكونات السياسة اليومية الإسرائيلية، لتنتقل هذه السياسة من حيز التمييز العنصري والإداري إلى مستوى الإبادة في صبرا وشاتيلا والحرب الأهلية في الجبل.

العنف المفرط في التعامل مع المناطق المحتلة ظل حاضراً وبقوة في آليات الحكم الإسرائيلي حتى بعد نهاية الفصل اللبناني. سياسات تكسير العظام في الانتفاضة الأولى واستخدام الدبابات والطائرات المقاتلة في الانتفاضة الثانية وتسوية مخيم جنين بالأرض، على سبيل المثال، إضافة إلى الحروب على قطاع غزة بعد الانسحاب منه، تشير كلها إلى أن فكرة تحطيم القاعدة الشعبية للعدو من خلال القتل المعمم، ما زالت حاضرة كعنصر في العمل السياسي.

إقرأ أيضاً: مجازر صبرا وشاتيلا: هكذا قُتل الأبرياء قبل 35 عاما!

اللجوء إلى المجزرة كحل للصراعات وكتبرير للوجود، واحد من سمات القوى الكولونيالية التقليدية. إضفاء السمة الأهلية على القتل الجماعي، سمة ثانية تشكل استثماراً للمحتل في مستقبل الضحية. وهذا ما نشهده من استمرار السجال حول شخصيات تلك الفترة وأفعالها.

السابق
روكز يرد على الجراح: «أبو طاقية» و «أبو عجينة» تعاملا مع الإرهابيين والمسلحين
التالي
في قضية كاترين مزهر