ترامب ومؤسسات الدولة العميقة

ترامب

مصطلح «الدولة العميقة» الذي انتشر استخدامه مؤخراً للتعبير عن دور «مراكز القوى» في عدة بلدان، ليس بالضرورة توصيفاً لحال سيئ الآن في الولايات المتحدة الأميركية. فالدولة العميقة في أميركا هي الأجهزة الأمنية المختلفة، وهي مؤسسة وزارة الدفاع، وهي الخبراء في وزارة الخارجية وفي البنك المركزي وفي السلك القضائي، إضافة طبعاً إلى بعض معاهد الفكر والأبحاث وقوى الضغط داخل مجلسي الكونغرس. ولا تخلو فترة أي رئيس أميركي من مواجهة، ولو محدودة، مع جزء من قوى «الدولة العميقة الأميركية».

لقد بدأ الرئيس ترامب عهده بانتقاد شديد لمكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي)، وأقال مديره بسبب التحقيقات حول الدور الروسي في انتخابات الرئاسة عام 2016، ثمّ مؤخراً أقال ترامب وزير العدل جيف سيشن لأن الوزير لم يضغط لوقف التحقيقات.

وشهد النصف الأول من عهد ترامب أكثر من 50 استقالة أو إقالة لأشخاص كانوا يعملون في إدارته أو داخل البيت الأبيض، وآخرهم كان وزير الدفاع جيم ماتيس الذي أوضح في رسالة استقالته مدى خلافه مع سياسات ترامب الخارجية. وقد انتقد ترامب مؤخراً البنك المركزي بسبب رفع سعر الفائدة محمّلاً رئيس البنك مسؤولية تدهور أرقام بورصة نيويورك.

اقرأ أيضاً: الانسحاب الأميركي من سوريا ليس انتصارا لإيران

وربما من المهم أيضاً تذكر انتقادات ترامب حينما تولّى الرئاسة لوزارة الخارجية ودعوته لتقليص حجمها، ثمّ لخلافه مع عدد من القضاة حول قراره بحظر السفر لأميركا من عدة دول إسلامية، ولحملاته المستمرة ضد الإعلام الأميركي متهماً إياه بأنه عدو الشعب! بل إن بعض أركان الحزب الجمهوري الذي يمثّله في الحكم لم يسلموا من انتقادات ترامب وهجومه على كل من لا يوافق على أجندته.

إنّ قرار ترامب سحب القوات الأميركية من سوريا الآن قد يكون مقدمة لتصعيد عسكري إسرائيلي في المنطقة يدعمه ترامب ولكن لا يريد أن تكون القوات الأميركية هدفاً يسهل ضربه على الأراضي السورية.

ولا نعلم بعد ماذا يخبئ ترامب من مفاجآت في سياسته الخارجية خلال الشهرين القادمين، إذ هو بحاجة إلى حدث خارجي كبير يُهمّش ما يحصل داخل الولايات المتحدة من تصاعد في التحقيقات مع حملته الانتخابية وليستبق ما قد يقوم به الحزب الديمقراطي بعد فوزه بغالبية أعضاء مجلس النواب.

لقد تحدّث ترامب عن «أميركا أوّلاً» بينما ما يمارسه من سياسة خارجية أدّت وتؤدي إلى عزلة الولايات المتحدة دولياً حتى مع حلفاء تاريخيين لأميركا. وهناك أضرار تتحصّل الآن على المصالح الأميركية جرّاء هذه السياسة «الترامبية».

إنّ شعار «أميركا أولاً» الذي رفعه ترامب في حملته الانتخابية، وكرّره ويكرّره في أكثر من مناسبة، يتطلّب على المستوى الداخلي رئيساً يحرص على التعدّد الإثني والعرقي في المجتمع الأميركي، وترامب صرّح وتصرّف عكس ذلك مع الأميركيين الأفارقة والمهاجرين اللاتينيين.

والمصلحة القومية الأميركية تفترض وجود رئيس في «البيت الأبيض» يعمل لصالح الفئات الفقيرة والمتوسّطة من الأميركيين، وترامب خدم ويخدم الفئة القليلة من الأثرياء في الكثير من مراسيمه الرئاسية وقوانين الكونغرس «الجمهوري»، وما يتّصل بها من مسائل الصحّة والهجرة والضرائب والضمانات الاجتماعية.

لقد فشلت إدارة ترامب في تعديل قانون الرعاية الصحية الذي أقرّته إدارة أوباما، وفشلت حتى الآن في وضع قانونٍ للهجرة وفي بتِّ موضوع المهاجرين غير الشرعيين المولودين في أميركا، لكن إدارة ترامب نجحت في وضع قانونٍ جديد للضرائب يصفه الكثير من المعلقين بأنه جاء لصالح الشركات الكبرى والأثرياء وليس لصالح الطبقة الوسطى والفقراء.

وهذا الفشل أو التعثّر لأجندة ترامب على المستوى الداخلي ترافقه التحقيقات بشأن دور روسيا في الانتخابات الماضية، وما جرى كشفه أيضاً عن علاقاتٍ مشبوهة قام بها ترامب قبل وصوله للبيت الأبيض، وهما قضيتان تشكّلان عنصر ضغطٍ يومياً على الرئيس ترامب شخصياً وعلى إدارته، ولهما تبعات قانونية وسياسية في المستقبل القريب.

الحال هو نفسه على مستوى السياسة الخارجية الأميركية، حيث أخرج ترامب الولايات المتحدة من اتفاقيات دولية وهدّد بالخروج من المزيد منها، وهي اتفاقيات تحقّق مصالح قومية أميركية مع جيرانها الكنديين والمكسيكيين ومع الحلفاء الأوروبيين ودول أخرى في آسيا. وأين «أميركا أولاً» في تزايد مشاعر الغضب لدى شعوب دول العالم تجاه السياسة الأميركية ورمزها في البيت الأبيض؟!

وأين كانت «المصالح القومية الأميركية» في قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، وهو قرار يتناقض مع قرارات دولية صادرة عن مجلس الأمن ومع سياسة أميركية سار عليها كل من سبقه من رؤساء أميركيين؟!

ولعلّ ما سبق ذكره يُعزّز المخاوف من أن يُقدِم ترامب على افتعال أزماتٍ دولية، أو ربما تورّط عسكري كبير في حروبٍ جديدة، لتغطية ما يحدث من تعثّر وفشل داخلي، ولكي تستعيد إدارته بعضاً من الثقة والتأييد وسط الرأي العام الأميركي. وهذا أسلوبٌ مارسته إدارات أميركية مختلفة حينما كانت تتعثّر أجنداتها الداخلية أو حينما تكون في مأزقٍ سياسي شديد، باعتبار أن الأميركيين يقفون مع رئيسهم، ظالماً أو مظلوماً، حينما تخوض واشنطن حروباً خارجية!

السابق
ثنائية الدولة – الدويلة أمام الحقيقة اللبنانية القاتلة
التالي
كيف احتل الخليج مركز الثِّقل العربي المعاصر في كتاب عبد الخالق عبد الله