اليسار في دوامة الازمة (2)

اليسار " الممانع والسيادي " في الموقع الملتبس ،صمام أمان للطبقة الحاكمة .

طرحنا في الحلقة السابقة ابرز المعالم الفكرية والبرنامجية لازمة اليسار ،في هذه الحلقة نطرح أبرز تجليات هذه الازمة الشاملة على الصعيد السياسي  .

يبدو ميزان القوى العام في البلاد منذ مدة طويلة طائفيا شبه صاف ، ذلك ان الصراع السياسي ، قوى وتحالفات ، وتوجهات سياسية يدور ضمن نطاق يعجز حتى الآن عن توليد استقطابات سياسية – شعبية واسعة ووازنة من خارج المواقع الطائفية.

إقرأ ايضًا: اليسار في دوامة الأزمة: ليس بهذه العدة يتم تجديد اليسار

ثمة تياران يستقطبان المشهد اليساري ، وهما تيار اليسار الممانع وتيار اليسار السيادي  ، وهما تياران يعبران عن خيارين سياسيين مختلفين، وهناك اتجاه سياسي ثالث تمثله منظمة العمل الشيوعي في لبنان  ، التي تحاول ان تميز نفسها بنسبة او بأخرى عن التيارين الأولين .

 

ولئن كان لأي من هذه القوى ازمته المخصوصة به  ،  والتي  انحفرت عميقا في ثنايا صورته ،  فان النقاش اليساري لم يشهد حتى الآن تنافسا بين هويتين فكريتين او بين برنامجين ، بل ان الواقع العملي يشير إلى  توزع تياري اليسار ألممانع والسيادي بشكل او بآخر   بين  ضفتي الانقسام السياسي – الطائفي -الشعبي السائد .

 

في ظل المرحلة السياسية التي نعيشها اليوم ، كما في ظل سائر  مراحل الازمة اللبنانية المستمرة  ، ما زال محور الصراع السياسي يدور بشكل أساسي أيا كانت الشعارات السياسية الملموسة  التي يتخذها شكل الصراع في كل مرحلة  ، حول بعدين مترابطين للأزمة اللبنانية ،بعدها الوطني والقومي من جهة (السيادة والاستقلال والانتماء القومي )وبعدها الديمقراطي من جهة أخرى (الإصلاح السياسي  الديموقراطي )

وتدل التطورات في غير مرة   ، إلى مدى خطورة الانشقاق الحاصل بين هذين البعدين، فبحجة المسألة الوطنية والقومية ، يجري التستر على نهج كامل من  الوصاية والاستتباع والاستبداد ، وباسم تحقيق الديمقراطية  ، يجري استدراج كل صنوف التدخل الخارجي ، وإذا كان من مهمة فكرية سياسية  أولى لليسار  ، فهي مهمة تأكيد الترابط بين هذين البعدين ، وتجاوز هذا الانشقاق الحاصل  بينهما .

السؤال الذي يطرح نفسه هنا  : هل يصدر اليسار في ممارسته السياسية عن مواقف  تتجاوز هذه المعادلة  ، و عن موقع مستقل عن طرفي المعادلة الطائفية ، وعن  محوري الصراع الإقليمي ؟.

اليسار السيادي التحق باحدى ضفتي الانقسام السياسي-  الطائفي تحت عنوان إيلاء الأولوية المطلقة لمسألة السيادة والاستقلال ، وفصلها عن سائر أبعادها الوطنية والقومية، وصاغ في ضوء ذلك تحالفا سياسيا مع قوى تتفق معه على رفض استتباع لبنان للسياسة السورية ، وتختلف معه على ماعدا ذلك ،مع العلم ان هذا المقياس يستخدم من قبل فريقي الانقسام الطائفي في البلد كمعيار ملتبس،  فضلا عن ان هذا المقياس لا يكفي وحده لرسم سياسة على كل الصعد ، كما لا يكفي وحده لرسم تحالف مؤقت ، خصوصا أن هذه السياسة وهذا التحالف يندرجان في خانة الانخراط في معادلة الصراع الطائفي .

 

ليس  هذا فحسب ، بل ان هذا الفريق يخوض معركة السيادة والاستقلال في مواجهة سوريا وحدها، ودون غيرها من تدخل أجنبي ، لا بل هو  يمضي في هذا الشعار حتى إدارة الظهر للقضية الوطنية والقومية وصولاالى حدود استدراج التدخل الأجنبي ، وكشف الساحة اللبنانية امام استئناف التلاعب الاميركي والحاقها باستراتيجيته، ناهيك عن انه يقذف مطلب استعادة سيادة الدولة من الداخل ، في مواجهة حزب الله وحده ، من دون سائر اشكال واطراف اقتسام سيادة الدولة.

 

في المقلب الاخر . حاول الحزب الشيوعي ان ينأى بنفسه عن طرفي المعادلة الطائفية الداخلية ، وعن محوري الصراع الاقليمي ، تحت عنوان شعاره الأثير “الخيار الثالث ”  ، غير أن هذا الخيار تحول في الممارسة ، وفي الواقع ،   ومنذ مدة طويلة  ، رديفا للموقف السوري ، ولبعض اجنحة السلطة  .

ان عطل “الخيار الثالث” يكمن بالضبط ، في ممارسة سياسية واداء سياسي ملتبس ،   تبدى هذا الالتباس  في ان مواقف الحزب ليست في موقع التمايز الفعلي عن الموقف السوري حيال الكثير من  قضايا الداخل اللبناني ، وحيال الازمة السوريةالمندلعة ،  وبحيث تحول واقع الوصاية السورية على لبنان و دورها في  تعطيل سبل التطور الديمقراطي للبلد خلال مرحلة الوصاية في خطاب الحزب  ووثائقه ، الى  مجرد شوائب في مسار العلاقات اللبنانية السورية  يجب إزالتها.

كما تبدى هذا الالتباس في موقف الحزب المنحاز ضدالاستقطاب الاذاري المعادي لسوريا  ،  واذا كان صحيحا ان يتمايز موقف الحزب عن الاستقطاب المعادي لسوريا ، فان الصحيح ان التميز يجب ان يكون عن سائر الطائفيين اللبنانيين  ،  وعدم التمسك بالمهادنة  مع حلفاء سوريا في استقطاب 8 اذار  ، واللهاث وراء الانخراط في التحالف معهم في سائر الاستحقاقات النيابية والبلدية، وفي الكثير من الاستحقاقات الانتخابية في غير مجال قطاعي ومهني ونقابي . هذا  ناهيك عن المهادنة مع سياسة حزب الله على حساب السيادة الوطنية اللبنانية ،  وعلى حساب الموقع اليساري المستقل عن القوى الطائفية…

في ظل هذه الالتباسات ،  ليس من قبيل مجانبة الحقيقة القول ان  موقف الحزب اقرب الى الالتحاق بالموقف السوري ، الذي كان هو وحلفاؤه وراء هزيمةالمشروع الوطني ، وتصفية تجربة جبهة  المقاومة الوطنية اللبنانية التي شكلت نموذجا حيا  في نهج  المواجهة مع الإمبريالية والصهيونية يتجاوز نهج الممانعة .

وليس  من قبيل مجانبةالحقيقة القول ،  ان جانبا أساسيا من أزمة الحزب ، يكمن في نزوله عند احكام نهج السياسة السورية التي فرضت  على كل قوى التغيير ارجاء برامجها التغبيرية ، على قاعدة ان لا صوت يعلو صوت نهج الممانعة  ،  ولا برامج تتجاوز برنامجها ، واعتباراتها ، وايقاعها.

 

هكذا انكشفت سياسة الحزب منذ الطائف عن نهج ينطوي على رغبة دفينة  في  الدخول إلى السلطة ، واللهاث  وراء سراب المشاركة فيها، مثلما انكشفت عن تجريبية مفرطة اوقعته في مأزق توالت  موجاته على غير انقطاع ، تخبطا وارتباكا في السياسات ، والمواقف ، والتحالفات المتناقضة و الفوقية ، وهي تحالفات لا ينتظمها خط سياسي يراكم في اتجاه تعزيز الموقع المعارض الحقيقي ، موقع المعارضة الديمقراطية الشعبية.

 

أضف إلى ذلك أن الحزب كان يمارس في الحقيقة تخليا إلى هذا الحد او ذاك عن الانخراط في دائرة صراع سياسي قاعدي شعبي يشكل منطلق ومرتكز أي موقع سياسي معارض مستقل عن أطراف السلطة و اجنحتها، ويندرج ضمن اولوية هدف بناء نقيض وطني ديمقراطي للنظام الطائفي ،  و  عبر مسار متراكم وتحالفات مشدودة إلى هذه المهمة.

ويكتمل مشهد الالتباس في مواقف الحزب ، حيال الازمة السورية ، عبر الموقف الذي يتستر على  الخطرالداخلي المتمثل  في نظام الاستبداد الذي دمر المصير الوطني برمته .

أن  القول بان الخطر الداخلي يكمن في الاستبداد ، لا يعني إلغاء وتغييب مخاطر الصهيونية والاستعمار  ، ولا مخاطر القوى الخارجية  الجاهزة دوما للتدخل، اوالاستدراج ، ولا هو يلغي حجم استثمارها ودورها الحاسم والواسع في  الازمة السورية تنفيذا لمخططاتها ومصالحها  .

 

الا ان هذا التدخل لم يكن بفعل إرادة الخارج وحده، بل بفعل إرادة النظام والقوى التكفيرية ، وغالب قوى المعارضة الأخرى على حد سواء  .

أن مقاربة الأزمة السورية ، من مدخل تسليط الضوء على الخارج فقط ،  والتستر على العطل الداخلي ، و عدم العمل على ابراز مسؤوليته الاساسية عن الازمة  ، وعن استدراج كل صنوف التدخل الاجنبي ،  الذي كان يمكن أن يتحول الى  محاولات معزولة تفتقد إلى أي مرتكز داخلي ،  لولا وجود هذا العطل الداخلي  ، ان هذه المقاربة لا يمكن أن تؤسس لموقف يساري يرى في البديل الديمقراطي الحل الوحيد لكل انظمة الاستبداد .

 

اليسار السيادي ، والحزب الشيوعي اللبناني ارتكبا كلاهما الخطأ ذاته، وأن بوجهين معكوسين ،وهو الخطأ الذي طالما ارتكبه اليساريون والقوميون،  خطأ فصل البعد الديمقراطي عن البعد الوطني والقومي .

 

في منعطف اثر آخر،ومنذ مدة طويلة،يضيع اليسار بتياريه الممانع والسيادي، فرصة الاسهام في المعركة السياسية،من موقع ديمقراطي مستقل، هو لم يتنكب دورا رياديا لا دور لاي قوة يسارية من دونه،انه دور النهوض بمسؤولية توليد استقطاب سياسي شعبي من خارج المعادلة الطائفية، وبالاستقلال عن المحاور الإقليمية،  استقطاب يوحد الاف اليساريين والديمقراطيين  ومعهم كل القوى ،والهيئات ، والتجمعات ، والاطر اللاطا ئفية المنتشرين في كل طوائف لبنان ومناطقه وقطاعاته ، ويدفع الى قلب الحركة السياسية الاف الديمقراطيين  والوطنيين من أربع  جهات لبنان .

 

استقطاب سياسي – شعبي يتمحوراليوم حول استعادة الدولة ، وتشغيل المؤسسات وفق الدستور ،وإعادة الحياة الى العملية الديمقراطية بكل أبعادها  ، واستكمال المؤسسات والهيئات التي نص عليها الدستور ،  وتفعيل دور هيئات الرقابة والتفتيش والمحاسبة ، وتعزيز استقلال القضاء ،  واعتمادسياسة اقتصادية – اجتماعية تقوم على النهوض بالاقتصاد الوطني ، وعلى الاستجابة للمطالب المعيشية والاجتماعية للفئات الشعبية.

إقرأ ايضًا:

من دون شك ان المنعطف اللبناني الراهن يؤكد مرة جديدة  ، انه لا بديل من دور يساري ديمقراطي حقيقي ، وإذا كان اليسار حاجة موضوعية في أي بلد ، فإن الحاجة إليه في بلدنا مضاعفة ، في ظل واقع البنية المجتمعية اللبنانية ، وحقائق الانقسامات الطائفية والمذهبية في إطار هذه البنية، وهو الى ذلك كله يشكل اليوم أكثر من أي وقت مضى في ظل تجدد واحتدام التجاذب الدولي والإقليمي حول لبنان ، وفي ظل احتدام الصراع الطائفي والمذهبي ذي البعد الاقليمي والدولي ، والذي يرمي في وجه اللبنانيين تحديات كثيرة يطول تعدادها  ، سواء حيال الدستور واحترامه و احترام الاستحقاقات الانتخابية ، أو حول واقع ارجحية قوة داخلية ، تمعن بفعل هذه الارجحية ، في سياسة فرض منطق الغلبة في المعادلة الطائفية العامة ، وفي معادلة السلطة .

 

للموضوع تتمة في الحلقة القادمة  والأخيرة   :  لا بديل من تجديد اليسار

 

السابق
داعش… بين مسرحيات الاستسلام وخطر الذئاب المنفردة
التالي
الحلبي لـ«جنوبية»: الـmtv منحت الهواء لحلفاء البراميل وسأتقدم بدعوى ضد زهران