رئاسة المحاكم الجعفرية اللبنانية بين ورع الفقهاء وحماس المعممين

المحكمة الشرعية الجعفرية
في الحقبة العثمانية أسندت الدولة العثمانية مهمة القضاء الجعفري للفقيه السيد محمد إبراهيم لتُعطيه سيفاً وتجيز له إجراء الحدود به في بلاد الشيعة في لبنان باسم السلطنة العثمانية.

وفي عصر دولة لبنان الكبير  تأسست للشيعة في لبنان محكمة استئناف شرعية عليا لأول مرة سنة 1926 فعرضت السلطة اللبنانية آنذاك على المرجع الديني الراحل الشيخ حسين مغنية رئاسة هذه المحكمة فرفضها، ولقد كان اختياره من قبل سلطة دولة لبنان الكبير يومها لهذا المنصب على أساس بروزه في بلاد الشيعة في لبنان يومها كمرجعية فقهية تعود إليه جل الشؤون الشرعية في الوسط الشيعي، وفي الوسط العاملي على وجه الخصوص وكان لا يشك أحد من علماء الدين الشيعة في لبنان والعالم يومها في فقاهته واجتهاد.

 ويوم تم تنظيم شؤون القضاء الشرعي الإسلامي الرسمي للمسلمين السنة والشيعة في لبنان سنة ،1962 قامت السلطة في الجمهورية اللبنانية الأولى بكسر الجدار الذي يفرضه الفقه الجعفري في صفات القاضي الشرعي لتقوم بتكليف الشيخ منير عسيران مهام رئاسة المحكمة الشرعية الجعفرية العليا الرسمية بالرغم من عدم اشتهاره ببلوغ رتبة الاجتهاد، لتفتح السلطة اللبنانية يومها الباب أمام تنصيب قضاة جعفريين من غير المجتهدين والفقهاء خلافاً للمجمع عليه في الفقه الجعفري بالنسبة لصفات القاضي.

اقرأ أيضاً: ملف المحاكم الشرعية الجعفرية(2): لإلغاء المكاتب الشرعية

وخَلَفَ الشيخ يوسف الفقيه صاحب كتاب: “الأحوال الشخصية” الذي كان معروفاً بالاجتهاد الشيخ منير عسيران في تولي منصب القضاء الديني الأعلى الجعفري هذا لتعود الأمور إلى نصابها الطبيعي بحسب المبنى الفقهي الاجتهادي المقرر في المذهب الفقهي الإمامي بالنسبة لمن ينبغي أن تُسند إليه مهمة الحكم القضائي في المنازعات والخصومات، وقد شهدت المحاكم الشرعية الجعفرية الرسمية المنتشرة في مختلف المناطق اللبنانية في هذه الحقبة تصدي مجموعة من الفقهاء المجتهدين من علماء الدين الشيعة لهذه المهمة عُرف منهم الشيخ حسين زغيب والشيخ محمد جواد مغنية والسيد هاشم معروف الحسني والشيخ عبد الله نعمة، ويطول المقام بعرض خصوصياتهم العلمية والفقهية والعملية وتاريخهم الحافل بالمآثر، ويومها كانوا يكرهون على القبول بمنصب القضاء ولم يكن الإمام أبو حنيفة إمام الحنفية بأقل تقوىً منهم حيث سجن وأكره ليقبل بمنصب القضاء الشرعي كقاضٍ للقضاة بعد أن كان قد رفض هذا المنصب  مراراً وتكراراً.

 لكن ما الذي آلت إليه حال المحاكم الشرعية الجعفرية الرسمية في زماننا ؟

بعد أن كان الفقهاء والمجتهدون يفرون من الفتيا ومن منصب القضاء صار بعض المعممين المعاصرين غير المعروفين بالاجتهاد والفقاهة هم قضاة العصر في محاكم الشيعة، فلا يوجد في صفوفهم اليوم مجتهد واحد، وغدت تتزاحم أقدام بعض المعممين المعاصرين على أبواب السياسيين ليقبلوا بهم قضاة في محاكم الدولة!

وهذه الظاهرة لا تعتبر ظاهرة صحيحة وصحية في الوسط الديني الشيعي، وهي تخالف المألوف من تقوى وورع علمائهم عبر التاريخ !

 فما الذي عدا ما بدا؟ الحقيقة التي ينبغي التسليم بها في هذا الزمن هي في كون أكثر المعممين المعاصرين هم صنيعة التيارات السياسية وقليل منهم بعيد عن الأهواء السياسية  فهؤلاء ينظرون إلى منصب القضاء من الناحية المادية ومن ناحية السلطة والنفوذ والوجاهة والمنزلة الدنيوية، في حين التقوى والورع يفرضان على العالم الديني الزهد في هذا الموقع لقول أمير المؤمنين عليه السلام: “القاضي إما نبي أو وصي أو شقي”.. ولا نريد أن نسرد كيف وصل قضاة المحاكم الحاليين سواء المذهبية أو المدنية أو الجنائية.. فالتدخلات السياسية هي سيدة الموقف!

اقرأ أيضاً: رئاسة المحاكم الجعفرية ودكتوراه القضاء

واليوم أمام الشغور في رئاسة المحاكم الشرعية الجعفرية العليا وأمام تقاعد مجموعة من القضاة هناك فرصة حقيقة لعودة الأمور إلى نصابها من جديد باشتراط أن يكون مجازاً في الاجتهاد ومعروفاً بالفقاهة كلُّ من يريد النهوض بمهمة الحكم القضائي خصوصاً في رئاسة المحاكم ، فهل ستشهد المحاكم الشرعية الجعفرية في لبنان حركة تصحيحية وإصلاحية؟

عصمنا الله من الزلل وفقنا لخير العلم والعمل…

السابق
«زواج المتعة» حلال.. ولكن مع الأخذ بآدابه وأحكامه الشرعية
التالي
حبيب هيفا وهبي يهاجم مشروع ليلى والمثليين وجمهورها يطالبها بالابتعاد عنه!